مقاربة تستشرف واقع النشر والإعلام الجهوي في ارتباطه بالجهوية المتقدمة : جهة فاس مكناس نموذجا

لاشك أن ميلاد الجهوية المتقدمة، فرض واقعا تنمويا جديدا من أهم تجلياته البحث عن مصادر تمويل المشاريع بجهة فاس مكناس، سيما وأن ذلك يعتبر تحديا كبيرا أمام التنمية البشرية بالمملكة عموما وعلى صعيد الجهة على نحو خاص. ليس لأن الجهوية المتقدمة تطرح إشكالية كبرى وهي الاستقلال المالي عن المركز وتفرض نمطا جديدا في ما يتعلق بثقافة وحقوق الإنسان في ظل تنافسية ورهان تنموي حقيقي، فحسب، وإنما في كيفية تصريفها للتدبير التشاركي للشأن العام الجهوي الذي أصبح من صميم الجهوية المتقدمة، ومن أقوى التحديات لبناء إدارة جهوية فاعلة ومنفتحة على محيطها وكذا التخطيط للمجال الترابي في التقائية تامة ومنسجمة مع السياسات العمومية.
من هنا كان لابد للإعلام الجهوي كقطاع حيوي فاعل ومنتج أن يواكب بمهنية، أن يتحرى، يكشف، يعري يستقصي وينشر التفاصيل، ويطلع الرأي العام على مضمون تحقيقاته وأخباره دون مساحيق. وضمن خط تحريري ثقافي شامل ينطلق من قناعة كبرى، هي أن الإعلام ملكية عمومية، تقدم خدمة إعلامية للجمهور، تحترم حقه في الخبر وفي الثقافة والفن وفي نشر مفاهيم وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية والحداثة والترفيه الراقي، إعلام حداثي يسعى جاهدا إلى احترام ذكاء الناس، والالتزام بأخلاقيات مهنة الصحافة، والابتعاد عن الإثارة أو نشر الأخبار الزائفة أو القيام بالتضليل الإعلامي وفي ذلك غاياته وأهدافه السامية في تخليق الحياة العامة وترصيد المنتوج المجتمعي.
لكن هل تسنى للإعلام بجهة فاس مكناس القيام بوظيفته على الوجه الأكمل؟ وكيف باشر أدواره في التنوير والإخبار ومامدى استقلاليته عن مكر السلطة ودهائها ؟ وما مصداقية ما ينشره لدى الجماهير المحلية؟ وهل مارس مهنته وفق أخلاقياتها كما ينص على ذلك القانون؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كثير لابد من وقفة تأملية في واقع الإعلام والنشر بالجهة؟
في التشخيص الإجرائي الأولي لواقع الإعلام والنشر ورجال الصحافة الفاعلين في مجاله في ارتباطه بالجهوية المتقدمة على صعيد جهة فاس مكناس، يعثر الباحث على تصنيف ثلاثي الأضلاع يمكن الاقتناع به لأول وهلة، لكن على درجة كبيرة من الصدق والواقعية: الفئة الأولى من الممارسين يمكن تسميتها بالصحافة المهنية، وهي فئة من رجال الصحافة والإعلام على مستوى عال من الكفاءة المهنية، تلقت تكوينا علميا وأكاديميا، وتوجت مسارها المهني بشهادات من معاهد متخصصة تؤكد كفاءتها وخبرتها في الميدان عبر إنجازها لتقارير إخبارية واستطلاعات وروبورتاجات صحفية جريئة، لاتحابي أحدا ولا تخشى في قول الحق لومة لائم، وهي اليوم تمارس مهامها الصحفية بأخلاقيات مهنية وفق ما يخوله لها القانون وميثاق الشرف المهني سواء ضمن هيئة تحرير مركزية أو داخل المكاتب الجهوية للمنابر الإعلامية التي تمثلها …
الفئة الثانية من الممارسين نتصورها فئة تشبعت العمل الإعلامي والصحفي من خلال الممارسة السياسية والعمل النقابي بمفهومه النضالي، وتمرست على النقاش والتفاوض وإنجاز التقارير ضمن أنساق التكوين الحزبي النضالي انطلاقا من انتمائها العضوي لأحزاب سياسية وطنية شكلت لفترة مضت مدارس حقيقية للتكوين على المبادئ الحقوق والحريات والديمقراطية. ولعل ما ساعد على اشتداد عودها وصلابته معايشتها لفترات محددة من تاريخ المغرب اتسمت بالقسوة والتنكيل لكل معارض للخطاب ألرسمي أو ما يعرف بسنوات الرصاص. انطلاقا من هيمنة وزارة الداخلية وهندستها للمجال الإعلامي واحتكارها لكل السلطات فيه، ويمكن اعتبار بداية مرحلة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات حتى بداية الألفية الثانية الإطار التاريخي للمرحلة. ونستهدف هنا تحديدا إعلاميي وكوادر الأحزاب السياسية كحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ولسان حاله جريدة المحرر والاتحاد الاشتراكي فيما بعد، أو حزب الاستقلال ولسان حاله جريدة العلم مع هامش لأحزاب صغيرة محسوبة على اليسار السياسي هذه المدارس السياسية المنصهرة بالحس الوطني أنجبت أقلاما وروادا وعبدت طريقا دمويا في مجال الصحافة والإعلام، ارتبط بالسجن والطرد والقهر ألاجتماعي والأمثلة كثيرة في هذا السياق .
الفئة الثالثة هي فئة متطاولة هشة بامتياز، ومتطفلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد وجدت في الفوضى التي يعيشها قطاع النشر والإعلام فرصة ملائمة للاقتحام والبحث عن موطئ قدم لاستنبات التجربة، مثلما يفعل البائع المتجول حين يحتل زاوية ما في الشارع العام ويعرض بضاعته،ومع الزمن يصبح معلوما لدى السلطات المحلية ومعترفا بوجوده بعد ما تم تحفيظ المكان باسمه، يتعلق الأمر بفئة مندفعة وطائشة متهورة، وتمتلك جرأة الدفاع والصمود ضد كل الأعراف والثوابت الجاري بها العمل، فضلا عن كونها لا تعترف بالقوانين إلا حين تخدم أهدافها وتطلعاتها المخالفة للسياق، فئة فكرت ودبرت وأنجزت وخططت وراكمت ورسمت لنفسها مسارا خارج السياق المهني المطلوب، فهذا صحفي بلا خط تحريري متعدد المنابر والقفزات، وذاك مدير جريدة ورئيس تحرير حتى لو لم تصدر بعد، وذاك صحفي ورئيس تحرير ببطاقة بخطوط خضراء وحمراء .. وذاك إعلامي متخصص في العلاقات بين الذوات والمحاكم وكل بثمنه .. بعيدا عن أي انتماء، أو تكوين أو خبرة صحفية حقيقية، اللهم في تكريس صناعة صحفية تعتمد نشر ركام من الأخبار الفجائعية التي يتم اختصارها بين حوادث السير والانتحارات أو الاعتداءات الجنسية في أحسن الأحوال.
وكان لهذه الفئة ما أرادت، فحققت أهدافها التي رسمتها لنفسها، حيث حجزت لنفسها المقاعد الأولى في الأوساط والتجمعات الرسمية، وباشرت التقاط الصور الملونة مع كوادر الدولة بتفاخر، وخلدت الأثر مع القائد والبرلماني العامل والوالي والوزير السياسي بزهو خادع، فيما ظلت السلطات الوصية قابعة تراقب الوضع عن كثب، مثلما ينتظر الأسد فريسته، في شبه المتفرج المتلذذ الذي ينتظر الفرصة المواتية للانقضاض، لقد وجدت نفسها عالقة بمكر بين هذه المنصات الإعلامية المتحركة كفقاعات للواجهة، متشبثة بتلابيبها غير قادرة على الابتعاد عنها ومجبرة على الاقتراب منها بهدف التلميع، بل ساعدتها بتوفير الحماية الصامتة لانزلاقاتها، وفي بعض الأحيان سهلت مأموريتها في الارتماء في أحضان مهنة النشر والإعلام دون ترحيب واضح وبفضول عارم، حتى وهي تدرك فراغها من كل نبض مجتمعي. وباقتضاب شديد، فإن الأمر يتعلق بعملية اقتحام مخدومة، ثم توغل متحكم فيه، أعقبه إعجاب حذر ثم تثبيت للوضعية في الدوائر الرسمية من جماعات قروية وحضرية وعمالة وولاية ثم انتماء بالعطف، وأخيرا تكريس للوضع بالتطبيل والاسترزاق، لتزدهر فوضى المجال وتتناسل الخيبات، وتتخصب الانحدارات لتصل إلى الحضيض الإعلامي الذي عليه الجهة الآن.
يتبع


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 12/11/2018

أخبار مرتبطة

“ناقشت الطالبة الباحثة فاطمة الزهراء الأمراني أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب أمام لجنة أساتذة و خبراء تتكون من محمد

  افتتح الكاتب والصحفي المصري كرم جبر رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، فعاليات الدورة الـ 58 للصحفيين الأفارقة، بالتعبير عن

يخلد 21 أبريل من كل سنة يوم الإعلام العربي بموجب القرار الصادر عن الدورة 46 لمجلس وزراء الإعلام العرب، وذلك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *