محمد أركون: زعزعة اليقينيات و«اللاّمفكر فيه» في الإسلام

يُعد محمد أركون (1928-2010) أحد أبرز علماء الإسلاميات في التاريخ المعاصر. أسس «علم الإسلاميات التطبيقية» في دراسة «الإسلام النصي» (القرآن والسُنّة) و»الإسلام التاريخي»، موظفاً كل المناهج الجديدة التي ظهرت في مجال العلوم الاجتماعية الحديثة لفهم الظاهرة القرآنية والظواهر المنبثقة عنها.

 

علم الإسلاميات التطبيقيّة وحداثة الإسلام

برزت المقاربة المنهجية لــــ”علم الإسلاميات التطبيقية” عند أركون في كامل مشروعه حول “نقد العقل الإسلامي”؛ فالمهمة الرئيسة “للإسلاميات التطبيقية عنده- تدرس الإسلام ضمن منظور المساهمة العامة لإنجاز الأنثروبولوجيا الدينية” أي أن “نخضع القرآن لمحك النقد التاريخي المقارن، وللتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته وانهدامه”. بمعنى آخر ” خلق الظروف الملائمة لممارسة فكر إسلامي، محرر من المحرمات والميثولوجيا البالية، ومحرر من الأيديولوجيات الناشئة حديثاً”، بما يؤدي إلى فهم منهجي أعمق يتخطى المناهج التقليدية التي طرحتها “الإسلاميات الكلاسيكية”؛ فـــ “لم يعد ممكناً – كما يخلص أركون- تقديم الإسلام بواسطة فرضيات جوهرية وذاتية وذهنية وثقافية وتاريخية ومادية وبنيوية (…) إنه لن يعود هناك من مكان للحديث عن الإسلاميات التطبيقية، إذا ما تحملت الإسلاميات الكلاسيكية بدورها، وبشكل تضامني، كل الصعوبات الحالية للمجتمعات العربية والإسلامية من جهة، ومخاطر ممارسة علمية هي الآن في أوج تجددها من جهة أخرى” (راجع: أركون، محمد، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1998، ص 56 وما بعدها).
يتجاوز مشروع أركون الإسلام إلى الأديان التوحيدية الأخرى: “لكي يصل إلى العقل اللاهوتي عند أهل الكتاب، فيتحول مفهوم أهل الكتاب إلى المفهوم الأنثروبولوجي _التاريخي: مجتمعات أم الكتاب والكتاب؛ ثم إلى نقد العقل الديني، حتى يحل الإسلام وتحل الأديان المنزلة محلها الحقيقي في ميدان التعرف الأنثروبولوجي على الأديان العالمية منها والمحلية الموسومة بالوثنية، منذ أن انتصر العقل اللاهوتي المعتمد على سلطة الإمبراطورية (…) ويزداد المشروع اتساعاً بنقد عقل الأنوار الذي فرضته أوروبا البورجوازية والرأسمالية كأنموذج عالمي بديل للأنموذج الديني” (أركون، محمد، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي اليوم؟ ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثالثة، 2006، ص 7).
يتبع أركون “المنهجية التعددية لا الأحادية الجانب” في مشروعه الفكري الضخم فيقول: “لا أطبق منهجية واحدة على التراث الإسلامي، بل منهجيات عدة، كالمنهجية الألسنية، والمنهجية التاريخية، والمنهجية الاجتماعية، والمنهجية الأنثروبولوجية، وأخيراً التقويم الفلسفي العام أو الخلاصة النهائية. وهذا يعني أنني من أتباع الإبستمولوجيا التعددية التاريخية: أقصد فلسفة المعرفة التعددية التاريخية، وبالتالي، لا يمكن حصري في مدرسة واحدة أو مذهب فكري واحد أو موقف واحد للعقل أو تيار واحد” (المرجع السابق، ص 17).

قراءات في القرآن: زعزعة اللاّمفكر فيه

يشكل “قراءات في القرآن” (ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2017، 686 صفحة) العمل التأسيسي الذي دشن عليه أركون كامل مشروعه. ظهر الكتاب لأول مرة عام 1982 بالفرنسية لدى دار نشر باريسية، ثم أعيد نشره مرة ثانية عام 1991 في تونس. بعد هذه الطبعة أمضى المؤلف فترة طويلة في التطوير والتنقيح والإضافة، فصدرت الطبعة الثالثة بعد وفاته عام 2016 عن دار (Albin Michel) في فرنسا.
جاء الكتاب في (12) فصلاً وزعت على النحو الآتي: الفصل الأول: كيف نقرأ القرآن اليوم؟؛ الفصل الثاني: حول مشكلة الصحة الإلهية للقرآن؛ الفصل الثالث: قراءة سورة الفاتحة؛ الفصل الرابع: إعادة قراءة سورة الكهف؛ الفصل الخامس: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي: دراسة مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية؛ الفصل السادس: هل يمكن التحدث عن العجيب المدهش أو الساحر الخلاب في القرآن؟؛ الفصل السابع: مدخل إلى دراسة العلاقات بين الإسلام وبين السياسة؛ الفصل الثامن: الدين والمجتمع طبقاً لمثال الإسلام؛ الفصل التاسع: الحج في الفكر الإسلامي؛ الفصل العاشر: الوحي، والتاريخ، والحقيقة؛ الفصل الحادي عشر: من أجل قراءة “ما فوق نقدية” لسورة التوبة؛ والفصل الثاني عشر: ” التشكيل المجازي للخطاب القرآني”.
إن الحجم الكبير للكتاب وكثافة أفكاره والإشكاليات المطروحة فيه، تحتاج إلى مراجعات وتعقيبات وافية، لا سيما أن بعض فصوله ناقشت قضايا على درجة نقدية عالية، وخرجت بنتائج علمية تصدم “العقل الفقهي”. لقد انشغل أركون بهم معرفي أساسي في “وصيته الفكرية الأخيرة” – كما وصفت الكتاب المجلة الفرنسية (Le Monde des Religions) –: زعزعة اليقينيات و”اللامفكر فيه” في الإسلام، بهدف التحرر من الانغلاقات الدينية الموروثة التي تكبل مقاصد النصوص التأسيسية وتقف حاجزاً أمامها، على اعتبار أن النص الديني مفتوح على التأويلات المتعددة والمعارف المختلفة مما يسمح –وفقاً لمنهجية علم الإسلاميات التطبيقية- بإدخال الإسلام في الحداثة واستيعابها والتصالح معها كما فعلت المسيحية في أوروبا.

الدوغمائيّة الحرفيّة والخطاب الإسلامي

يطرح صاحب “العلمنة والدين” في الفصل الأول من كتابه الإشكاليات الآتية: كيف يمكن أن نقرأ القرآن اليوم؟ هل ينبغي أن نراكم جبالاً من التبحر العلمي الأكاديمي لكي نبعث من مرقدها، حتى في لحظة القراءة فقط، معاني ودلالات قديمة تظل غائبة عن حياتنا اليومية وغريبة عنها تماماً؟ هل يمكن الاقتصار على التحليل المفهومي فقط، وتقليص كلام الله إلى مجرد وثيقة قابلة للفكّ والشرح عبر عالم الفيلولوجيا الاستشراقي؟ ثم بوجه خاص أو أخص، هل ينبغي أن نستمر في النظر إلى القرآن بمنزلة كتاب المسلمين في كل الأحوال، أو أنه في أفضل الأحوال يكتشفه غير المسلم بنوع من الودّ والتسامح دون أن يشعر بأنه يعنيه شخصياً بشيء؟
يخلص أركون إلى أن هذه الأسئلة “طرحت في الأوساط اليهودية والمسيحية بخصوص التوراة والعهد الجديد. حاول علماء لاهوت وفلاسفة مشاهير منذ بضع سنوات تجاوز الإشكالات الكلاسيكية، لكي يستطيعوا التحدث عن الله بما يتناسب مع فكرنا الحديث ومعارفنا المعاصرة، ولكن مثل هذا الجهد التجديدي الكبير لم يحدث حتى الآن في ساحة الفكر الإسلامي. مثلاً، لا نجد في الساحة الإسلامية شخصيات فكرية لاهوتية تعادل أندريه نيهير (André Neher) بالنسبة إلى الفكر اليهودي، أو جان دانييلو (Jean Danielou) وإيف كونغار (Yves Congar) وجاك ماريتان (Jacques Martain) وإيتيين جيلسون (Etienne Gilson)…إلخ بالنسبة إلى الفكر الكاثوليكي، أو كارل بارت (Karl Barth) ورودلف بولتمان (Rudolf Bultmann) وأندريه دوما (André Dumas )…إلخ بالنسبة إلى الفكر البروتستانتي” (قراءات في القرآن، ص 80).
سعى أركون في كتابه إلى تفكيك “الدوغمائية الحرفية” التي ينهض عليها الخطاب الإسلامي الحركي والفقهي، في إطار صراعه التاريخي مع العقل، وذلك انطلاقاً من “التوتر الصراعي الكائن بين العلوم الدينية أو التقليدية من جهة، والعلوم الدخيلة (الأجنبية) من جهة أخرى. هنا يكمن جوهر المشكلة. هكذا نجد أنفسنا وقد رجعنا إلى التقلبات الأيديولوجية التي طرأت على مكانة العقل وأنماط العقلانية المتصارعة داخل السياقات الإسلامية وذلك بدءاً من القرن الثامن ميلادي” (المرجع نفسه، ص 35). ثمة خلاصة هامة تشكل أحد أبرز الخلاصات الأساسية في الكتاب، يفسر فيها أركون أسباب تراجع “العقل الفلسفي” في الحضارة العربية والإسلامية. يقول: ” بعد الحضور الهش والمقاومة المشرفة للعقل الفلسفي في الإسلام الكلاسيكي، فإن تيار العلوم الدينية والقرآن اللامخلوق هو الذي انتصر وهيمن على العالم الإسلامي منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. بمعنى آخر: إن المعتزلة هزموا والفلاسفة هزموا ولم ينتصر إلاّ التيار الحنبلي – الأشعري. إذا لم نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار، فلن نفهم شيئاً من شيء ضمن ما يحدث اليوم. إذا لم نفهم الماضي بل الماضي البعيد، فلن نفهم الحاضر” (المرجع نفسه، ص 36).

القطيعة الإبستيمولوجيّة والعقل التّأصيلي

وضع أركون في مشروعه حول “نقد العقل الإسلامي” مفاهيم ومصطلحات وخلاصات جديدة، وأفاد من مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة التي وسعت مداركه وقدرته الفذة على استنطاق النصوص الدينية في الإسلام. تحدث عن الطابع السكولائي الاجتراري (Scolastique) للتراث، معتبراً أن استمرار هذا العقل الممتد منذ القطيعة مع التراث التنويري هو السر في تخلفنا، من دون أن يطالب بطيّ الصفحة معه، داعياً إلى ممارسة القطع مع العقل التأصيلي، ورفض القطيعة مع العقل الإسلامي ككل. (انظر: الفلسفة والمدينة أعمال المؤتمر الفلسفي اللبناني – العربي، المركز الدولي لعلوم الإنسان، جبيل، 2013). هذه الدعوة دفعته إلى تبني مفهوم “القطيعة الإبستيمولوجية” (La Rupture épistémologique) التي أسس لها فلاسفة غربيون من بينهم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (Gaston Bachelard) الذي بنى تصوره لتاريخ العلوم على هذا المفهوم إلى جانب مفهوم العائق الإبستيمولوجي ومفهوم الجدل. وهو مفهوم يعبر في نظره عن فترات الانتقال الكيفي في تطور العلوم. فبقدر ما تحدث تلك الكيفية، بقدر ما تحدث قطيعة إبستيمولوجية بين الفكر العلمي الجديد والفكر السابق له.
يأتي هذا التصور ضد نظرية الاستمرارية التي نادى بها إميل ميرسون (Emil Meyerson) وليون برنشفيك (Léon Brunschvicg) إذ يذهب القول بالاستمرارية من وجهة نظر هذا الاتجاه إلى أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة، فتاريخ العلم سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغير الذي يحدث في العلم إلا تغير تدريجي. ويدللون على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهج العلمي وطريقة انتشاره. في حين يقول باشلار: إن في تاريخ العلوم قفزات كيفية ينتقل بفضلها إلى نظريات جديدة، لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد استمرار للفكر السابق. فبقدر ما تتحقق تلك القفزات الكيفية، بقدر ما تتحقق قطيعة إبستيمولوجية بين المعرفة العلمية والمعرفة العادية. (راجع: الإبستيمولوجية، الموسوعة العربية، المجلد الأول، ص 78. راجع أيضاً: بوعزة ساهل، أوراق باشلارية، دار القرويين، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2001، ص33).

الإسلام والسّياسة والدراسة النقديّة للتراث

ناقش أركون في كتابه “قراءات في القرآن” العلاقة بين الإسلام والسياسة من منظور جديد، مقدماً مجموعة من النقاط في دراسته للسلطة السياسية في التاريخ الإسلامي. إلى ذلك تناول العلاقة بين الدين والمجتمع طبقاً لمثال الإسلام، مفنداً بعض أطروحات الاستشراق الكلاسيكي في هذا المجال وإسهاماته العلمية، ومشدداً على أهمية رصد الجهود في سبيل دراسة المجتمعات العربية والإسلامية التي لا تزال مجهولة (من مثل علم الآثار وعلم العراقة والأقوام والفنون والتراث الشعبي والتاريخ الاجتماعي والتقني) حتى الآن، بعيداً من التأريخ الإسقاطي والمؤدلج، على عكس المجتمعات الغربية المتقدمة التي درست في كل شاردة وواردة وطبقت عليها أحدث المناهج العلمية.
عالج صاحب “الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد” ظاهرة انفجار المدّ الأصولي في العالمين العربي والإسلامي بدءاً من سبعينيات القرن المنصرم. هذا المد الأصولي لا يمكن فصله عن “انتعاش القانون الديني” أي الشريعة الإسلامية في دول عربية وإسلامية، وهو إن دل على شيء، فعلى “قوة تغلغل القوالب التقليدية في الإدراك والتصور والممارسة في حياة الأفراد والشعوب المعنية” (قراءات في القرآن، مرجع سابق، ص 398). إن الحركات الإسلامية تنمو بسرعة داخل البيئات الاجتماعية الأكثر ميلاً إلى أنماط التدين غير العقلاني، وهي غالباً توظف الاضطرابات التي تمر به فئات محددة في سبيل توطيد نفوذها وعمقها المجتمعي.
يدعو أركون إلى نزع “الأسطرة التبجيلية” و”التهويلية” عن الماضي العربي الإسلامي، لافتاً إلى ضرورة الانخراط في الدراسة النقدية للدين على طريقة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (Max Weber) أو إرنست تروليتش (Ernst Troeltsch) [أستاذ علم اللاهوت البروتستانتي في جامعة هايدلبرغ (Heidelberg University)]. هنا نجده ينتقد العديد من الباحثين العرب دون أن يسمي أحداً منهم، لأنهم لم يناقشوا بشكل علمي ونقدي صريح الموروث الديني والتراثي والتاريخي. ويعود بنا إلى من يسميهم “منشطي تياري النهضة والثورة” من أمثال الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، صاحب الكتاب الشهير “الإسلام وأصول الحكم” (1925) وعميد الأدب العربي طه حسين صاحب “في الشعر الجاهلي” (1926). ويرى أن هؤلاء لم يجازفوا في الدخول في الصراع ضد الكهنوت الإسلامي، كما فعل فولتير (Voltaire) ضد الكهنوت المسيحي، كما لم يساهموا في تفسيخ العقائد اللاهوتية الدوغمائية والوعي غير الصحيح على طريقة ميشيل دي مونتين (Michel de Montaigne) ، ولم يدخلوا في صراع دائم وذي دلالة أو أهمية تذكر، من أجل تعرية الأصول الآنية والاحتمالية والدنيوية للشريعة. وأخيراً، لم يفعلوا أي شيء لبلورة لاهوت إسلامي جدير بعصرنا وبالروح العلمية الجديدة. في النتيجة، أين هي النهضة؟ وما معنى النهضة دون ذلك؟ إنه لأمر ذو دلالة بالغة أننا لا نزال نعيش حتى اليوم على رسالة التوحيد لمحمد عبده الجديرة بالتقدير، ولكنها لا تخلو من الضعف أيضاً. إن جدار الصمت الثقافي المريب المضروب حول الدين (…) يدل إما على غياب المبالاة لدى المجددين المعاصرين بالعقائد الشعبية، وإما خوفهم من التعرض لموضوع حساس وملتهب كالاعتقاد الديني، وإما غياب كفاءتهم العلمية، أي تزودهم العلمي والمنهجي بنظام خاص وجديد من المعرفة، وإما تفضيلهم الإغراق في الاستغلال الأدبي للموضوعات الدينية المشوقة للقارئ. في كل الأحوال نلاحظ أن الدين مهجور من المثقفين الحداثيين ومتروك كلياً لكي يتلاعب به المشايخ التقليديون والدعاة والموظفون الدينيون المسؤولون عن تسيير شؤون العبادات والتقديس في المجتمع، كما أنه متروك لمستهلكيه الذين لا يعدون ولا يحصون” (المرجع نفس، ص 459-460).
لقد أصاب أركون في تحليله علاقة النخبة بالنقد التاريخي والعلمي للدين. وعلى الرغم من أن نقد الفكر الديني تفجر في بدايات القرن العشرين وترك تأثيرات ايجابية على مجمل الحركة الثقافية في العالم العربي، غير أنه دخل في انتكاسة كبيرة لأسباب عدة، يرتبط بعضها بتنامي الحركات الأصولية التي تدعي احتكار المعنى والحقيقة، وبتوطيد الأنظمة الاستبدادية التي أسست لروابط تبادلية ووظيفية مع المؤسسات الدينية، مما ساعد على تراجع كارثي لأدبيات نقد الفكر الديني. وتفاقمت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، ويمكن ملاحظة تراجع الإنتاج المعرفي العلمي النقدي عندنا مقابل تقدم الأدبيات الدينية التبجيلية وإعادة نشر كتب التراث.
تطرق أركون إلى موضوعات حساسة لها أهمية كبيرة لعصرنا اليوم. ولا ريب أن مشروعه في نقد العقل الإسلامي يتطلب المزيد من الاهتمام، ومن المفيد جداً أن يدرج منهجه حول الإسلاميات التطبيقية- لاسيما الأنثروبولوجيا الدينية وعلم الأديان المقارن- في مناهج الدراسات الإسلامية داخل الجامعات والمعاهد العربية المعنية بهذا التخصص، بدل الاكتفاء بالأدبيات التراثية المكررة التي لا تشكل وعي علمي جديد قادر على مصالحة الإسلام مع الحداثة وتجاوز الانغلاقات اللاهوتية والتاريخية.
لا تدعي هذه القراءة السريعة الإحاطة بأهم الإشكاليات والطروحات التي قدمها الكتاب. تمت الإضاءة على بعضها، إذ إن كل فصل من الفصول المدرجة يستحق قراءة وتعقيباً مطولاً.
انهمك أركون في نقد العقل الإسلامي بغية الكشف عن نقاط الخلل فيه، مقترحاً إمكانات نظرية علمية جديدة، تهدف بالدرجة الأولى إلى النهوض بوعي إسلامي حداثي يواكب تحديات العصر ويجيب عن التحديات الكبرى؛ أي تلك التحديات المرتبطة بكيفية بناء عقل نقدي، يُخرج المجتمعات العربية والإسلامية من الانسداد التاريخي الراهن ومن قيود العقل الخرافي. إن عملية الإصلاح الجادة لا بد أن تبدأ بالإصلاح الديني في موازاة الإصلاح السياسي واحترام حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية التفكير والتعبير.


الكاتب : ريتا فرج

  

بتاريخ : 22/07/2019