تقول عنه زوجته، ورفيقة درب حياته، في رحلة عمر امتدت لأكثر من 70 سنة، السيدة فريدة آكاردي كالودجيرو منصور:
«لو سمح الله للملائكة أن تمشي في الأرض وتتزوج، لكان سي محمد منصور واحدا منها».
إنه المقاوم والوطني والمناضل التقدمي الراحل محمد منصور، الذي سنحاول هنا رسم ملامح سيرة حياته، بما استطعنا إليه سبيلا من وثائق ومعلومات وشهادات. فالرجل هرم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حكم عليه بـ 3 إعدامات و مؤبدين في الإستعمار واعتقل وعذب في الإستقلال من أجل الكرامة والديمقراطية.
هو المساهم والمنفذ لأكبر عمليات المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي (عملية القطار السريع بين الدار البيضاء والجزائر يوم 7 نونبر 1953. وعملية المارشي سنطرال بالدار البيضاء يوم 24 دجنبر 1953)، أول عامل للحسيمة سنة 1957، وأول رئيس للغرفة التجارية بالدارالبيضاء سنة 1960.
محمد منصور، هرم، يصعب جديا الإحاطة بسيرته بالشكل المنصف تاريخيا، على الأقل لسببين:
أولهما أن الرجل كان صموتا جدا، يرفض بحزم، البوح أبدا بالكثير من التفاصيل الدقيقة كشهادة أمام التاريخ، بسبب من ثقافته السلوكية، التي ظلت تتأسس على أن ما كان يقوم به، كان يقوم به بنكران للذات من أجل الصالح العام.
ثانيهما طبيعة السرية التي حكمت عمله النضالي ضد الإستعمار وفي أجزاء كثيرة من زمن الإستقلال من أجل العدالة الإجتماعية ودولة الحق والقانون والحريات.
وإذا كانت هناك من خصلة ظلت مميزة عند محمد منصور فهي خصلة الوفاء. الوفاء لرفاق الطريق الخلص، الوفاء للفكرة الوطنية، الوفاء لقرار نظافة اليد، الوفاء للمبدئي في العلائق والمسؤوليات، مما يترجم بعضا من عناوين الجيل الذي ينتمي إليه رحمه الله، الذي يتصالح لديه الإلتزام السياسي مع السقف الوطني، وأن السياسة ليست مجالا لبروز الذات، بل مجالا لتطوير الجماعة في أفق بناء، تقدمي وحداثي (الحداثة هنا هي في تلازم المسؤولية بين الحق والواجب).
محمد منصور، ستكتب عنه كل صحف فرنسا الإستعمارية (ونقلت صدى ذلك صحف باريس أيضا)، يوم وقف أمام القاضي العسكري بالمحكمة العسكرية بالدار البيضاء سنة 1954، كي يفند التهم الموجهة إليه ويفضح تهافت جهاز الأمن الفرنسي في كافة مستوياته الأمنية والعسكرية والمخابراتية، حين أظهر لهم كيف أنهم يحاكمون سبعة مواطنين مغاربة ظلما بتهمة تنفيذ عملية «القطار السريع الدارالبيضاء – الجزائر»، بينما هو منفذها، مقدما تفاصيل دقيقة أخرست القاعة والقضاة والأجهزة الأمنية. وقدم مرافعة سياسية جعلت مستشارا قضائيا فرنسيا يجهش بالبكاء، حين رد على القاضي، الذي اتهمه بالإرهاب: «سيدي القاضي، نحن وطنيون ندافع عن بلدنا، ولسنا إرهابيين، نحن نقوم فقط بنفس ما قام به الشعب الفرنسي لمواجهة النازية الألمانية لتحرير فرنسا. فهل ما قام به أبناؤكم إرهاب؟».
هنا محاولة لإعادة رسم ذلك المعنى النبيل الذي شكلته سيرة حياته، من خلال مصادر عدة، من ضمنها عائلته الصغيرة (زوجته السيدة فريدة منصور، ونجله الأخ زكريا منصور، وابنته السيدة سمية منصور)، وعشرات الوثائق الموزعة بين مصادر عدة فرنسية ومغربية، دون نسيان الأيادي البيضاء المؤثرة للأخ الدكتور فتح الله ولعلو، في تسهيل إنجاز هذه السيرة كوثيقة تاريخية.
شاءت الصدفة وحدها أن تقود إلى اعتقال سي محمد منصور لأول ولآخر مرة من قبل السلطات الإستعمارية يوم 4 يناير 1954. ولعل السؤال هو: كيف اهتدت إليه تلك السلطات بسرعة، عشرة أيام فقط، بعد تنفيذ عملية السوق المركزي الهائلة والكبيرة بالدار البيضاء؟.
قبل الجواب على هذا السؤال، لا بد من التأكيد على معطى مهم، هو أن المرحوم محمد منصور كان يرفض دوما الحديث عن دوره في المقاومة وجيش التحرير المغربي، من منطلق أنه يؤمن (كما أكد لي أكثر من مرة رحمه الله) أن ما قام به لا بطولة فيه، وأنه ليس مجالا للمفاضلة والمباهاة، بل إن ما قام به يعتبره واجبا أمام الله وأمام الوطن. ولا تزال ترن في أذني كلماته التي تقول:
«قمنا بما قمنا به في سبيل الله، وكنا نعتقد أن تحقيق الإستقلال بعيد وسيتطلب سنوات، فاتفقنا في ما بيننا وأقسمنا أن من سيكتب له أن يعيش حتى يرى لحظة الإستقلال، أن نحرص على ارتداء لباس أبيض ونمر في استعراض عمومي أمام ملك البلاد، ثم نعود إلى أعمالنا وحياتنا الطبيعية، غفلا لا يهتم بنا أحد. إن أمنيتي يوم أموت أن يمحى كل أثر لقبري حتى لا أكون مجالا للمباهاة من أحد» (لا تعليق).
ابتدأت القصة، إذن، من «ضيعة وادي يكم»، حيث نقل هو والشهيد محمد الزرقطوني وبونعيلات المجموعة المبحوث عنها من المقاومين التابعين لخلاياهم، إليها. فقد حدث أن كلف مقاوم من مجموعة الرباط (حسب رواية مستقاة من قبل الوطني الكبير محمد بنسعيد آيت يدر، من واحد من شهود تلك المرحلة هو المقاوم محمد أحمد بوزاليم)، كلف بأن ينقل المقاوم عبد العزيز الماسي المبحوث عنه حينها إلى الضيعة تلك، قبل نقله إلى المنطقة الخليفية بالشمال. وحدث أن أصيبت السيارة تلك بعطب مما دفع سائقها إلى حملها عند ميكانيكي بالرباط، الأمر الذي جعل أحد المخبرين يلمح بالصدفة عبد العزيز الماسي جالسا داخلها، وهو يعرفه من خلال الصور الموزعة للبحث عنه، فسارع إلى التبليغ عنه. استدعت الشرطة في الغد، صاحب السيارة وشرعت في استنطاقه عمن كان معه البارحة، فاهتزت ثقته في ذاته، واعترف بعد جلسة تعذيب أنه كان يحمل فعلا عبد العزيز الماسي وأن صلة الوصل بينهما هو المقاوم الرباطي صالح بنبراهيم، الذي تم اعتقاله على الفور (علما أن الماسي لم يلتحق أصلا بالضيعة لأنه غير مكان مبيته تلك الليلة بالرباط من بيت صالح بنبراهيم إلى بيت المقاوم والوطني الخنبوبي، هذا الأخير هو الذي ساعده على العبور والهرب إلى تطوان عبر مولاي بوسلهام).
اعترف المقاوم والوطني بنبراهيم، بعد تعذيب شديد بمخبأ «ضيعة وادي يكم» يوم 2 يناير 1954، التي حوصرت بقوات كبيرة من الشرطة والجيش الفرنسيان حيث تم اعتقال من كان مختبئا بداخلها، وبعد 24 ساعة من التعذيب والتحقيقات بلغ مجموع المعتقلين 9 وطنيين مقاومين يومي 3 و4 يناير 1954، من ضمنهم محمد منصور ومولاي العربي الشتوكي (اعتقلا يوم 4 يناير، بفارق ساعات قليلة بينهما)، والوحيدان اللذان لم يعتقلا رغم ورود اسميهما في أغلب التحقيقات هما الشهيد محمد الزرقطوني وسعيد بونعيلات. هذا الأخير سيتمكن أياما قليلة بعدها من العبور إلى الشمال والإلتحاق بتطوان. فيما تكفل الزرقطوني بإعادة تنظيم المجموعة المركزية للمقاومة بالدار البيضاء من خلال إلحاق كل محمد الفقيه البصري بها ومولاي عبد السلام الجبلي والفقيه الفكيكي وبوشعيب الحريري، فولدت ثاني قيادة مركزية للمقاومة بعد سقوط أغلب عناصر القيادة الأولى، التي خططت ونفذت العمليات النوعية الكبرى الأشهر للمقاومة المسلحة المغربية ضد الإستعمار بالدار البيضاء.
كانت الشرطة تبحث عنه في ذلك الصباح من يوم 4 يناير 1954، وظلت تنتظره قرب محل زوجته التجاري الأول لبيع العطور والأثواب (كونه أغلق نهائيا حينها بإلحاح من زوجته محل النجارة لخوفها عليه من الإصابة مجددا، وتفرغ للعمل بذلك المحل بقيسارية الحفاري، بينما زوجته تشرف على محل ثان لبيع الأثواب الأروبية بقيسارية المنجرة). كان هو قد توجه صباحا – كما تؤكد زوجته السيدة فريدة آكاردي منصور – إلى بناية الطرود البريدية لاستخراج سلعة وصلت من فرنسا. وحين عاد إلى المحل التجاري بقيسارية الحفاري، وما أن هم بفتح بابه بالمفتاح حتى وقف عليه رجال الشرطة قائلين له: «هل أنت هو محمد منصور؟». قال لهم أن نعم، فطلبوا منه أي يريهم يده اليسرى، فرفعها أمامهم، حيث تأكدوا أنه هو، لأن من اعترف عليه أخبرهم أن أصبعين من يده تلك مبتوران. وضعا الأصفاد بيده وقاداه مباشرة إلى ولاية الأمن المركزية بالمعاريف.
كانت زوجته حاملا في شهرها السابع بابنتها السيدة سمية منصور، وكانت بمحلها التجاري الثاني بقيسارية المنجرة حين بلغها خبر اعتقاله. أسرعت بإغلاقه والتوجه رأسا إلى بيتهما بحي بوشنتوف، حيث ما هي إلا لحظات حتى جاؤوا به إلى هناك، وشرعوا يبحثون بعنف في كل الغرف. كان من بين رجال الشرطة مفتش فرنسي إسمه «شابو»، تقدم من السيدة فريدة منصور وقال لها أمام الجميع: «ألست ابنة السيد كالودجيرو آكاردي؟» أجابته أن نعم، فقال لها أنا كنت صديقا لوالدك رحمه الله، عليك أن تأتي إلى ولاية الأمن المركزية وجيئي لزوجك بلباس ثقيل. ذلك ما فعلته في المساء، لكنهم رفضوا أخد أي شئ منها. بعد أيام من التعذيب القاسي بإشراف من الضابط الفرنسي مارتينيز، جاءت الشرطة إلى المحل التجاري بقيسارية الحفاري عند السيدة فريدة ومعهم رجل حافي القدمين يلبس جلبابا واضعين القب على رأسه، للتعرف عليه. كان ذلك الرجل هو بوشعيب الغندور، الذي أنكرت معرفتها به، قائلة لهم إن طبيعة مهنتها تجعلها تبيع وتشتري مع العشرات من الرجال وهي لا تتذكر شيئا عنهم ولا تعرفهم (الذي اعترف على سي محمد منصور بعد تعذيب شديد هو المقاوم والوطني الغندور). سألوها عن باقي أصدقاء زوجها فأنكرت معرفتها بهم، فقاموا باعتقالها وهي حامل، حيث وضعوها في سيارة الشرطة، وبقي محلها مفتوحا، حيث تطوع شاب من جيرانها لطمأنتها أنه سيغلق المحل ولن تخشى عليه شيئا. حين بلغت سيارة الشرطة طريق مديونة (شارع محمد السادس حاليا)، وجدوا الضابط مارتينيز في انتظارهم، وحين اكتشف وجودها معتقلة داخل السيارة غضب واحتج عليهم قائلا لهم: «هل تريدون أن تلد لكم هنا. أطلقوا سراح السيدة». فأطلقوا سراحها وعادت مشيا على الأقدام إلى محلها التجاري.
كانت اللائحة التي اعتقلت تضم كلا من محمد منصور، مولاي العربي الشتوكي، دابلعيد، بوشعيب الغندور، عبد الله الزناكي، محمد بوزاليم، صالح بنبراهيم، حسن المختار. وكان أن تم نقل محمد منصور للتحقيق معه بالرباط، حيث قضى شهرين تحت التعذيب في فيلا سرية قرب باب الأحد (بمحاداة محطة بنزين). وبعد أسابيع من البحث، من قبل زوجته، جاء رجل شرطة مغربي يعمل مع مجموعة مارتينيز وطلب منها رشوة لصالح المسؤول الفرنسي عنه، إن أرادت أن ترى زوجها، لكنها رفضت امتثالا لنصيحة سابقة للسي محمد منصور أوصى من خلالها زوجته أنه في حال وقع في الأسر أن لا تتعامل أبدا مع البوليس وأن لا تقدم لأي أحد أية رشوة إن طلبها. بعدها بأيام جاءها مفتش شرطة، عبر وساطة من إحدى جارات السيدة فريدة طلبت هي منها مساعدتها في معرفة مكان منصور، حيث كلف سائقه رفقة ابنه أن يحملا السيدة فريدة في سيارته شيفرولي إلى تلك الفيلا بالرباط. وقفت السيارة هناك، في انتظار مجيئ مفتش شرطة اسمه فرانسوا، الذي أكد لها تواجد زوجها بتلك البناية حين قالت له إن أصبعين من يده اليسرى مبتورة، ونصحها بانتظار وصول ضابط إسمه «لوبيز». كانت حينها السيدة منصور قد ولجت إلى تلك البناية تسأل عن زوجها، وعن الضابط «لوبيز» لكن مفتشا للشرطة طلب منها المغادرة وأن زوجها ليس عندهم. عادت للسيارة وبقيت تنتظر، وبعد مدة وقف قرب نافذتها رجل فرنسي طويل القامة، وقال لها «من يسأل عن لوبيز؟»، قالت له أنا. فأخبرها أنه هو لوبيز مؤكدا لها أن زوجها ليس عندهم بتلك الفيلا ونهرها طالبا منها الرحيل بسرعة.
عادت السيدة منصور إلى الدار البيضاء، وقررت العودة يوميا إما عبر طاكسي أو عبر حافلة، وهي حامل، إلى أمام ذات البناية بالرباط، إلى أن حدث ذات يوم أن لمحت رجال شرطة يقودون معتقلا حافي القدمين بجلباب رث قصير، انتبهت لقدميه ورجليه فتيقنت أنه زوجها محمد منصور. لكنها لم تتمكن قط من الوصول إليه، إلى أن جاءها المخاض ذات فجر ببيتها بالدار البيضاء، شهرين بعد اعتقاله، ووضعت مولودتها (ثالث أبنائهما السيدة سمية منصور) وبقيت لأسبوع في مرحلة نفاس، حتى طرق بابها ذات يوم رجال الشرطة قادمين من الرباط يبحثون عن المعلومات المتعلقة بالسيارة التي نقلتها إلى الرباط للقاء الضابط لوبيز (لأن ذلك الضابط كان قد لمح اسم صاحب السيارة متبثا قرب مقودها كما كان معمولا بذلك حينها)، فأنكرت معرفتها بنوعها وبصاحبها، وأنها اكترت تلك السيارة وسائقها. بعد أيام عادوا مجددا وكسروا باب البيت وأخبروا السيدة منصور أنهم حضروا من العاصمة بغاية أخدها لمقابلة زوجها. لم تصدقهم، فأخبروها أن عليها أخد رضيعتها حتى يراها والدها. فأجابتهم أنها ستأخد معها كل أبنائها، فرفضوا، ورفضت هي الذهاب معهم. بعد أخد ورد قبلوا في نهاية المطاف، حيث نقلوها رفقة أبنائها (سكينة 3 سنوات، زكريا سنتان، سمية رضيعة في أسبوعها الثالث).
وصلت السيارة إلى الرباط، وتركوها رفقة صغارها داخلها حوالي ساعة، قبل أن يعودوا ليطلبوا منها بعنف أن تنزل وتتبعهما رفقة صغارها. صعدوا أدراجا خلفية ضيقة، قبل أن يجدوا أنفسهم في غرفة صغيرة كما لو أنها كانت مطبخا، كانت بها العديد من الأغراض المرمية ضمنها عشرات من الأحزمة الجلدية، التي انتبه ابنها زكريا وهو لما يزل لا ينطق جيدا بعد صائحا في أمه «ماما، هذا ديال بابا». لحظات بعدها تم إدخال سي محمد منصور في حال رثة جدا، بلحية طويلة وبأوساخ متراكمة ووجه متعب، حافي القدمين، وقبل أن يسمحوا له بأخد ابنته سمية الرضيعة، قالوا له أن يغسل أولا يديه بالصابون، وكذلك كان. حمل صغيرته وقبلها، وشرع يسأل زوجته عن والدته وعن أحوالهم، فأكدت له قائلة : «لا تسأل عنا، نحن بخير. كيفك أنت؟»، فأكد لها أنه صلب ولم يعترف بشئ ولا ضد أي أحد. بعد عشر دقائق أخدوه وطلبوا من السيدة فريدة منصور العودة مع صغارها إلى الدار البيضاء، فرفضت ملحة عليهم بضرورة إرجاعها مع صغارها عبر سيارة الشرطة إلى بيتهم ببوشنتوف، قائلة لهم: «جئتم بي من فراش الولادة ببيتي، وتريدون الآن تركي في الشارع في مدينة أخرى بعيدة عن مدينتي». بعد أخد ورد، وأمام صلابة موقف السيدة منصور اضطروا إلى نقلها من الرباط عبر ذات السيارة حتى وسط الدار البيضاء (بساحة فرنسا).