هل للمغرب مدرسة في مستوى الطموحات والتطلعات؟

أزمة التعليم في المغرب، لم تعد شأنا داخليا بعد تدخل البنك الدولي الذي أثار انتباه المغاربة مؤخرا إلى وضعيته المتردية ، التي فشلت في اختيار الطريق الأصلح للخروج من حالة التخلف الاجتماعي و الاقتصادي الذي يعاني منه المغرب منذ عدة عقود، رغما على «المجهودات المادية» المبذولة من أجل ارتقائه وتحسين أدائه.
التقارير الداخلية و الخارجية، التي أنجزت عن التعليم المغربي خلال العقود الاخيرة، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن العراقيل والمشاكل التي تعيق هذا القطاع، تتمثل أساسا في التوسع المستمر لآفة الأمية، من الأمية الأبجدية، إلى الأمية التكنولوجية والسياسية والثقافية/ ضعف نسبة التمدرس خاصة في العالم القروي، وبالأخص بالنسبة للفتيات/ ضعف جودة التعليم في كافة اسلاكه، انطلاقا من سلك التعليم الأساسي، وهو ما يعني، الفشل الكلي في تحقيق مبدأ التعميم. والفشل الشامل في ربط مناهج التعليم بالتنمية، رغما على المجهودات المادية الهائلة التي تمت في هذا المجال، والأموال الطائلة التي تم صرفها عليه. و هي مجهودات تصنف المغرب من بين الدول العالمتالثية التي تخصص نسبة عالية من مواردها لقطاع التعليم.
ومن الجدير ذكره في هذا الصدد، أن كلفة التكوين الفردية السنوية للتلميذ المغربي الواحد، في السلك الأول من التعليم الأساسي، تبلغ حتى الآن حوالي 2300 درهم وفي السلك الثاني من هذا التعليم تبلغ 4400 درهم و مع ذلك تبقى هذه الأرقام متواضعة مع تكلفته في دول أخرى بأوربا ( أي حوالي 14 مرة أقل مقارنة مع فرنسا مثلا).
إن ميزانية التربية والتعليم، مثلت خلال العقود الثلاثة الماضية معدلا سنويا يفوق 23 % من الميزانية العامة للدولة، و هو ما يمثل 6 % من الناتج الداخلي الخام و ذلك دون الموارد التي تصرفها الأسر مباشرة لاقتناء لوازم التمدرس ، من كتب و دفاتر و أدوات. ودون أداء تكاليف الرسوم و الدروس الإضافية. ومع ذلك لم تستطع هذه الميزانية الضخمة، تحقيق ما تحتاج إليه البلاد من تكوين و قضاء على الأمية، ورفع مستوى التعليم لمواجهة التحديات القائمة في القطاعات الاقتصادية و الاجتماعية، كما لم تستطيع متابعة مجموع البرامج المقررة في مجال التعميم وتحسين التأطير، ورفع المردودية الداخلية للنظام التربوي.

– 2 –

السؤال الذي تطرحه هذه الحالة الإشكالية على مغرب اليوم : اين يكمن الخلل…؟ هل في نظرتنا إلى التعليم…. أم في إدارتنا لقطاعه؟
في الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتوقف عند سلك التعليم الأساسي (كنموذج) باعتباره المدخل الرئيسي لإشكالية التعليم في كل أسلاكه الأخرى، وباعتباره أيضا الأرضية الصلبة التي تقوم عليها الشخصية التعليمية بكل إيجابياتها وسلبياتها…
التعليم الأساسي، في التعريفات الأكاديمية الدولية (اليونسيف/ اليونسكو/ الاسيسكو)، هو الذي يزود المواطن بالمعارف و المهارات العلمية الأساسية ، لمزاولة بعض الحرف البسيطة، أو لزيادة دخل الأسرة في المجتمعات الريفية و الحضرية … وهو الذي يكفل للمواطن التمدرس عن طريق التفكيرالسليم،
ويؤمن له حدا من المعارف والمهارات والخبرات التي تسمح له بالتهيء للحياة وممارسة دوره كمواطن منتج… وهو التعليم المناسب لجميع المواطنين، الذي يوفر لهم الحد الأدنى من الفرص التعليمية.
وفي الوثائق المغربية الرسمية، التعليم الأساسي، هو مرحلة تعليمية تربوية إجبارية، مدتها تسع سنوات، تثبت في المتعلم القيم الإسلامية، و تكسبه القدر الضروري من المعارف والمهارات الإيجابية، مما يجعله قادرا على تحقيق الترقي الذاتي، ويؤهله للاندماج في مجتمعه، والمساهمة في تطويره، ومسايرة ركب التطور الإنساني و الإسهام فيه.
انطلاقا من هذه التعريفات « الأكاديمية « تبرز أمامنا العديد من الأسئلة الأخرى، أهمها : ما هي أسباب تراجع تعليمنا الأساسي عن هذه القيم والمواصفات…؟
تقول الشهادات المتوفرة عن هذا السلك من التعليم:
ــ إنه بقي حتى اليوم، يعاني من القطيعة التامة بينه و بين التعليم الأولى (ما قبل المدرسي ) رغم ما لهذا الأخير من أهمية في تحديد و تشكيل معالم شخصية الطفل، و تفتيق مواهبه و قدراته، الأمر الذي يحتم الابتعاد عن تلقين المضامين وخزن المعارف، و يفترض اعتماد المقاربات التواصلية التي تنمي فيه سلوكات و مواقف تؤهله للتفاعل الإيجابي، مع المحيط الاجتماعي والثقافي.
ــ إنه لم يستند إلى اختيارات اقتصادية واجتماعية و سياسية و ثقافية واضحة ومحددة، يسهم فيها الجميع توجيها و تأطيرا. وإنما جاء نتيجة ظروف و أزمات متعددة، انعكست عليه، مما جعل الوزارة الوصية ترفع باستمرار، شعار الترميم، عوض الإصلاح والتجديد و إعادة الهيكلة والبناء، بغية الانسجام مع الإكراهات المتتالية التي تواجهها من كل جانب.
ــ إنه رغم لجان الإصلاح المتعددة، بقي بعيدا عن الإستراتيجية المتبصرة، التي من شانها تكييف مناهج التعليم الأساسي، مع البيئة المحلية، و أساسا مع العالم القروي، الذي مازال تعليمه بعيدا في مستواه و حجمه عن التعليم في الحواضر، خاصة ما يتعلق بتعليم الفتيات.
ــ إنه فشل في الانفتاح على محيطه الخارجي، إذ لم يتمكن من جعل المدرسة الابتدائية ( الأساسية ) فضاء للتنشيط الاجتماعي و الثقافي و الفني، و إن يجعلها قطب انجذاب أساسي، في المحيط الذي تتواجد فيه و من أجله.
ــ إنه رغم ما يتطلبه من مصاريف ضخمة، و ما يشكله كعبء ثقيل على كاهل ميزانية الدولة، فإن مردوديته ضلت ضعيفة شكلا و مضمونا، إذ يستفاد من التقارير الرسمية، إن ثلاثة عشرة في المائة ( 13 % ) فقط، ممن يلجون التعليم الأساسي،هم الذين يحصلون على شهادة البكالوريا، بينما لا تشكل نسبة الحاصلين على شهادات عليا، سوى خمسة بالمائة (%) ، وذلك دون ظاهرة مغادرة الدراسة في سن مبكرة لعدد كبير من التلاميذ، في العالمين القروي و الحضري، و هي ظاهرة يستعصي تبريرها بحكم تداخل عوامل عدة، أبرزها أن التعليم أصبح في نظر العديد من الآباء و الأمهات وأولياء التلاميذ لا يجدي نفعا بحكم طبيعة التباعد القائمة بينه وبين سوق الشغل، وبسبب صورة المعاناة اليومية للخرجين وحملة الشواهد الذين لم يعد بوسع لا القطاع العام، ولا القطاع الخاص استعابهم وتشغيلهم.
أما بالنسبة للهدر المدرسي فهي في ارتفاع مستمر وخاصة في الأوساط الفقيرة : من بين 100 طفل عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 85 ويلتحق بالإعدادي 45، و يصل نهاية السلك الإعدادي 32 و يدخل الثانوي 22 و يحصل على الباكالوريا 10، بالإضافة إلى ذلك تتعمق الفوارق بين الوسط القروي و الحضري وبين الذكور و الإناث : إذ من بين 100 طفل قروي عمرهم 7 سنوات يدخل المدرسة 66. ومن بين 100 فتاة عمرهن 7 سنوات تدخل المدرسة 59.
إن تشخيص وضعية التعليم الأساسي، في مطلع الألفية الثالثة بالمغرب، من خلال هذه الأرقام ، تكشف بالملموس مدى حجم التخلف الذي مازال يعاني منه نظامنا التعليمي. تقول هذه الأرقام بوضوح :
أن نسب التمدرس الخام بالمغرب مقارنة مع الدول السائرة في طريق النمو سجلت تأخرا بمعدل 20 % بالنسبة للتعليم الابتدائي و10 % بالنسبة للإعدادي والثانوي.

– 3 –
إن ما يلفت النظر في وضع التعليم الأساسي بالمغرب اليوم، أنه بعيدا عن الأرقام والإحصائيات، بقي باستمرار، و على مدى أربعة أو خمسة عقود محل نقاش و تجاذب بين النخب السياسية والثقافية في البلاد دون أية نتيجة تذكر، إذ تبلورت مناهجه و برامجه في البداية داخل اللجنة الملكية لإصلاح التعليم التي أسسها جلالة محمد الخامس تغمده الله برحمته سنة 1957، وهي اللجنة التي وافقت على اختياراته الأساسية : التعميم / التوحيد/ التعريب/ المغربة. وهي نفسها الاختيارات التي عكست الطابع التوافقي على عهد الاستقلال، ثم أعيد النظر في هذه الاختيارات و المناهج، داخل لجنة التربية والثقافة لسنة 1960، وهي اللجنة المتفرعة عن اللجنة الوطنية لإعداد المخطط الخماسي الأول ( 1960- 1964 ) التي دافعت عن مشروع المدرسة الوطنية الموحدة. وأخيرا شكل هذا السلك من التعليم، بعد تنبيهات البنك الدولي، هاجسا للميثاق الوطني للتعليم ، الذي رأى النور في مطلع الألفية الثالثة، على عهد جلالة محمد السادس. و هو الميثاق الذي خرج إلى الوجود بعد جهد جهيد، و الذي كان الآمل منه، أن يدفع تجاه إصلاح المدرسة المغربية، و إعادة الاعتبار إلى المدرسة الوطنية… و لكن على ما يبدو أن إصلاح هذا التعليم، مازال في حاجة إلى مجهودات أكبر… ولربما إلى سنوات أخرى من العمل والاجتهاد.
يعني ذلك ،إن الإصلاح الذي كان المغرب ومازال يسعى إليه منذ سنة 1957 وحتى اليوم هو أن لا تبقى مهام المدرسة المغربية، قائمة على حشو أذهان و عقول الناشئة المغربية بمعلومات تجريدية / لا قيمة لها، ولا فائدة منها. وأن تتحول إلى مدرسة جديدة عصرية، في مستوى طموحات وتحديات عصرها، قادرة على إعداد المواطن الصالح، المؤمن، المؤهل، الكفء، الملتزم بخدمة وطنه، الواع بواجبات المواطنة وحقوقها، المتشبت بقيمه الدينية والوطنية، المنفتح على ذاته و على الذات الكونية.
الإصلاح المنشود، يسعى إلى جعل التعليم ركيزة أساسية في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهو يمثل ــ في كل الحالات ــ استثمارا بشريا ضروريا للانخراط في ركب الثورة العلمية والتكنولوجية، التي باتت تشترط التحاق الشعوب والدول بمسار النهضة الحضارية في عالم القرن الواحد والعشرين.
لذلك، يرى كافة المربين المختصين، أن الإصلاح، عليه أن يتجه لجعل قطاع التربية والتعليم، قطاعا استراتيجيا في نسق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهو ما يشترط إلى حد بعيد إمكانية انخراط المغرب في حركة الثورة العلمية والتقنية والتكنولوجية ، هذا الانخراط الذي يشترط بدوره مواكبة مسيرة التطور والتقدم والازدهار خلال العقود المقبلة.
من هذا المنطلق، أصبح رجال التربية والتعليم، والخبراء، و السياسيين المصلحين، يلحون على الإصلاح المنتج للتعليم الأساسي، يلحون على جعله تعليما منفتحا على محيط المتعلمين، متعاملا مع واقعهم بشكل جدلي، مؤثرا في واقعهم و متأثرا بهذا الواقع، و هو ما يعني توفير فرص الاندماج بسهولة في النسيج الاقتصادي للبلاد، ليصبح المتعلم عضوا فعالا في التنمية الشاملة للبلاد… و هو ما يشترط كمرحلة أولى و أساسية عدة شروط، منها:
إدخال التكنولوجيا الحديثة إلى مؤسسات التعليم الأساسي و ذلك بإحداث قاعة متخصصة على الأقل في كل مؤسسة ، وربط المؤسسات بشبكة الانترنيت وإحداث شبكة للاتصال بين المؤسسات.
تعميم المكتبات على المؤسسات المدرسية وإغنائها بالمراجع الحديثة و تفعيل دورها داخل المنظومة التربوية.
وضع برامج التكوين المستمر الذي يعتبر من أهم الرافعات التي تعتمد عليها التربية من أجل تحسين أداء المدرسين و أطر الإدارة التربوية. والأطر المسؤولة بكل من الإدارة المركزية والإدارة الخارجية.
وضع إصلاح المناهج على ضوء توجيهات اللجنة الخاصة بإصلاح التربية والتكوين، وعلى ضوء تقويم المناهج الحالية ، ووضع آليات العمل الخاصة بهذا المجال.
وضع تقويم و تأطير المؤسسات التعليمية الذي يرمي من جهة إلى وضع سياسة ناجعة لتقويم التلاميذ والمؤسسات و من جهة أخرى إلى تفعيل آليات التأطير التربوي والإداري للمؤسسات التعليمية.
وضع برامج الدعم لفائدة التلاميذ المنتمين إلى الفئات الاجتماعية ذات الدخل المحدود، ولتلاميذ الوسط القروي. و يتمثل هذا الدعم في توزيع الأدوات والكتب المدرسية وتوزيع المواد والوجبات الغذائية و منح الداخليات.
صياغة أهداف واضحة و محددة ودقيقة لكل سلك من أسلاك التعليم، انطلاقا من ما قبل المدرسي وحتى الجامعي.
التخفيف من المقررات و إعادة صياغتها وفق طموحات المدرسة الوطنية.
العمل بمبدأ التناوب لخلق جسور بين التعليم الأساسي، والتعليم الثانوي، ومراكز التكوين.
تمكين المتعلم بالتعليم الأساسي، من اللغات الحية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية، ومن القراءة/ الحساب/ طرائق التفكير/ وسائل العمل.
إعادة النظر في مواد التربية الوطنية، وتعميمها على سائر التخصصات وسائر المستويات.
العمل بمبدأ التوجيه.. المعقلن
بذلك نخلص إلى أن نظام التعليم الأساسي المغربي، في المرحلة الراهنة مقرون بإصلاحات جدرية، تتجاوز الإصلاحات الهيكلية إلى إصلاح مناهج الكتاب المدرسي والإدارة المدرسية وقضايا التعميم و المجانية ، إلى تحسين الكفاية الداخلية والخارجية للنظام التعليمي، وإلى الربط ما بين التربية والتعليم، واعتبارهما جزء لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الشاملة، التي تنبني على أسس نابعة من التحديات العلمية التي تواجه المغرب في محيطه العالمي. وعلى واقع المجتمع المغربي وطبيعة طموحاته الحضارية والثقافية، التي تسعى إلى تركيز موقعه على خارطة العالم الحديث بتجاذباته العلمية والحضارية.
وان طرح مسألة التعليم الأساسي (كنموذج) على هذا المستوى يرتبط في اعتقادنا بطرح أكبر وأشمل، يتعلق بمسألة التخلف و التقدم، في عصر تحولت فيه الثقافة والمعرفة إلى صناعة واستثمار، وإلى إصلاح استراتيجي لأحكام السيطرة على التحديات القائمة.
لذلك، نرى أن قضية إصلاح التعليم في مغرب اليوم، يجب أن تبدأ من تفكيك الأزمات المترابطة حول أسلاكه، انطلاقا من سلكي التعليم الأولى ( ما قبل المدرسي) والتعليم الأساسي، وإعادة تركيبها وفق شروطها العلمية أولا… ووفق طموحات المغرب الحضارية/ الاجتماعية/ الثقافية/الاقتصادية، ثانيا وأخيرا… وتلك مسألة تتعلق بالإرادة السياسية قبل كل شيء .


الكاتب : محمد أديب السلاوي

  

بتاريخ : 19/09/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

أكد على أن تعامل الحكومة مع القطاع ومهنييه يساهم في اتساع دائرة الغموض والقلق   أكد ائتلاف يضم عشر جمعيات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *