مبدعون في حضرة آبائهم 23 : دروس الوالد

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «.
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

سنة الست والأربعين ولدت، بعيد نهاية حرب مدمرة، شملت كوننا،
وضروب من الجوع مر بها مغرب قد تقاسمه الأقوياء. قبل أن تهدأ الحرب كان التقى حمري(والدي)من دوار(النمور)
حريزية، من ديار(الضمانة)والدتي، شهدت(عين حرودة)من ضواحي
البيضاء لقاءهما، ليكون القران وسيلة إنجاب ذرية، يتدبر أحوالها، ومعيشتها،هكذا قد أتيت.
ندبة في مؤخرة الرأس، في مفرق الشعر كانت نتيجة رمي حذاء، تحاشته والدتي وهي تمسكني، فأصبت ولم تتجاوز حياتي عاما، نجوت بأعجوبة، والدي لم يكن قاصدا ابنه، إنما خطا في اتجاه الحذاء.
كنت ثاني رقم بكوكبة، يتزايد أفرادها لتضم ثمانية، قد تساوت إناثا وذكورا، وكان حريصا بأن ينعم الكل أكلا وشربا ومدرسة وكساء، وكل ضرورات عيش، برغم ضآلة مدخوله، فلقد كان دكان(مسعود) مورد كسوتنا، يشتري منه أشياءنا، وعلينا القبول بما يقتنيه، فكان شراء الحذاء اختيارا له غالبا، أنت بين المقاسين منحصر، صينيا، كان ذاك الحذاء لضيق به، سوف تألفه، واسعا قد يكون لتكبر في حضنه قدماك، ويملأ قطنا فترتاح فيه، المهم ارتداؤك ذاك الحذاء، تحاول وحدك تكييفه حسب المستطاع.
كان جامعي المنزوي (درب مولى الشريف) مكان قراءتي المبتغاة، فقد حرص الوالد السككي بأن أتقن الخط، أتلو القران وأحفظه، جيئة وذهابا، وكان الفقيه سعيدا بحظوته، بعد ختم القران، فللمحتفي أن يقوم بما تقتضيه الظروف، فمن كسوة للفقيه وإطعامه، ويسير من المال يأخذه كي يتم الرضا، أتذكر فرحته، وهو في نشوة غامرة. كان مسكننا في بدايته، قاب قوسين من جامع، وحده قصة، تستحق التمعن في نهج لايقودك إلا إلى درك للعذاب، فقد ألفت بالمراس حناجرنا لدغات القصب. وأكف الصغار تعودت الضرب، كل صباح يمد الصغير يدا ريثما تستريح التي انتفخت بالعصا، يتوسل دون مجيب، سوى ضحك يتمادى، إذا اهتزت الأرجل المستباحة للسلخ، حين ارتكابك ما قد يراه الفقيه مخلا بواجبه (بين ذبح الفقيه وسلخ الولي) نعيش متاهة طاعتنا، يكبرالخوف فينا يلازمنا طيلة المرحلة.
كنت محظوظ ذاك الفقيه فأفردني نسخة من كتاب ابن عاشر في الفقه، أمضى زمانا يزخرف أشطارها، ويلون كل عناوينها أحمر قانيا، بعد تسطير أمكنة للكتابة في دفتر يتزايد حرصي عليه لكي لا يضيع.
بعدما غادرت أسرتي درب( الشريف) إلى شقق أنجزت لفائدة العاملين لدى مكتب السكك الوطنية، بات الوصول عصيا إلى جامع، صار أبعد مما أظن، أحاول حفظ المسار الوحيد إليه.
صرت تلميذ مدرسة (الاتحاد) وكانت بجانب جامعنا، بعدما أقنع الوالد المتردد، جار لنا، كان يدرك مستقبل الدرس في جامع، لايتيح من الفرص المتوخاة ما قد تتيح المدارس عبر شهاداتها، من وظائف ممكنة، ودراسة علم ومعرفة، لا يوفرها مسجد كنت أنهيت محصوله، وبدا الفرق بينهما، كالتنوع في الدرس، ثم التخلص من لوحة، كنت عشت متاعبها، صرت منشرحا للكتابة بالحبر في الورق المنتقى، تتعدد تلك الدفاتر حسب المقرر في كل فصل وعبر سنين التمدرس والتلمذة.
في اثنتين وستين، طالبني والدي بشهادة مدرسة، بعدما حرمته الإدارة تعويضه العائلي، وكنت ابن ستة عشر عاما، ويجهل رغم نباهته، معهدي الأزهري. للحقيقة سلمني من دراهمه خمسة وثلاثين بعد استعادة تعويضه، كنت منشرحا، فانتقيت كتابا يؤرخ للأدب العربي(لحنا فاخوري) وشد انتباهي(زكي مبارك) في نثره، كنت أعجبت قبل بصاحبه، ومواقفه، وظروف معيشته، وصراعاته في الثقافة والفكر والشعر حتى انتهاء حياته في موتة قاسية.
كان ذلك أس بداية تكوين مكتبة، جل ما تحتويه دواوين شعر ومنتخبات تراثية، أمهات من الكتب المشتراة، يعز الحصول عليها وإن صارت الآن(أقراصا) في ملك كل مريد، بأبخس سعر.
كانت(الثانوية) قد وزعت بين بيضائنا والرباط، فكان الكتابي بيضاويا، والشفاهي للناجحين فقط ب(حسان) حيث بقينا انتظارا، إلى أن تراءت قوائم الناجحين، سررت لأني ضمن لوائحها، ثم فكرت في عودتي، كنت أملك تذكرتي وتذاكر شتى بحكم اشتغال أبي في السكك. بعد منتصف الليل، كان الرجوع عسيرا، فكل القطارات نحو الشمال تسير،علي انتظار الصباح لأخذ قطارالجنوب، تذكرت والدتي، وأنا خارج البيت كيف لها أن تنام، وعادتها أن ترى الشمل مجتمعا حولها في السكن.
درهم كنت أملكه، حل معضلتي، فحظيت بطاولة في المحطة كي أحتسي قهوة مرة، في انتظارالذهاب، ركبت أخيرا، نزعت حذاء تمسك بي منذ يومين، ثم غفوت، فنمت إلى أن وصلت نهاية سير القطار، استفقت من الذعر، كان الحذاء قد اختفى، فعبرت الطريق إلى مسكني حافيا، دون أن أتفرس في وجوه العابرين، إلى أن وصلت، فكان البكاء على غيبتي، واستحال إلى فرح بالنجاح.
قصة بندقية
تحت إلحاح والدتي، ورضا والدي، كنت رافقته وصديقا له، حينما اقتنعا بتقاسم أرض تهيئ بينهما سكنا، وهما جاهزان لدفع جميع مصاريفها، موقع رائع بجوار حديقة (عين السبع).
كانت الأم تنتظرالفرح المستحيل بتغييرما نحن فيه، وكان مخطط والدنا يتواصل دون استشارته أحدا، فاشترى البندقية مبتهجا، وسيارة (بوجو)القديمة منصرفا عن شرائه بقعة أرض، تلازمها تبعات البناء. وتعذر أمر الإقامة في غير مسكننا السككي، وصارت هواياته القنص، والرحلات شعار طقوس مواسمه، وتعلم من أصدقاء له، جمعتهم مناسبة الشغل في حينها، جلهم من فرنسا، وظلوا إلى أن تمغرب مكتب سكتنا، بخصوص السيارة، كنا استفدنا من السفريات إلى مسقط الرأس نحو(الجذور) تجاه(جنان أبيه)دوار النمور ثلاث مرات، وكنا صغارا، وقبل تكاثر أعدادنا، سفرللرباط ترسخ في الذهن كان مناسبة لحضورالصلاة بقصرالرباط، وبعد رجوع محمد الخامس،من منفاه، وإلى عرشه، والطريق على طولها بدت اليوم مكتظة، والجماهيرفي نشوة الاستقلال ، تصيح حناجرها بالهتاف، تكبر، تجتازمنعرجات وأودية، والسرور يصاحبها، لا تبالي مخاطر هذا المسير.
أتذكره كلما حل شهرالصيام، اختلى ليفكك أوصال دراجة كهربائية ،رغبة منه تبديد وقت النهار الطويل، بدون سجائرينفثها، لينظف أجزاءها، ويعالج أعطابها، وهديرالمحرك يزعج أسماعنا، لامجال لأي احتجاج، تكون مغادرة البيت حلا، برغم احتياجي لقيلولة الظهر في رمضان، ولا أشتكي،لا يعود الهدوء إلى البيت إلا وقد حل وقت الغروب.
نحن في شهرمارس من عام خمسة وستين، في سنة البكالوريا، وقد ملأت جثث الأبرياء رحاب شوارع بيضائنا، واكتست بالسواد معالم أحيائها، لم يكن للقبور اتساع، فكانت خنادق دون شواهد، تستوعب الجثث المتناثرة أشلاؤها، والسماء البخيلة بالغيث تمطرها بالرصاص، سريعا تسيل دماء التلاميذ ظلما، تؤرخ للزمن المستمر معاركه سنوات الرصاص، ليركبها ساسة جدد، قد تقاضوا أجور معاركهم، من ضرائب شعب، فكان مطيتهم للنضال قديما، وصارضحيتهم في مكاسب هذا الأوان.
والحصول على البكالوريا، وبعد اجتياز اختباراتها في الكتابي والشفهي، يؤهل صاحبه للعديد من الاتجاهات، لكننا باعتبار ظروف معيشتنا، وبحكم ميولاتنا الأدبية، كان اختيار العديد من أصحابنا شعبة الأدب العربي، مجال طموح لنا، لم نجد من يوجهنا، زمرة كالقطيع قصدنا الرباط نريد انتسابا لمدرسة، يتكون فيها أساتذة الثانوي، ننال إجازتنا،وكفاءة تربية، وضمان الوظيف.
والدي أتذكر حيرته لذهابي إلى فاس حيث تقرر أن تحدث الشعبة الأدبية أصلا هناك، وأحتاج مالا أسد به رمقي، ولوازم في سفري، في انتظار الحصول على أجرة/منحة، قد يطول مداها شهورا، فأخبرني مستشيرا ببيع سلاحه للقنص، كي يتدبر أمر الإقامة ثم الدراسة في غربتي، وعجبت لأمر استشارته، وانتظار موافقتي، ورفضت لعلمي بحبه للقنص والسفر المتواصل كل المواسم منذ زمان. بعد رفض اقتراح أبي التجات إلى(ابن عدي)بدرب الشريف، وكان صديقا لنا سنوات الدراسة، صحبة عبد الله وأحمد ثم الحسين النبيلين، كي يساعدني ماليا، كان دكانه موقفا نستظل به، نتناول شايا كل مساء، وفاجأني عبد الله، وقد طرح الأمر قبل حضوري على ابن عدي بشأن قبول الطلب: مائتا درهم وحقـيبة أمتعة، وملابس كانت مثار اعتزاز، وحلت مشاكل ظلت تؤرقني،لأعيد مصارفه شاكرا، بعدما وصلت منحة كنت أرقبها، ظل رمزا عزيزا من الصعب نسيانه، كلما ذكرت فاس إلا تذكرت أفضاله، ليس عما ولا بالقريب ولكنه رجل اللحظات. مذ حصلت على راتبي، صار عبء التمدرس هما ودينا أسدد أقساطه كل عام، فمكتبة الحي مشرعة، أدوات دراسية، كتب ومعاجم في مستوى الطلبات، وصاحبها(حسن)لا يمانع تلبية الرغبات، فموعدنا الشهر حتما، وفرصة لقيا العديد من الأصدقاء.
وتعلمت من والدي جرأة في اتخاذ القرارات، أذكرموقفه ذات يوم، وقد زارت الحي عماتنا، ومدار الحديث الذي كنت أرصده، يتعلق بي، فأنا قد كبرت وأمر زواجي بات نقاشا، ولم أنه بعد الدراسة، كان الجواب صريحا، وأغضب بعض النوايا، فقد صاح في الجمع منفعلا(لم يحن بعد وقت الكلام، وأمر الزواج منوط بصاحبه، ينتقي من يشاء إذا ما أراد، ولا دخل لي أو لغيري فيه). ساد صمت رهيب، وكانت مفاجأة، وبدا الرد في غيرموضعه، فتضاءل رقم الزيارات بعد الذي قد جرى.
عندما كان يصحبني للحلاقة، كنت أقبل أيدي الحضوراحتراما، فوبخني مرة:(قل سلاما فقط، وخذ مقعدا،أنت تجهل تلك الأكف وأصحابها، وأصابعهم لا تكف عن البحث طي الأنوف لتخرج ماقد تراكم داخلها من صنوف الوسخ). كان علمني، كيف أعقد في دقة، ربطة العنق المتعددة أشكالها، لعبة(الدومينو) وترتيب أحجارها، كذا لعب الورق المتشعب أصنافه، وإلى الآن في حوزتي كرتان حديديتان كذكرى ممارسة، كان ناولني البندقية علمنيكيف أمسكها، وأسدد فوهتها،لأجرب حظ اقتناص(السمان) بقرب الدوار، سعدت كثيرا بتجربتي وخلال العطل.
قد يطول الحديث عن الذكريات، ويحتاج نبشا وفي غير هذا المقام.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 26/07/2019