كان زعماء الثورة الجزائرية الخمسة (أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمد خيدر، مصطفى الأشرف) في ضيافة المغفور له محمد الخامس، لمدة يومين، قبل أن يغادروا نحو تونس للمشاركة في القمة المغاربية، من أجل إرساء أسس اتحاد شمال أفريقيا والإعلان عن دعم الثورة الجزائرية. غير أن طائرات فرنسية حربية اعترضت طائرة “دي سي 3” التابعة لشركة الأطلس المغربية للطيران، حيث تلقى قائدها أمرا بالهبوط في الجزائر العاصمة.
لم يكن الطاقم الفرنسي للطائرة المغربية على علم بهوية الركاب، لكن إضافة إلى القادة الجزائريين، كان على متن الطائرة فريقا من الصحفيين الفرنسيين الذين كانوا متجهين لتغطية القمة المغاربية في تونس، كما كان على متنها، مريض مغربي تم نقله للعلاج في تونس.
وهكذا حوّل قادة عملية الاختطاف الزعماء الجزائريين إلى مقر جهاز الاستخبارات في أعالي العاصمة الجزائرية، وسط إجراءات أمنية عسكرية مشدّدة للتحقيق، قبل تحويلهم إلى السجن في فرنسا، ولم يطلق سراحهم إلا بعد إقرار وقف إطلاق النار في مارس 1962.
وكان لاختطاف هؤلاء القادة أثرا كبيرا على مسار الثورة التي تأججت، بعدما قرر قادتها في الداخل والخارج، التمسّك بخيار المقاومة من أجل التحرّر.
حول هذا الموضوع كتبت جريدة التحرير، في عددها ليوم 18 مارس 1962، على هامش عودة القادة الجزائريين إلى المغرب ودخولهم “الجزائر المستقلة” من بوابة وجدة، مقالا مطولا على صفحتها الثالثة بعنوان: (من الرباط.. إلى الرباط/ حادثة القرصنة تؤكد وحدة شعب المغرب العربي). وقد استهل المقال الممتد على طول الصفحة الثالثة، بذكر أن “هناك خطأ كبير، يقع فيه كثير من الكتاب والمعنيين السياسيين، عندما يتحدثون عن قرصنة الطائرة المغربية، التي كانت تحمل على ظهرها خمسة من أبرز قادة الرعيل الأول، المنظم للثورة الجزائرية، وينظرون إليها على أنها حادثة منفردة، تدخل في نطاق العمليات المتعددة المنظمة من طرف الجيش الفرنسي، بقصد القضاء على الثورة الجزائرية”.
وتابع: ” هذه النظرة خطأ ، لأنها لا تضع الحادث في إطاره الحقيقي، الواقعي. لقد كان اختطاف القادة الخمسة، زيادة على كونه تنفيذا لإحدى أمنيات العسكريين الفرنسيين، داخلا في نطاق مؤامرة عامة، تشمل كل واحد يذكر أن عملية القرصنة حدثت في 22 أكتوبر 1956 ولما تمضى إلا شهور معدودة على استقلال المغرب. وكان المغرب الأقصى، يعيش في ظل حكومته الأولى، تحت رئاسة مبارك البكاي. وكان أحمد بلا فريج يشغل منصب وزير الخارجية ومحمد الدوري وزير الطيران المدني المواصلات، وأحمد العلوي ملحقا صحافيا بالديوان الملكي،ونحن نقتصر على ذكر هؤلاء الوزراء،نظرا للمسؤوليات التاريخية التي تحملتها وزاراتهم في القرصنة والتي سنبينها في هذا المقال”. في الجزائر، كانت الثورة، على وشك إتمام سنتها الثالثة، وقد تم تكوين جبهة التحريرالوطني، وتكونت مؤسسات الثورة، وانعقد مؤتمر وادي الصومام الشهير.
في تونس، كانت رئاسة الدولة شكليا ودستوريا، بيد الباي محمد الأمين. وكان الحكم الحقيقي من نصيب حزب الدستور الجديد، الذي لم يكن قد تغلب حتى ذلك الحين على الصعوبات والصراعات الداخلية المرافقة دوما لولادة كل دولة حديثة.
في مصر، كانت مشكلة قناة السويس التي الن تأميمها في 26 يوليوز 1956 خلقت جوا عاما من التوتر في علاقات بلاد الكنانة، مع الدول الاستعمارية واثارت في نفس الوقت اعجاب وتضامن جماهير الشعب العربي في المشرق.
في سوريا، كانت مؤامرة كبرى اكتشفت فيها يمد تدبير من طرف بعض الرجعيين والعملاء، على رأسهم منير العجلاني، هددت الى قلب نظام الحكم، في البلاد وتنصيب حكومة جديدة تجر سوريا الى ركاب حلف بغداد.
وكان مدبرو هذه المؤامرة، يفكرون في تنفيذها عندما يتدخل الجيش السوري في مصر لمساعدتها على صد العدوان، وكان تخطيطهم المسرحي من الدوائر الاستعمارية لحلف بغداد، يقتضي الاستعانة بالجيش العراقي، في الوقت المناسب للإطاحة بالحكم الديمقراطي في سوريا وتنصيب حكومة عملية فيها تأتمر بأوامر الامبريالية العالمية.
في فرنسا، كانت الانتخابات التشريعية، حملت إلى السلطة حكومة تزعم أنها يسارية، برئاسة كي مولى زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، وكان مسيو كريسيان بينو يشغل وظيفة وزير الخارجية، ومسيو روبير لاكوست، وظيفة وزير مقيم بالجزائر، وكلاهما ينتميان إلى حزب كي موليه نفسه.
في بريطانيا، كانت حكومة صاحبة الجلالة تحت رئاسة المحافظ المخبول، مستر انطوني ايدن، وكان مستر سلوين لويد يحتل منصب وزيرالخارجية”.
الطائرة المخطوفة

ففي يوم 22 اكتوبر 1956 اقلعت من مطار سلا، طائرة ملكية من نوع سوبر كونستالاسيون، تحمل جلالة المغفور له، محمد الخامس، وحاشيته المدنية والعسكرية، متوجهة الى تونس، واقلعت بعدها طائرة صغيرة، من طراز د. س 4 كانت مخصصة للصحافيين، وحشر فيها قادة الثورة. ونظرا لبعد المسافة وحجم الجهاز، فقد كان لابد من الطائرة الصغيرة، من محطة تتزود فيها بلوازم السفر، قبل متابعة رحلتها إلى تونس العاصمة عبر البحر الابيض المتوسط، وقصدت الطائرة المذكورة جزيرة Œبالما دي مايوركا˜ الموجودة في عرض برشلونة، باسبانيا. وقبل ان تنزل بها تلقت مكالمة برقية من برج مراقبة الجزائر العسكري، طلب فيها منها أن تجيء توا الى الجزائر. لكن ربان الطائرة واصل تحليقه نحو المحطة الاندلسية. واتصل في تلك الأثناء أو خلال توقفه في بالما دي مايوركا ­ بمحمد الدويري وزير المواصلات والطيران المدني، ووزير الخارجية بالنيابة، وحكى له مادار بينه وبين برج المراقبة في الجزائر.
الرباط لا تجيب

كان جواب السيد الوزير هو وعد بالاتصال فيما بعد. بقيت الطائرة وركابها في بالما دي مايوركا مدة كان الربان خلالها يحاول تجديد الاتصال بالوزير المسؤول، لكن برج المراقبة الرئيسي في الدار البيضاء، كان يقدم اعتذارات فنية، ويقول إن الرباط لا تجيب، وحرم الربان في النهاية من التحدث إلى السلطات، وتلقى الأوامر من عندها. فماذا كان ينبغي أن يحدث في هذه الحالة؟
إن أول تدابير يمكن القيام بها في هذا الشأن، هي إصدار تعليمات صارمة ودقيقة إلى ربان الطائرة، بأن يظل حيث هو وربط الاتصال فورا مع سفارة المغرب في مدريد، لوضع السلطات الاسبانية امام مسؤولياتها. غير أن الوزير لم يفعل شيئا من ذلك كله، أاو لعله ان يكون فكر في عمل ما بعد فوات الأوان، وفكر فيه ببطء وتردد، على أنه لو طلب من السفارة أن تتدخل رسميا لدى الحكومة الاسبانية في مدريد لحماية الطائرة وركابها، أو لحجز الجميع، حتى صدور أمر جديد، لو دبر شيء من هذا القبيل لأحبطت القرصنة. كان بإمكان القادة الجزائريين وحدهم، لو علموا شيئا عما يهيأ لهم في الخفاء، ان يستعملوا وسائلهم الخاصة لتجنب الفخ الموضوع لهم.
هبطت الطائرة في مطار اطفأت فيه جميع الأنوار، حتى لا يتعرف الركاب في أول وهلة إلى الجزائر العاصمة. قبل أن يسمح للركاب بالنزول صعد رجال الشرطة العسكرية المدججين بالرشاشات، إلى الطائرة من الباب الضيق المخصص للربان. وكان المطار مطوقا بقوات هائلة من الدبابات، والمصفحات، وسيارات الجيب المجهزة بالراديو وعندما فتح الباب، صاح احد الجنود الفرنسيين، المحيطين بالطائرة في لهجة من الانتصار الممزوج بالرهبة والتأثر.
وإذا كان بعض الصحافيين المرافقين للوفد الجزائري، قد هالهم الموقف، وجفت حلوقهم، وجحظت أعينهم، وتجمدت ألسنتهم، فان القادة الخمسة قد برهنوا عن رباطة جأش، وهدوء اعصاب وبرودة دم، ضاعفت من تقدير الاستعماريين لهم وللثورة التي يقودونها، ودوى نبأ القرصنة دوى الصاعقة في مجموع انحاء بلدان المغرب العربي.
ففي تونس، حيث كان الملك الراحل محمد الخامس، ينتظر وصول ضيوفه، نزل الخير على الاوساط الرسمية نزولا عاصفا. وتأثر به العاهل المغربي، فطلب فورا مكالمة تلفونية، مع مسيو روني كوتي، رئيس الجمهورية الفرنسية في باريس، وقال له في لهجة مؤثرة، منفعلة جدية.
إنني أفضل أن تأخذوا ولدي. انا مستعد لان اسلمه اليكم مقابل أن تعيدوا ضيوفي إلى.
كما ان الضباط المرافقين للملك الراحل اعربوا عن غضبهم بنثر الأوسمة الفرنسية من صدورهم و إلقائها على الارض، وكلف الاستاذ عبد الرحيم بوعبيد، وكان يومها سفيرا للمغرب في باريس، بإجراء اتصالات مستعجلة مع المسؤولين الفرنسيين وذكرت الاوساط الحكومية انها لم تكن على علم من المؤامرة التي دبرها الجيش الفرنسي في المغرب العربي.
وأحدثت القرصنة أزمة في الحكومة الفرنسية، ومن بعدها في حزب كي مولي، فاستقال السيد آلان سفاري من منصبه كوزير لشؤون الشمال الإفريقي.
أهداف المؤامرة

الشق الثاني من هذه المؤامرة التي تشمل الوطن العربي، والتي شاركت فيها فرنسا وبريطانيا واسرائيل، حمل الأهداف التالية:
احتلال مصر بعد القضاء على النظام القائم فيها.
استرجاع قناة السويس الموهمة.
توسيع القاعدة الاستعمارية الصهيونية المتمثلة باسرائيل. و ذلك بدمج قطاع غزة، وجزء من صحراء سيناء، والسيطرة على سواحل خليج العقبة.
ضرب الثورة الجزائرية. وهذه هي النقطة المهمة بالنسبة للفرنسيين الذي كانوا يعتقدون بأن ثورة الشعب العربي في الجزائر، إنما هي من وحي القاهرة وتخطيطها، وبتحريض منها. لذا ينبغي ان تضرب الثورة، في قاعدتها، في المصدر الذي يغذبها قبل أن تصفى من داخل الجزائر˜.
قناعة الفرنسيين بهذا الأمر، كانت كبيرة، لدرجة أن كثيرا من صحفييهم وساستهم، المؤيدين اليوم لحق شعب الجزائر في تقرير مصيره، كانوا يزعمون أن القاهرة هي المحركة للثورة، وأن نظامها هو المسؤول عن استمرارها، كانوا لم يدركوا أن جماهير الشعب العربي في الجزائر، بفلاحيها وعمالها، بموظفيها وتجارها الصغار، بطلبتها ومقتفيها، هي التي تحتضن الثورة، وهي التي تمدها بقوتها الحقيقية. وكانوا لا يدركون ان القاهرة، وجميع العواصم العربية، ليس في وسعها كيفما كانت المساعدة التي تقدمها للثوار، ان تخلق ثورة من ذلك النوع، ذلك أن الثورة، ليست بضاعة تستورد، وإنما تقوم، عندما تتوفر الشروط الموضوعية لقيامها، وعندما يوجد القادة الذين يعرفون هذه الظروف ويحسنون استخدامها.
واستطرد المقال: “هذه الحقائق، البديهيات، لابد من تذكرها عند الحديث عن قرصنة الطائرة المغربية المقلة لقادة الثورة. فهذه الأوضاع التي كانت قائمة يومئذ،في المغرب العربي، وفي المشرق العربي،في فرنسا وبريطانيا، لها مساس مباشر بقضية القرصنة، التي هي –بدورها- جزء من مخطط استعماري عام يشمل الاقطار العربية كلها.
كانت الأوضاع السياسية الموجودة في الاقطار المغربية متولدة عن استغلال شكلي حصلت عليه تونس الخضراء والمغرب الأقصى. وهدف الاستعمار من وراء ذلك، التعجيل بإعلانه تصدع جبهة الكفاح في المغرب العربي. وكانت بريطانيا، التي لها مصالح في الشرق العربي، مشابهة لتلك التي لزميلتها في القسم العربي من الوطن العربي، تعد العدة لضرب التيارالتحرري، المتمثل يومها في الحكم الجديد بمصر، والتجربة الديمقراطية الوليدة في سوريا. والشيء، الذي كان يثير غضب الاستعماريين، هو أن مصر، تجرأت على تأميم القناة، وأن سوريا بقيادة الحركة الوطنية التقدمية فيها، مصرة على اتباع سياسة الحياد الإيجابي وتأييد الثورة الجزائرية والوقوف بجانب الشعب العربي في مصر، خلال معركة السويس.
اشتملت الخطة التي اتفق عليها الاستعماريون على إسناد مسألة احتلال مصر إلى مظليي الجنرال ماسو الذين سيشاركون فيما بعد بمشاغبات 13 ماي 1958، ومن بعدها في تمرد الجنرالات الأربعة بتاريخ 22 أبريل 1961 ، ونحن نعرف ما آلت إليه الأمور بعد ذلك. فقد فشل الصهيونيون والإنجليز والفرنسيون في احتلال مصر، بسبب صمود الشعب العربي، وأيضا بسبب التضامن الفعال، الذي أبدته الدول المتحررة، وفي مقدمتها الاتحاد السوفياتي.