نصّ (مريم) لنور الدين التيجاني : الإدريسي.. العشق بنكهة المرثاة

 

«نعسانة العيون..
أجفانها كلمات من الغفوة،
من عسلِ السّبات.
تتقاطر عشقا
من عذرية القداسة
تفيض طهرا..
مريم مثل وهج الانبهارِ
زلزلت رقادي ؛
غسلت كياني بعطر القبلات
في وجه الرّيح .
أدخلتني جنّات الأحضان..
عبق امرأة فاح بلذة الغواية
وعشق ينسي وجع المنية.
مريم ب»شناتيف» الأسماء…
اعزفي ألحانك على قيثارة القلب
وغنّي للصبايا عن أحزان الورد.»
لعلّ أبرز ما تحيلنا عليه هذه التقطيعة التعبيرية المعسولة،في تأبطّها لقاعدة» ما قلّ ودلّ»، ذلكم الطّعن غير الرّحيم في جوانب الذّكورة المرتجلة،والفحولة الزائفة التي ما تنفكّ تتجنّى على الجنس المقابل وتمتهن دوره الحياتي وتعرقل وظيفته الوجودية العاكسة لنواميس التكامل والتلاحم الوجداني والسكن الروحي بدرجة أولى.
شعرية مشكّكة في هذه الهيمنة الذكورية، ومنصفة للأنوثة بخاصة في الأوساط المجتمعية الأكثر تزمّتا وسلطة على المرأة إجمالا.
فمثل هذه الثقافة من المفترض أن تجترح الحيّز الضروري والمسعف في قلب منظومة مفاهيمية،ضلّلت أجيالا ولم تزل،تسرف في معالجة قضية المرأة من زوايا لوّثها وإلى حدّ بعيد فكر محافظ وراع لمصالح ذكورية بامتياز.
ولكم أشتمّ في هذه القصيدة الطريفة ،وما دونها من كواليس ،السياحة فيها ليد علوية حانية، تدقّ ناقوس الكامن وتخلخل أرضية عقدية نكّس أعلامها عمى العرف وديماغوجية الرّيفي الجلف، المتغني بأسطورة «الخرجتين» كقدر للأنثى، واحدة إلى عشّ الزوجية، والأخرى إلى القبر، محفورة في الدّفين .
لكم أشتمّ عبق الجرأة في الطّرح، وفصاحة الفكر المضاد .هي منهجية نضالية تلامس المشترك الإنساني ولا تحيد أو تزيغ عن سككه.
لذلك لا ضير أن يعود بنا شاعرنا ، إلى ما وراء أسوار منبته، متغزّلا  بمعشوقته مريم، صريحا وصادقا في الإفصاح عن لواعج نفسه، وقاصدا جذبنا إلى برج أهل الصّفّة، والعشاق المجانين، ممّن أرادوا أن يثبتوا للتاريخ ألاّ جمال لسوى الرّوح غير معترضين على نعمة الجسد بالطبع.
ثمّة محلية محاطة بالرؤى النورانية ،وكأنّها تضعها في مواجهة سيل عارم من تابوهات النعرة والنظرة القبلية للأنثى، وإن سّلمنا بكون هذه الأخيرة مهضومة أيضا على أعلى مستوى من السلّم الطبقي ند من يدّعون الديمقراطية والتّمدّن.
فائض البوح هذا يتمّ عبر تمثيلية موجعة جدا، وكأننا برؤوس شبانّ القبيلة تتنطّع و تتطاول، علّها تحظى بشرف تكحيل الطّرف وإبهاج الخاطر بتملّي هذه الوردة الموجوعة ، المُحتجبة مريم،المكبّلة بالتقاليد والأعراف المتحجّرة.
إنه سفر تيار اللاشعور في بحبوحة من نسج ذاكرة الطفولة،تلغي المسافات وتهدم الأسوار وتقارب عقيدة البوم في معالجة إشكالية مزمنة تخصّ أساليب تعاملنا مع المرأة عموما .
سفر يتغلغل في نور العقل ولا ينسى أن يجمّل المشهد ويهذّب مسرح الذبول.هذا الانزياح ،من الطبيعي أن يرتع على التيمة «المريمية» ليدهشنا بهشاشة اللغة ويومض عقولنا وقلوبنا على حدّ سواء.
باعتبار هذا الاسم/ مريم مترع بالدّلالة الدينية، ومستغرق لفضاءات المقدّس والعذري والجليل، وهكذا يأبى صاحبنا إلاّ أن يلج بنا حربا ضروسا ضدّ من بأياديهم لواء المدنّس، وكل هذا الطغيان والتمادي في إذلال الأنثى واتخاذها مجرّد متعة و جسد من غواية التفاصيل المؤججة للنزوة العابرة والجموح الغادر والنزوع الشّبقي.
فمريم هاهنا نصفان: الورد ة الحزينة جرّاء حرمانها وصل الحبيب والاستئناس بعقليته الناضجة المحتفية بالأنوثة كما يجب وعلى أتمّ وجه ، ومريم الشاهدة على راهن انكسار المرأة بشكل عام.
من حقّ الذكر أن يغلو في وضع المواصفات المثالية ، لأنثى أحلامه ، وأن يصمّم لها التمثال الذي تؤوب إليه روحه الجشعة هو، لكن… عليه أيضا أن يبدي استعدادا قبليا للصدمة التي قد يولّدها الواقع بهذا الخصوص، وكيف أنها تجيء مرّة وبمقاسات معيبة وتبعا لدرجات ،و المتوجّب فهمه ، أنّ لكلّ كائن،كائن من كان، نسبة من المثالب كما له أخرى من المناقب، والمحظوظ من يظفر بشريك حياة تفوق إيجابياته سلبياته.
بقي أن نشير إلى لفظة « شناتيف» الدالة في معجمها الدّارج ، على النّدرة حدّ العدم، وهكذا نهتدي وبسهولة إلى أن إقحام كهذا مصطلح عامي شعبوي، إنما هو مقصود، ولقد أثّر في الوحدة الشعرية على نحو لافت جدا، على أساس أنه لفت انتباهنا إلى الحالة النموذجية،والمتن المثالي، الذي وضعه شاعرنا ما بين قوسين، وكأنه أراد لنا الاهتداء إلى قيمة انتقاء الاسم هاهنا، مريم القدّيسة ، على سبيل الاستنباطات الضمنية والمضمرة.
وكأنها طقوس عرس دم، تحايث أو توازي بين معاني الأنوثة و نصوص المعاناة،معاناة الذات المنكفئة على رياض إرث العشّاق المجانين، في اختزالها لفكر مثالي يزدان بنبرة الزّهد والتصوّف.
هكذا نجد هذه الومضة، في قالبها المسكون بهمس المرايا الروحية، وترتيلها لآيِ تعشّق هو بنكهة المرثاة، استطاعت وإلى أقصى حدّ، قول ما تتطلّبه مطوّلة شعرية ضاجّة بأمجاد العشّاق.
(*) شاعر وناقد مغربي


الكاتب : أحمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 21/09/2017

أخبار مرتبطة

  على الرّغم من أن رولان بارثRoland Barthes، منذ أواسط ستينات القرن الماضي، أي في مرحلته البنيوية، كان قد أعلن

  الرواية الأولى كانت حلمٌا جميلا في البداية، ولكن ما إن صحوت منه حتى تحول إلى كابوس يقض المضجع، يسرق

ندوة حول «التاريخ وقيم المواطنة» بكلية الآداب بالمحمدية تنظم الجمعية المغربية للمعرفة التاريخية، بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *