وداعا أيتها البهجة المكتنزة بالضحك

 

حين تمعن النظر في ابتسامتها السائلة، لا بد أن تتذكر بكثير من الفرح أن الحياة ليست حاجة فقط، بل عادة جميلة لمواجهة السأم الداخلي والفراغ؛ هذا ما جعلتنا سعاد نؤمن به، دون أن نتراجع عن قرارنا العالي في بناء المواقف التي يقتضيها مزاج الفصول.
امرأة متحيزة دائما لما يجعلها خفيفة من عبء “الداء والأعداء”. تقف على مقربة من الضحك، تحادثه وتشاغبه وتخاصره، وقد تراقصه بسعادة غير آبهة بذلك التجهم الذي ينفتح حولها على مصراعيه.
امرأة تلقائية حتى النخاع، تخترق القلوب الأسوار بيسر، لأنها لم تكن في حال من الشك في الآخرين. ذراعان مفتوحتان على الدوام، تفتحهما لإخراج الحياة من التوابيت المستعملة كثيرا، ومن ذلك الإناء الذي يغلي بحكم الصدور المليئة بالرغبات المنكسة، ومن ذلك “الإطار” المكتوب بتاريخ من التجهم.
لقد علمتنا سعاد، يوميا، ماذا يمكن أن يصنعه الكائن بنفسه. تأتي إلى الجريدة، تركن سيارتها على مقربة، وتعبر الباب لتنثر جسورا من اللؤلؤ تحت الأقدام. تقول لعروقنا الفوارة من تعب: “يا عرق الدم الصغيرة أفيقي!”. وحين نبتسم، يتوهج وجهها الطاعن في الضوء، و”ترفرف في عينيها حمامتان من بنفسج” (كما يقول الجميل محمد الماغوط).
علمتنا سعاد، دون أن ندري، أن الغضب فخ، وأن اعتناقه يرفع الأوحال إلى الأعناق. وكثيرا ما جعلتني سعاد أتخفف، وأرتقي، وأعبر الجحيم كأنني أستظل بالكروم. كثيرا ما جعلتني أبتسم، وقد أتسكع تحت الموسيقى الشعبية التي كانت تحبها كثيرا، وكانت تزعج بها تلك “الأحقاد الصغيرة” التي تعبر بارتخاء. كثيرا ما كانت تسند رأسها على ظلاف النوافذ لتصطاد مشهدا لغيمة بجناح واحد، أو لما يجعلنا نقهقه عاليا، حتى ننبطح أرضا. كثيرا ما كانت تطرد “الحزن” الذي يعتري أحدنا بتلك المكنسة التي تصنعها من كلام يتدفق بين الصلب والترائب. كثيرا ما أخذتني من يدي لنشرب قهوة في مكان قريب، وكانت تحكي عن ذلك التجويف الأملس في القلب، عن أمها الشاهقة في الأغاني، وعن إخوتها الذين كانت تستغرق في الحدب عليهم بامتنان؛ كانت ممتنة لأنها كانت مغمورة برائحة الثدي الذي رضعوا جميعا منه، ولأنها كانت تدرك أنها “أخت” غير قابلة للتعويض.. وكانت تحكي، حين يسهل الكلام وتطيب النفس، عن الأحلام التي عاقرتها بروح امرأة شهية.. عن آثار الأقدام في القلب، عن السهام التي في الخاصرة، وعن الضحك الغزير الذي ارتجف منها كخيول وحشية تركض كيفما اتفق على قارعة المفارقات الكبيرة.. وعن الأماني المغطاة بالجواهر التي تركتها تبرد في الظل.. وعن الذين اندفعوا نحوها، وعن الذين دفعتهم عنها، وعن البيت المعبأ بدفء الوسائد ورائحة المطبخ ورحيق الأم..
سعاد، الأخت.. التي تتلألأ كوردة زرقاء على رابية، “لن تلتقي عيوننا بعد الآن”، لكنك ستظلين متوهجة كقنديل مضاء في الذاكرة. سنسهر معك في ذلك المكان الجميل التي كنت تحلمين بالركض فيه بضفيرتيك وبهجة عينيك، خارج الضباب المتعفن وخارج التعب وخارج المرض وخارج السرير.
سنشتاق إليك أختي سعاد دون هوادة..
سنشتاق إليك في الشرفة، مع كل غمزة ضوء، ومع كل هطول غيمة..
سنشتاق إليك بأذرع تُلَوِّح، وبقلوب مفعمة بهذا الأنين الذي زارنا في الصباح الباكر..
وداعا أختي سعاد، وداعا أيتها البهجة المكتنزة بالضحك..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 10/09/2019