ينتمون لأوساط اجتماعية مختلفة: مشردو الرشيدية.. حكايات معاناة لا تنتهي

نزلت الجريدة الى الشارع الراشدي، والتقت نماذج من المشردين بعدد من أحياء و شوارع المدينة ، حكوا بصعوبة الخطوط العريضة لمعاناتهم اليومية ، في الوقت ذاته ،قبل بعض ذويهم وبعض معارفهم و جيرانهم تزويدنا بتفاصيل قد تكون هي الأصل في تشريدهم و تمزيق حياتهم ، التي عجزوا هم ( المشردون) عن الخوض فيها ، لما قد تثيره في أنفسهم من جراح عميقة .
بحثا عن « دفء الكارطون»

يعيش (سيمحمد) وهو اسم مستعار، منذ سنوات طويلة في الشارع ، يتخذ (كرطونة ) بجانب المحطة الطرقية ملجأ له ، يعود إليها بعد أن ينتهي تسكعه اليومي ، أو كلما احتاج قسطا من الراحة ، جميع العاملين بالمحطة الطرقية يعرفونه» لكنهم لا يعرفون قصته ، لا يحب (سيمحمد) كثرة الكلام ، ويفضل الصمت أحيانا ، على الإجابة عن الأسئلة التي تقلب عليه المواجع، يقول في هذا الصدد: « تعودت على الأمر ومع الوقت أصبحت أشعر بالراحة لأنني في مدينتي الجميع يعرفونني..» .
يعيش (عبد الله) من إعانة بعض أبناء حيه ، خاصة أولائك الذين يعرفونه جيدا ويعرفون حكايته … كثيرة هي البيوت التي تقدم له ما يحتاجه من أكل وشرب وأغطية ومصروف للجيب أيضا يقول (عبد الله) ، : «كل واحد وباش كيجود عليا». وبعض سكان الحي يمنحونني المال لأنهم يعرفون جيدا أنني لا اتعاطى أي نوع من المخدرات، فقط اشتري بها السجائر الرخيصة ، إنها بليتي الوحيدة …».
احد معارف عبد الله يحكي قصته بكثير من الحسرة والتأثر. فالرجل الذي تجاوز اليوم الستين من عمره كان جنديا ، وكان يعيش مع أمه في بيت متواضع ، وكان مدلل والدته التي كانت تربطه بها علاقة قوية جدا ، إلى درجة رفضه الزواج ، وتأسيس أسرة ، خوفا من الابتعاد عن حضنها .
مأساة عبد الله ستبدأ بوفاة والدته ، وهو الحدث الذي تسبب له في صدمة نفسية قوية جعلت إقباله على الحياة وحماسه للشغل والعمل يتراجعان تدريجيا ،الشيء الذي دفعه إلى طلب إرث أمه ، الذي لم يكن يتعدى مبلغا بسيطا من المال ، يغنيه عن التفاهات ، قبل أن يلجأ إلى مغادرة عمله العسكري
عبد الله اليوم ، شخص انطوائي، يجلس بزاوية بحي تاركة القديمة ، لا يكلم أحدا ، لا يطلب صدقة من احد وكلما جادت يد محسن إليه ، حرك رأسه ، كعلامة شكر، وملامح وجهه رغم ما أصابها من تجاعيد وانكماش .
«مجنونة» الحب والعشق

(حميدة) ، وهو اسم سيدة تعيش بين شوارع الرشيدية ، حالة استثنائية حكايتها تصلح أن تكون فيلما سينمائيا ، جاوزت الأربعين من عمرها ، رغم اثر الزمان الأغبر «الهم والهموم « مازالت تحمل «من الزين حروفو»، ابنة عائلة رشداوية متواضعة ، هاجرت إلى الديار الاسبانية ، وفي مدريد درست حميدة ، وحصلت على شهادة البكالوريا ، قبل أن تعود ذات صيف إلى الرشيدية ، لقضاء عطلتها ، حيث كانت على موعد مع خطيبها ، أنذاك تحولت حياتها رأسا على عقب . تعرفت حميدة (اسم مستعار) على شاب وسيم عاشت معه قصة حب فريدة ، انتهت بزواجها ، لينتقل الزوجان للإقامة بالعاصمة الاسبانية قبل أن( يتسيف ) الشاب على زوجته (حميدة) ، وبدأ ينظر إليها بوجه مخالف تماما ، وذلك بمجرد تسوية وضعيته في المهجر ، ما جعله يهجر حميدة و يتخلى عنها ، ويلتقي بأخرى، و يعيش حياته معها ، بالطول والعرض أمام الزوجة الأولى (حميدة) ، وهو الوضع الذي لم تتحمله ، الشيء الذي عرضها إلى التشريد و التسكع والسماح في كل شيء …كانت عاشقة مجنونة ، فكانت الصفعة والصدمة الكبرى في حياتها التي لم تتمكن من تجاوزها فبدأت بوادر المرض النفسي تظهر عليها ، فعادت (حميدة) إلى المغرب لتعيش مع والديها وأختها الذين فضلوا العودة الى الوطن ورفضت العودة إلى اسبانيا حيث ذكرياتها الأليمة ن مثلما رفضت حصص العلاج وتناول الأدوية ، كانت تقعد في البيت لماما وتهيم في الشوارع اياما وليالي قبل أن تعود إلى زاويتها في حومة قريبة من منزل والديها ، حيث تجلس للتدخين والنقاش مع أولاد الدرب» حول مواضيع السياسة والفن والمجتمع و حين يصل النقاش إلى ذروته ويستفزها احد برأي مخالف تصعد (حميدة) من وتيرة صوتها، وتبدأ بالتكلم بلغة فرنسية سليمة لا تشوبها شائبة أو خطأ إلى أن ينفض جميع من حولها حين تنتابها نوبة صراخ التي لا تنتهي إلا مع خيوط الصباح الأولى حين تستسلم للنوم.
مصطفى.. صاحب الشهادات العليا

يتداول سكان شارع شيخ الإسلام بالرشيدية ، جميعا من كبيرهم إلى صغيرهم ، حكاية مصطفى ، ويجمعون تماما على أن ( لقراية هيا لي سطات مصطفى) ، ابن عائلة غنية ، فضل أن يظل بدون مأوى ويعيش في الشارع بدل أن يكون بين أهله الذين يقطنون في فيلا راقية ، يسهرون على راحته ، لا أحد فهم سبب تغير حاله بين عشية وضحاها بعد أن حصل على الإجازة ، وشهادة من أحد أكبر المعاهد في العاصمة الإدارية.
يقول أحد أفراد عائلته لم تكن تبدو على (مصطفى) ملامح المرض آو أي شيء غير طبيعي ، بل كان شخصا عاديا يستيقظ في الصباح إلى عمله ، ويعود إلى بيته بعد أن يقضي طول اليوم في المقهى أو الحانات ، لم يكن يرتادها من قبل .
كان مصطفى حريصا على الانزواء في غرفته كل مساء بعد عودته من العمل وأيام العطل والأعياد، لا يكلم أحدا ولا يرد على أحد يزعجه ، بل يحب اختراق لحظات خلوته مع نفسه ومع كتبه وقد تكون لديه ردود أفعال عنيفة على ذلك ، ومبالغا فيها في أغلب الأحيان ، لدلك حين غادر البيت وخرج إلى الشوارع هائما ، اعتقد الكل أن كثرة قراءة الكتب والروايات ، استحوذت على عقله تماما وأبعدته عن الواقع المعيش .
مصطفى ، ليس مجنونا يقول أحد أفراد عائلته ، في لحظات صفوته وصفاء ذهنه يعود إلى البيت ليستحم ويتناول طعاما ويشاهد التلفزيون ويتحدث معنا وكأن شيء لم يكن ، وكأنه لم يغادر البيت أبدا، وبعد مدة قصيرة يغادره من تلقاء نفسه.
يقول جيرانه: مصطفى شخص مثقف ، حين يفتح نقاش موضوع ما ، تجده يتحدث برصانة وعمق وتحس به متمكنا مما يقول .
محنة مضاعفة

محنة مضاعفة تلك التي تعيشها فئات هشة من المجتمع، ليس فقط بحكم الفقر والعوز أو التشرد بلا مأوى، ولكن لأنهم محرومون من الحق في حياة أفضل و عناية تحولهم الى مواطنين قادرين على الاندماج في مشروع النماء و الازدهار الذي يصبو إليه كل مواطن . كما أن آفة التشرد من المشكلات الكبيرة في المجتمع ، التي تتغذى في نموها وتكاثرها من أحزمة البؤس والظلم والازدراء ، والنتيجة أعداد من المشردين الذين اغتصبت منهم إنسانيتُهم، لَمَّا لم يجدوا بيوتا تأويهم، وحياة مستقرة تعيد لهم الإطمئنان اللازم لاستعادة معنى الإحساس بدفء الأسرة ، بعيدا عن قساوة الشارع وبرودته الفتاكة .


الكاتب : فجر مبارك/الرشيدية

  

بتاريخ : 23/02/2018