وَحْدَها النَّوافِذُ..

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
لَفظَتِ الشّوارِعُ حَمولَتها داخِلَ البَيوتِ
تفرَّغتْ للاطْمِئنانِ على صمتِها العجيبْ
تَتأمّلُ السّياراتِ المركونةً على عَجَلٍ
تَغْرقُ في شَخيرٍ
غَيرِ معْهودْ
ومحَطّاتُ الوَقودْ
نعَم محطاتُ الوقودِ
لمْ تُصدِّقْ أنها شِبهُ عاطِلةٍ
لمْ تُصدِّقْ أنّها لمْ تعُدْ قَدرًا هيَ التي اسْتعْصَتْ مِرارًا على دعواتِ المقاطعهْ
لمْ تُصدِّقِ المَقاهي التي اسْتَسْلمَتْ لِكوابِيسِ النَّهارِ وأحلامِ اليقظةِ أنها في عُطلةٍ إجْباريةٍ
سَتشتاقُ لِرائِحةِ القهوة وَورَقِ الجَرائِدْ
إلى أنْ يَمُرَّ لَيْلٌ لَمْ يَأبَهْ بِوَفاءِ الشّمْسِ لِتقاليدِ الشّروقِ والغروبْ

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
السّماءُ مَشْدوهَةٌ
لمْ تُصدِّقْ أنهَا زَرقاءُ على غيرِ عادتِها
زَرْقاءُ فعلا كَما كُنَّا نَشْتَهي
لمْ تُصدِّقِ الطيورُ أنها تُحَلِّقُ مُطْمَئنّةً
لا يُعكِّرُ بهْجَتها هدِيرُ الطائِراتْ
لمْ تُصدِّقِ السُّحبُ القَليلةُ التي تَمرُّ مُسرِعةً
أنها بيْضاءُ كالثَّلجِ
كأنها اغْتسَلتْ لِلتَّوِّ في نهْرِ
ولمْ يُصدِّقِ الهَواءُ أنّهُ عَليلٌ
خَفيفْ
لا تَشوبُهُ أدْخِنةٌ ولا عَكَّرتْ مِزاجَهُ الصَّعْبَ غازاتٌ مِن كُلِّ أنواعِ السمومِ
كأَنَّ المدينةَ اسْتعارتْه مِنْ قِمَّةِ جبلٍ
أوْ مِنْ كُرّاساتِ الخُضْرِ الحالمةِ

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
وأنا أحْتَمي بِضوئِها
بِهوائِها
لمْ أُصدِّقْ أنَّني لا أحْلمُ هذهِ المَرَّةَ
ولمْ يُصدِّقِ الضَّجيجُ المقيمُ أنّهُ اخْتَفى مِنْ هَلَعٍ
والأبوابُ أقْفَلتْ أبْوابَها
والرَّوائِحُ المُزْدحِمةُ اخْتفَتْ فجأةً
أفْسحَتِ الطّريقَ لنَسيمِ البحْرِ اليَتِيمْ
واستراحتِ الأرْصِفةُ مِن أحذيةِ الرَّاجلينَ وعرباتِ الفواكهِ وبائعي السَّجائرِ وعِصاباتِ الحَشيشْ
لمْ تُصدِّقِ المساجدُ أنَّ المُصلِّينَ ولُصوصَ الأحذيةِ تَركوها رغْمَ وفاءِ المُؤذنِ لمواعيدِ الصَّلاةْ
ولمْ تُصدِّقِ الحاناتُ أنها تَخلَّصتْ مِنْ عَرْبدةِ مَجانينِها واشْتاقَتْ لِنغماتِ عازفِ الكمانْ
ولمْ يُصدّقْ ماسِحُ الأحذيةِ أنَّهُ بلا عَملٍ لَعلَّ الحُكومةَ لا تَنْسى قوتَ أُسْرتِهْ

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
كيْ أتَنفّسَ عميقاً
لمْ يُصدِّقِ الدُّخانُ الوَقِحُ أنَّهُ أيضًا هَرَبَ
اكْتَشفَ كمْ هُو جَبانٌ ونذلْ
لمْ تُصدِّقِ المدينةُ أنها اكْتشفتْ فَجأةً غيْرَتها مِنَ القرى
ولمْ يُصدّقِ الأطْفالُ أنهم هَجروا لُعَبَ أزِقَّتِهمْ
اخْتَلطتْ عليهِمُ العُطَلُ بالدِّراسةِ عَنْ بُعد
لمْ تُصدِّقِ القِطاراتُ أنها أصبحتْ بلا جَدوى
وأن الكونَ دَخل زمناً آخَرَ واسْتبْدلَ سِكَّةَ الحديدِ بِطُرقٍ أخْرَى
لمْ تُصدِّقْ مُخابراتٌ أنها فَقدَتْ طَراوَتها أوْ لعلَّها تَجرُّ العالمَ إلى فَخٍّ كيْ تَتخلَّصَ مِنْ عِبْءِ الطاعِنينَ في السِّنِّ أو لترويجِ سِلَعٍ جديدةٍ أو لبِناءٍ على أنقاضِ تدميرْ

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
كي لا أخْتنقْ
لمْ تُصدِّقِ الهواتِفُ الذَّكيةُ أنَّ شأنها يَعْلو حَيثُما نَزلَ سِعْرُ النَّفطِ والصَّرفْ
وإنها تُطيحُ بالعَرباتِ عنْ عُروشِها وتسْطُو شاشاتُها على أقْسامِ الدَّرسِ ونَشراتِ الأخبارْ
وَأنها سَحَرَتْ بِلا هوادةِ أصابعَ الصِّغارِ وعُقول الكِبارْ
ولمْ يصدِّقِ الرِّجالُ أنهم لنْ يُغادروا كُلَّ صَباحٍ
وأنَّ عليهِمُ التَّأقْلُمَ معَ سَطْوةِ المطبخِ وغَسْلَ الصُّحونْ

وَحْدَها النّوافِذُ
تشْرعُ أبْوابَها
كي لا تَتوقَّفَ الحياةُ
لمْ أُصدِّقْ أنهُ لا زالَ بإمكاني أنْ أَكتُبَ شِعرًا
ولمْ تُصدِّقِ العُزْلةُ أنها لم تَعدْ قَدرَ الشّاعرِ وحُرِّيتَهُ
هَربَ الجَميعُ إليها بِلا اسْتِئذانٍ
خوفًا مِن وحْشٍ خَفيٍّ يَطرُقُ الأبوابَ في صَمتْ
…..
وَحدَها النوافذُ تَسْتحمِلُ حَماقاتِي
وحْدَها
النَّوافِذُ
تَسْتحْمِلُ
حَماقاتِ
العالَمْ


الكاتب : محمد بلمو

  

بتاريخ : 02/04/2020

أخبار مرتبطة

  رن الهاتف ، كنت في الحمام مستمرئا الدوش الفاتر، تلففت بفوطة، شربت كوبا من محلول عشبة اللويزة، موطئا لنوم

  جلست على شاطئ الحيرة أسكب المعاناة على الورق، وأشكل أمواج الغضب، تطاردها الجروح ويرافقها السؤال واحد يدعي الحضور! على

الحياة التي نحارب من أجلها… الحياة التي نمارسها أمام العلن… والحياة التي نتمنى أن نعيشها… لا علاقة لها بما نعيش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *