مبدعون في حضرة آبائهم 21 : محمد الشوبي : ووالد وما ولد

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «.
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

كان أبي رحمه الله شخصا متزنا، هادئ الطبع تعلو محياه سماحة عالم رغم أنه لم يدخل حتى الكتاب ولم تطأ قدمه مجلس علم، لا يأكل بشراهة ولا يدخن بتفاهة، فقراء كما نحن كان والدي يوثرنا على نفسه، رجل بسيط تغلب على مجلسه الدعابة المراكشية العميقة، فيها من الحكمة والموعظة ما ليس في كتاب، يستمع لنا قبل أن يرمي سهم حكمته ليصيب غضاضتنا، مولع بالحكايات البطولية لشخصيات حقيقية، أو خيالية، يستمتع بالغناء والرقص حيث كان في الصيف يقيم حفلات راقصة « لأحواش والروايس « ويملأ المنزل المتواضع والفسيح، الذي كنا نكتريه من سيدة فاضلة، يملأه بهجة وفرحة رفقة أصدقائه وصديقاته، ويتناولون ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات، ويتسامرون حتى مطلع الفجر، لتنتهي « الزردة أو العراضة « بالصورة التي كان يرتب لها .
علاقته بي كانت جد رائعة، كان يشملني بالحب والعطف الذي لا نظير لهما، وكان يبذل الغالي والنفيس من أجل دراستي، رغم ضيق ذات يده، فهو مجرد صنايعي مضاربي مياوم، تأتي عليه أيام كثيرة لا يجد فيها ثوبا يغرس فيه خيطه وإبرته، لكن الوضع في أيامه كان مشجعا على الجد والمثابرة، حتى ولو لم أجد ما أسد به رمقي، في بعض الأحيان أجلس إليه متأملا في وجهه ومتفحصا مصدر قوته وصبره وجلده ، ولا أجد تفسيرا لذلك، كيف لرجل فقير أن يكون مرحا وكريما وصبورا على كل مثالب الحياة ، بل ومصرا على كرم وفادة كل من هل على بيته، رصانته تجعل الناس يفدون إليه طلبا للحكم بينهم والإشارة عليهم في خصوماتهم، فيجدون النصح والمشورة الصائبة والشاي والغريبة العمياء بل وطاجين ديك بالبصل، ليذهبوا متناسين خصوماتهم .
لم يسعفه موته حتى يتذوق حلاوة مالي، لأنه توفي قبل أن أحصل على أول راتب لي، لكنني كنت أرى في عينيه قبل أن تغمضا إلى الأبد ، نظرة الحب والسماحة .
رحمك الله أبي ورحم تلك الروح الطيبة التي كانت تحيط بك من كل جانب، وجعلني مستأنسا بها بعدك ولو بقليل من الوفاء لك .


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 24/07/2019