وبِضدِّها تتَبيّنُ الأشياءُ (قراءة في ديوان (الثّـلْجـنار)

تأثث المشهد الشعري الحديث بديوان زجلي مشترك بين شاعرين مغاربيين، هما الشاعر الجزائري عبد الرزاق بوكبة والشاعر المغربي عادل لطفي، أسمياه «الثلجنار». وهي تجربة شعرية توحد صاحباها في عشق الحرف ومداعبة اللفظ. تجربة مؤسسة تكشف عن عمق الصلات الفكرية والثقافية والحضارية بين البلدين، وترسخ جانبا من جوانب المشترك الإنساني بين صوتين شعريين ينتميان لمنطقتين جغرافيتين متباعدتين، لكنهما يتوحدان في المحبة والاعتراف بالآخر الإبداعي، لغة وذاكرة ووجدانا.
ولعل سؤالا مشروعا يتبدى لأول وهلة، ونحن نطالع الإصدار الشعري، يتمثل أساسا في معرفة السر العميق وراء هذا الإنجاز، الذي ارتأى صاحباه عن سبق إصرار وإبداع، الاشتراك في توضيبه وتهذيبه، بدءا من اللغة المختارة، مرورا بالموضوعة المقترحة وانتهاء بالتصور والرؤية.
فما مسوغ هذا الاختيار اللغوي؟ ولم (الثلج) و(النار) موضوعتان دون غيرهما؟ وكيف تسنى للشاعرين الجمع بين النقيضين؟ وبالتالي ما الإضافة النوعية التي راما تحقيقها، موازاة مع النماذج الشعرية السابقة؟..
أول ما يلفت انتباه القارئ في هذا العمل المشترك، تركيبة العنوان الذي اختاره كلا الشاعرين، حيث تواطآ فنيا على نحت كلمة من لفظ الماء ممثلا في «الثلج» ومن لفظ «النار»، لتصير الكلمة اثنين في واحد هي: «الثلجنار»، على غرار ما فعل الروائي حنا مينة في رواية «المتشائل» مثلا. وهكذا سينفرد الشاعر الجزائري بموضوعة الثلج، فيما سينفرد الشاعر المغربي بموضوعة النار. ورغم أن كل شاعر انفرد بموضوعته الأثيرة، يتعقب أبعادها ودلالاتها المختلفة، وصفا وتعريفا وتأملا، في معزل عن الآخر، فقد حرصا معا على وضوح الرؤية الفنية التي يصدران عنها. ومن ثمة، صعب الانحياز إلى أحد المتنين على حساب الآخر، ما دامت المادتان (الثلج والنار) قد انصهرتا واندمجتا وذابتا في بعض. وكأننا بثلج عبد الرزاق بوكبة ونار عادل لطفي، في حضرة رومانسية يملأ فضاءها رنين صوت الراحل محمد الحياني في خالدته «بارد وسخون».
بهذا المعنى، يكون ديوان «الثلجنار» سفرا فنيا تأمليا يرحل بقارئه نحو عوالم تآخي بين الأضداد وتوادد بين المتناقضات. فكلا الشاعرين مفتون بموضوعته، يوزعها، بتعبير الجرجاني، في ما قلّ ودلّ من كتابة. تلك الكتابة ذات الطابع الشذري، التي تقوم على البياض والتكثيف والاختزال والحذف والتركيز أكثر مما تروم التفصيل والتحليل. ففي الوقت الذي خصص فيه عبد الرزاق بوكبة واحدا وخمسين شذرة عن «الثلج»، أفرد عادل لطفي خمسين شذرة عن «النار». هذا التوزيع لم يأت اعتباطا؛ وإنما تمت هندسته وفق رؤية إبداعية تعكس ثقافة الشاعرين ومدى وعيهما بالكتابة.
لقد عنون عبد الرزاق بوكبة شذراته المائية بـ(تلوين الثلج)، فيما عنون عادل لطفي شذراته النارية (كتاب النار). وبين التْلوين والكْتاب مساحة للبحث والاكتشاف. كلا الشاعرين يرسم صورة مصغرة عن فهمه وعلاقته بالمادة، ويقدمها في أشكال تعبيرية تمتح من المتخيل حينا، ومما تتيحه اللهجة المحلية من انزياحات تنسجم والرؤية الشعرية، حينا آخر. يقول بوكبة: الأرنب اللي خرجو الجوع/ هداه الثلج/ لبطن/ ال/ ص ي ا د. (ص45) ويقول عادل: باش تشرق/ تحرق. (ص90)
هناك احتفاء واضح في الديوان بموضوعتين متناقضتين، في الظاهر، ترصدان الصلة الكائنة والممكنة بين الطبيعة والعالم والإنسان؛ غير أن الشاعرين، وهما يتناوبان في استدعاء المادتين شعريا على منصة القصيدة، حرصا على تمثل الموضوعتين باعتبارهما لحظة إبداعية واحدة تعيد النظر في الظاهر والباطن، وتقيس درجة المؤتلف والمختلف فيها، مما يفتح أبواب التأويل على مصراعيه ويخلخل أفق انتظار المتلقي.
يحضر «الثلج» و»النار»، بشكل لافت في الديوان، تارة عبر ألفاظ وعبارات صريحة تطلبها المقام، وتارة عبر مترادفات متفاوتة تحيل إليها بشكل مضمر. هذا الحضور المكثف للمادتين الشعريتين يدعم ويعضض تلك الرؤية القائمة على التزام الشاعرين، كل منهما بموضوع مستقل. وهكذا سيفتتح الشاعران متنهما، بشذرات تتأمل اللفظ المنحاز إليه، وتقدمُه في تعريفات موجزة. فمن تأملات عبد الرزاق بوكبة للثلج نسوق منها مثلا قوله: الثلج/ اللي في صلاتي: حيرة/ تفتش على/ ر و ح ه ا. (ص26) أو قوله: الثلج/ اللي في كاس الويسكي/ نشوة/ ذ ا ي ب ة. (ص29)
وهي بعض من كل، نستشف منها عمق الرؤية، التي يصدر عنها الشاعر. فالثلج غير الثلج الطبيعي، الذي نراه في الخارج؛ وإنما هو حمّال أوجه، يتلون بتلون الموضوعات المقترحة، منها ما ارتبط بالخفة، بالروح، بالصلاة، بالحيرة، ومنها ما اتصل بالجرح، بالبوح، وبالتسبيح والنشوة.
ومن تأملات عادل لطفي للنار، نورد منها قوله: النار اللي كلات الشمعة/ كانت طامعة/ في العسل. (ص84) ومنها قوله: النار كانت جيعانة/ كلات الغابة/ أنا/ ف جوعي/ حرقت خطواتي ليك. (ص114)
وفي ضوء ذلك وغيره، نتمثل رؤية الشاعر للنار ومدى صلتها بالذات والموضوع. فالنار أيضا، غير النار في العالم الخارجي، إنها، هي الأخرى، تتلون كما الثلج. فهي اليتم والطمع، هي الشوق والنزيف، هي الحلم واليقظة وهي الحياة والموت.
بيد أنه رغم التباعد الحاصل ظاهريا بين الثلج والنار؛ فإنه سرعان ما نجد ما يوحد بينهما ضمنيا، إذ كلاهما يستدعي الآخر ويستحضره بالضرورة، وكأن لا فاصل بينهما، أو هما وجهان لهوية واحدة. فالنار قادرة على تلبس الماء، بما تحيل إليه القدرة على التحول والتبدل. والماء إذ يظمأ لا ملجأ له سوى معانقةِ النار احتماء وانتشاء. يقول بوكبة في آخر شذرة: قالت النار للثلج: نقدر نطمع في لونك. (ص11) ويقول لطفي في ثامن شذرة: الما/ يلا عطش/ يعانق النار. (ص86)
ولأن الشذرة تخفي أكثر مما تعلن، وتلمح أكثر مما تصرح؛ فإن الشاعرين يستلهمان من ظواهر ومظاهر الحياة اليومية وحالات ومواقف الذات الإنسانية، صورا متنوعة تتصل حينا وتنفصل حينا آخر، بموضوعتي الثلج والنار. فعن الحب وأحوال المحب يبتكر بوكبة تلوينات سريعة، تشي بالأبعاد الواقعية والرمزية للمرأة، باعتبارها مصدرا من مصادر الإلهام والأوهام أيضا، حيث رحلة العاشق بين الماء والنار كأنما هي رحلة بين الشتاء والصيف بين الأمن والخوف. يقول: العاشق اللي عطلو الثلج/ توسد دمعة/ وكمل رحلتو/ في/ م ن ا مو. (ص46) سمعت/ باللي ضيعتِ خاتمك/ في الثلج/ ذوبتو بحَرّ نفاسي/ ولبسني/ ل خ ا ت م. (ص54) رميت شوقي ليك/ في الثلج/ زاد/ ش ع ل. (ص59)
وهي ذات التلوينات الشعرية، التي نجد مقابلا لها عند عادل لطفي، في الاتجاه المعاكس، حين يجوب هو الآخر دروب الوله والأمل والشوق والحنين والانكسار والخيبة. تلوينات يضمها كتاب النار تزاوج بين الحضور والغياب وبين الظفر والانهزام. يقول: ف نار شوقك/ ذابت حروفي/ شرق الكلام. (ص82) ف عينك مويهة صافية/ شربها حريق قلبي
زندت العافية. (ص80)
هكذا حين ترتسم علاقة الشاعرين التخيلية بالثلج والنار، تتضح بعض جوانب رؤيتهما للذات والعالم من جهة، وللآخر ومن حوله من جهة ثانية. ولأن هذه المادة أو تلك، تتصل بالحالة النفسية للذات الشاعرة، في تجاذباتها المتنوعة حزنا وفرحا، بعدا واقترابا، تحضر موضوعات أخرى ثؤثت فضاء الثلجنار، كصور الليل والظلمة والضوء والزمان والمكان، مثلما نجد في شذرة عبد الرزاق بوكبة: لمدينة/ اللي غطاها الثلج/ ترقد على حكاية سودة/ وتصحى/ على حكايات/ بلا/ ل و ن. (ص40)
أو نجد في شذرة عادل لطفي، بما تحيل إليه من معالم الألم والخيبة والانتكاسة: ملي صرت نار/ حرقت وردة/ ندمت/ مالقيتش الدموع../ باش نبكي/ جيت لهاذ الكسدة/ تسد باب الرجوع.. (ص127)
ومع كل شذرة ثلجنارية، تتحقق الدهشة وتكتمل الصورة الجمالية، التي ارتضتها الذات الشاعرة في التعبير عن نفسها، تارة بشعرية التأمل في جدل الخفاء والتجلي، من خلال رصد العلاقات الوظيفية بين التراكيب والجمل، وتارة أخرى بشعرية التساؤل عن قلق الإنسان في بحثه المستمر عن المجهول واللامرئي، استشرافا لأفق تُرسّخ فيه الذات حضورها وهويتها الوجودية، ولنا أن نتأمل شذرة عبد الرزاق بوكبة: من فرحتو بكسوة الثلج/ مات/ الشيخ العريان/ في ليل/ ل م د ي ن ة. (ص39)
أو نتأمل بذات الأفق الجمالي والإنساني، شذرتي عادل لطفي الاستفهامية: النار يلا عطشت/ يرويها الما/ والما يلا عطش/ آش يرويه؟ (ص109) منين خذات النار لونها:/ من بكا الرمان؟/ من نعاس الشمس؟/ ولا من وجهي/ يلا هجراتني القصيدة؟ (ص116)
وبذكر القصيدة، تحضر الكتابة، كرؤية فنية تختزل طبيعة اندماج الذات الشاعرة في العالم ونوعيةَ التواصل الإنساني بينها وبين الآخر. ومن ثمة، لا غرابة أن نعثر على ألفاظ وتراكيب، بله مقاطع متفاوتة الحجم والمعنى، تسعى لتكريس دلالات الثلج والنار كما في الطبيعة، من جهة، وتسعى إلى تأسيس دلالات جديدة يُستحضر خلالها المحفوظ والمقروء والمرئي والمتخيل، من جهة ثانية. يقول عبد الرزاق بوكبة: الثلج/ ورقة كبيرة/ فتتها جوع الشتا/ لميتها/ وهديتها/ للصيف باش يكتب/ ح م ت و. (ص21)
وتبعا لذلك، يمضي الثلج والنار في خدمة القصيدة، من البدء إلى المنتهى. حيث يحضر المعجم الشعري بكل ثقله المستمد من منيع متنوع ينهل من الذاكرة والطفولة والطبيعة والوجدان، ويصير الشاعر مدفوعا إلى التعبير والكتابة عما يحسه أو يتخيله، في لغة تستجيب لدواخله ومشاعره. فالقصيدة تلجأ إلى الثلج حين تلتهب بنار معناها، والذات تلجأ إلى النار حين تتجمد في صقيع مبناها. غير أن السؤال الذي يطفو على السطح هو: من يكتب؟ الشاعر أم القصيدة؟ من يتولى القيادة؟ الذات أم الموضوع؟ أم هما معا؟ يقول عادل لطفي: القصيدة جمرة كادية/ بغى يطفيها السكات/ ما قدرش. (ص83) لقصيدة نار/ كتشعل، كتضوي، كتدفي وكتحرق/ لقصيدة نار../ ما كتطفاش. (ص120)
ومع القصيدة، تتوالد الأسئلة وتتنافر الأضداد بين الحياة والموت، بين الفراغ والامتلاء، بين الجوع والعطش، بين الأمل والألم، بين الرهبة والرغبة، وبين الماء والنار. في ديوان الثلجنار، مساحة كبرى للتأمل في الذات والحياة، ينطلق خلالها الشاعران من خلفية ثقافية متنوعة ومنفتحة، تستحضر مستلزمات القصيدة العربية القديمة، كما تستضمر الوعي بالكتابة الزجلية الحديثة، ومنها لحظة (العبور) كما ألمح إليها الشاعر أحمد لمسيح في تقديمه للديوان، بما هي لحظة شعرية تنحو نحو التجريب والاختراق الإبداعي. كلا الشاعرين ينهلان من معين تراثي وحداثي، حيث يحضر الشعر والبلاغة والمسرح والحكاية والفلسفة والأسطورة، مما يفتح كوات عميقةً تسهم في جلب وجذب القارئ المتلقي. ولا ريب أن الشذرة بما تمنحه من إمكانات واسعة للتجويد والتقطيع والحذف والابتكار، منحت الشاعرين القدرة على إحداث الدهشة وخلخلة أفق الانتظار.
ولأن الإيقاع الداخلي شكل عنصرا من عناصر البناء الفني للشذرة الزجلية؛ فإن ما صادفناه من تلوينات جمالية لهذا الإيقاع بأنواعه المختلفة يعد أمرا مبررا. من ذلك الحضور المكثف للطباق والجناس في نماذج متفرقة، نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر: حطيت يدي على الثلج/ تفكرت أيامي اللي بلا بيك/ ونسيت/ ي د ي. (ص47) نار الحب/ شعلها الحب/ طفاها الحب. (ص95)
ومنها نماذج أخرى ارتبطت بظاهرتي التكرار والتوازي بدلالاتهما المتنوعة في سائر الديوان، بدءا بلفظتي الثلج والنار إلى سائر الكلمات المؤثثة للشذرات، نجدها عند عادل لطفي: أنت ماي/ أنت ناري/ آشمن كاس تسقيني؟/ اختاري.. (ص 96) تلاقينا في يوم ثلج/ ع ر ق ت/ تفارقنا في يوم شمس/ ج م د ت. (ص 48)
يمكن، في ختام هذه القراءة في ديوان «الثلجنار»، أن نسجل ملحوظتين اثنتين تتصل الأولى بصنيعة مثيرة تعمدها عبد الرزاق بوكبة في متنه الشعري (تلوين الثلج) ولم تسلم منها أية شذرة من شذراته، ترتبط بصريا بعملية تفكيكٍ وتفتيتٍ لبعض الكلمات، سواء على المستوى الأفقي أو العمودي، في انسجام تام مع المعنى الشعري المقدم. والملحوظة الثانية، تتصل باقتراح عادل في متنه (كتاب النار)، لشذرة تقوم على كلمة واحدة، جامعة مانعة كما يقول المناطقة، هي: (الرْماد ص111)، وكأننا بها اختزال، ضمني وصريح في آن، لجدلية الحياة الموت.
إن الشاعرين عبد الرزاق بوكبة وعادل لطفي يقدمان في تجربة «الثلجنار» نموذجا حيا، لانتصار الشعر ولما يمكن أن يكون عليه العمل المشترك، من نقاء الروح وصفاء الرؤية وحداثة الإبداع، تتقاطع فيه التجربة واللهجة وتتوحد في مساره القيم الإنسانية والجمالية. وإن كان الديوان يحتفي بموضوعتين متناقضتين، في الظاهر، هما «الثلج» و»النار» في صلتهما بالإنسان والطبيعة؛ فإن الشاعرين كانا حريصين على تبيان المشترك بين العنصرين، بما يضمن انسجام النص ووضوح الرؤية الشعرية. ومن ثمة، تمثل الموضوعتان لحظة إبداعية تعيد النظر في المتناقض والمختلف، وصدق الشاعر القديم إذ قال: وبضدها تتبين الأشياء !!.
—-
إحـــالـــة
*/ الثلجنار. عبد الرزاق بوكبة وعادل لطفي. منشورات بيت الشعر. 2015


الكاتب : أحـمـد زنـيـبـر

  

بتاريخ : 10/11/2017

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *