ملاحظات الفقيد عبد الرحيم بوعبيد على نص«عريضة 11 يناير»

يخلد الشعب المغربي، ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير، يومه الجمعة، الذكرى الخامسة والسبعين لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي تعد تجسيدا لسمو الوعي الوطني، وتكريسا لقوة التحام العرش بالشعب، دفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية، مع استشراف آفاق المستقبل. فيما يلي ملاحظات الفقيد عبد الرحيم بوعبيد حول نص الوثيقة

لقد كان نص عريضة 11 يناير في نهاية الأمر، وبالصيغة التي نشر بها، تسوية تمخضت عن مختلف المفاوضات التي جرت بين قيادة الحزب الوطني والشخصيات المستقلة. كان هناك في البداية مشروعان أو ثلاثة مشاريع، حرصت على إبراز الكيان المغربي باعتباره دولة ذات سيادة، معترفا به من طرف مجموع المجتمع الدولي. ثم التحريف الذي تعرضت له معاهدة 1912 في التطبيق، الشيء الذي مكن الإدارة الفرنسية من الحكم بدلا من المؤسسات الوطنية. وقد حصص حيز واسع في هذه المشاريع للمقاومة المسلحة للتغلغل الاستعماري، منذ سنة 1912 الي سنة 1934 الخ.
وفي الأخير تمت المصادقة على نص مختصر، ومكثف، وهذا النص، كما يمكن أن نتبين، يحمل من الناحية الشكلية، بل حتى من ناحية المضمون طابع التصور الذي يغلب عليه الطابع القانوني. فهو اشبه بنوع من المحاكمة، أو الحكم الصادر عن هيئة قضائية، بحيثياته ومنطوقه. ولم تكن العريضةفي نظر العديد من المناضلين، تحفة رائعة في الوضوح.
إن تحليلا سريعا لهذا النص، الذي أصبح نصا تاريخيا، يسمح بإبراز النقط التالية:
إن حزب الاستقلال هو منظمة سياسية جديدة تضم الحزب الوطني وشخصيات مستقلة من مختلف الاتجاهات، اما الحركة القومية لبلحسن الوزاني، التي رفضت الدعوة التي وجهت اليها فانها لا توجد ضمن هذا التجمع.
بعد ذلك تأتي الحيثيات وعددها عشرة، والتي تشكل الأسباب التي تدفع حزب الاستقلال الى المطالبة بالاستقلال. أربعة، فقط، من هذه الحيثيات تحرص على التذكير بإيجاز شديد، ولكن بشكل غير كاف، بأن الحماية أخلت بمهمتها وتحولت إلى نظام للإدارة المباشرة، أما الأسباب الأخرى، فإنها تسجل من جهة المجهود الحربي الذي بذله المغرب إلى جانب الحلفاء، ومن جهة أخرى التزام هؤلاء بتلبية تطلعات هذه الشعوب إلى حكم نفسها بنفسها، وذلك بمنحهم الاستقلال لشعوب إسلامية، “منها ما هو دون شعبنا في ماضيه وحاضره”،وهذا المبرر، التاسع، لم يكن يبدو مناسبا ولا وثيق الصلة بالموضوع، لأنه كان يكرس نوعا من التصور الاستعماري الذي كان يؤكد أن حق الشعوب في تقرير مصيرها مشروط بمستوى معين من النضج السياسي أو الثقافي. ومع ذلك فقد احتفظ بهذا المبرر، على الرغم من الاعتراضات المقدمة.
وأخيرا هناك قرارات العريضة التي تنقسم الى جزئين:
1 ­ فيما يتعلق بالسياسة العامة: يطالب الموقعون على البيان باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل جلالة الملك، ويلتمسون من العاهل السعي لدى الدول التي يهمها الأمر للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، وتحديد المصالح المشروعة للأجانب المقيمين بالمغرب. وهنا لابد من تسجيل ملاحظة ذات اهمية تاريخية: وهي أن الملك أصبح يتزعم الحركة الوطنية من أجل الاستقلال. كما منحت له كذلك سلطة تقدير الظروف التي ينبغي أن تفتح فيها مثل هذه المفاوضات. أي باختصار، بعد أن تم الإعلان عن مطلب الاستقلال، فقد أصبح من حق العاهل أن يحدد المبادرات الواجب اتخاذها لدى الدول التي يهمها الأمر.
وكان من الطبيعي أكثر أن يعبر محررو البيان عن مطلب الاستقلال، بالمطالبة بإلغاء معاهدة فاس الموقعة سنة 1912، فإلغاء هذه المعاهدة كان من شأنه أن يعيد للمغرب سيادته الكاملة. إلا أن هذا الشرط الأولي لم يتم التعبير عنه بشكل صريح، الشيء الذي دفع بعض الملاحظين إلى إعطاء تفسير غير واضح المعالم لوثيقة الاستقلال.
لقد ذهب هؤلاء الملاحظون، المغاربة أو الفرنسيين، في تحليلهم، إلى حد اكتشاف صياغة مرنة، كفيلة بفتح الطريق أمام مسلسل تدريجي، وبذلك يصبح الاستقلال هدفا يتم الوصول إليه في أجل ينبغي التفاوض حوله، مادام إلغاء معاهدة الحماية غير منصوص عليه صراحة، كموضوع فوري للمفاوضات.
فمسؤولو الإقامة العامة والإدارة السامية الفرنسية، الذين أعمتهم تصوراتهم المتخلفة، فضلوا مواجهة الحركة بالعنف، وقد كان في إمكانهم ­ يضيف هؤلاء الملاحظون نفسهم ­ أن يتخيلوا انطلاقا من نص البيان نفسه، وبذكاء أكبر، مخططا لتطور العلاقات الفرنسية ­ المغربية.
هناك ملاحظة ثانية، تبرز بوضوح: أن المفاوضات التي ستجري ينبغي القيام بها، بحسب النص، مع الدول التي يهمها الأمر.
ففرنسا، القوة الحامية، لم تذكَر صراحة. فهل كان ذلك سهوا؟ لا أحد يمكنه أن يلم بذلك، هل كان نابعا من الرغبة في معاملة القوة الحامية على قدم المساواة مع الدول الأخرى؟ إن ذلك يعني في هذه الحالة، تجاهل وقائع التواجد الاستعماري في كل مجالات الحياة المغربية. كيف يمكن وضع حد لنظام سيطرة واستغلال من دون مفاوضات مباشرة بين المستعمر والمستعمر؟ إن الأمم الأخرى يمكن أن تعبر عن تعاطفها بفعالية متفاوتة، ولكنها لا يمكن أن تتدخل مباشرة، إلا في حالات استثنائية.
من هنا جاءت الأسئلة التي طرحت آنذاك، والتي تتعلق بمعرفة ما إذا لم يكن محررو البيان، من خلال دعوتهم إلى إجراء مفاوضات مع الدول التي يهمها الأمر للاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، يفكرون في استدعاء مؤتمر دولي، شبيه بمؤتمر الجزيرة الخضراء المنعقد سنة 1906. إذا كان ذلك هو قصدهم فإنه يدل على جهل خطير بالحقائق الدولية الجديدة. وقد اطلق أحد المزَّاحين آنذاك هذه المزحة: “… ينبغي على المغرب، البلد الذي يوجد تحت الحماية، أن يطلب من وزيره في الشؤون الخارجية، الذي كان هو المقيم العام، أن يجري مفاوضات مع الدول التي يهمها الامر، بما فيها فرنسا، للاعتراف بالاستقلال الوطني وضمانه.
وقد كان من الممكن تجنب مثل هذه الالتباسات، أو هذا الانعدام في الدقة، لو تم اخضاع النص لمناقشات متناقضة من جانب أعضاء الحزب. ولكن متطلبات السرية، دفعت زعماء الحزب إلى تفويض تحرير البيان إلى مجموعة جد محدودة.
هناك ملاحظة أخرى كانت أهميتها بديهية جدا: لقد سجل البيان في حيثياته، إفلاس الحماية. ولكن الأمر لم يكن يتعلق سوى بالحماية الفرنسية، أما الحماية القائمة في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسبانية فلم يشر إليها البيان، فهل كان الامر يتعلق بإغفال مقصود؟ بطبيعة الحال، يمكن الرد بأن الذي كان يهم، في نظر المغرب، هو معاهدة فاس المبرمة سنة 1912، وأن المناطق التي سلمتها فرنسا لإسبانيا لم تكن تشكل سوى حماية ثانوية، أو اجارة ثانوية، كما كان يقال. فإلغاء المعاهدة الرئيسية، أي معاهدة 30 مارس 1912، سيؤدي من تلقاء نفسه إلى الغاء المعاهدة الفرعية الفرنسية- الإسبانية.
ولكن ذلك يعني، نوعا، من نسيان الحقيقة الاستعمارية. فإسبانيا، وخصوصا بعد مجئ النظام الفرانكي، كانت تتصرف في الواقع، في المناطق المسلمة لها، كما لو كان الأمر يتعلق بأراضي لا تخضع سوى لسلطتها الخاصة. وقد اصبحت مثل هذه الوضعية أكثر خطورة، وأكثر تهديدا لوحدة البلاد الترابية منذ بداية الحرب العالمية الثانية . وكان على حزب الاستقلال في 11 يناير 1944، أن يعرض على الحكام الإسبان نص البيان، مؤكدا بذلك ت شبثنا بالوحدة الترابية للبلاد، على غرار ما تم القيام به لدى المسؤولين الفرنسيين بالرباط. وقد كان من شأن مثل هذه المبادرة أن تجنبنا الاتهام الافترائي، بالتواطؤ مع بلدان المحور، الذي تعرض له زعماء الحزب بعد ذلك في 29 يناير 1944.
وسوف نعود، فيما بعد، إلى هذه النقطة لإبراز بعض الجوانب الأخرى.
2 ­ القسم الثاني من القرارات يتعلق بالسياسة الداخلية. فقد التمس الموقعون على العريضة من جلالة الملك أن يشمل برعايته حركة الإصلاح التي يتوقف عليها المغرب، وتترك له مهمة إقامة نظام ديمقراطي شبيه بنظام الحكم المطبق في البلدان الإسلامية في الشرق.
وهنا ايضا يترك الدور الأساسي، في تحريك الاصلاحات الداخلية، لعهل البلاد.
لابد من إبداء ملاحظة تكتسي أهمية بالغة. لقد كان المشروع الأخير للبيان، الذي عرض من طرف زعماء الحزب الوطني على الملك للحصول على موافقته، ينص، في موضوع المؤسسات الداخلية، على إقامة نظام ديمقراطي للملكية الدستورية، يتضمن انتخاب مجلس وطني، منتخب بالاقتراع العام، ومجالس محلية أو جهوية منتخبة أيضا بالاقتراع العام المباشر.
ملكية دستورية، اقتراع عام مجالس محلية منتخبة، أليست هذه كلمات ثورية من شأنها أن تثير ردود فعل تقوم على عدم الثقة، بل العداء من جانب الباشوات أو القواد الكبار، وجزء من موظفي المخزن الكبار؟ لقد ارتكزت سياسة الحماية، منذ عهد ليوطي، على مجاملتهم، وعلى دعمهم وتعزيز سلطاتهم اللامحدودة على مرؤوسيهم، وكان إخلاصهم الدنيء للإقامة العامة هو مقابل الصلاحيات الاستبدادية، التي تركت لهم في مناطق نفوذهم. والحالة هذه، أن السلطان كان يريد استشارة مشاعرهم الوطنية، وضمان دعمهم لحركة المطالبة بالاستقلال التي أصبح على رأسها. ومن شأن الإبقاء على الصيغ المذكورة سابقا أن يمكن الإدارة الاستعمارية من إقناعهم بسهولة بأن استقلال المغرب سيعني، بالنسبة إليهم، تجريدهم من كل سلطة على مرؤوسيهم، وعلى ممتلكاتهم.
ولذلك تم تعويض عبارات ملكية دستورية أو اقتراع عام، بصيغة أكثر عمومية: “اصلاحات مستوحاة من مبادئ الاسلام على غرار ما تم تحقيقه في بلدان اسلامية اخرى مثل العراق أو مصر”.فالاساسي في هذه المرحلة من المعركة هو تحقيق أكبر تجمع، من أجل ازالة عقبة الوصاية الاجنبية.
لقد تم اختيار 11 يناير 1944 لتقديم الوثيقة رسميا، من طرف السلطان نفسه، لأن هذا التاريخ كان يوافق يوم الاستقبال الاسبوعي لمستشار الحكومة الشريفة، وكان هذا الأخير موظفا ساميا معينا من طرف الكي دورسي (مقر وزارة الخارجية الفرنسية) للقيام بوظيفة اتصال بين القصر والإقامة العامة.
من كتاب: (عبد الرحيم بوعبيد/ شهادات وتأملات)


بتاريخ : 11/01/2019

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *