جسر يربط بين طهارة الروح والبدن …  حمّامات مسجد الحسن الثاني: تخلّص من «الدرن» وسفر في الزمن

 
  على مرّ السنين، وبتعاقب الأجيال، شكّلت الحمّامات التقليدية منها والعصرية، فضاءات لاستقبال كل الفئات في لحظات مختلفة، وظلت قبلة للإناث والذكور، في الحيّز «الإسمنتي» المخصص لكل جنس، أو «الزمني» باعتماد ساعات العمل التي تفسح المجال للواحد دونا عن الآخر، صغارا وكبارا، شيبا وشبابا، من مختلف الشرائح الاجتماعية.
وإذا كان البعض يرى في الذهاب إلى الحمّام طقسا أسبوعيا روتينيا للتخلص مما علق بالجسد، أو بعد عمل شاق له مخلّفاته المختلفة، فإن آخرين يحيطون تلك اللحظة بهالة «قدسية» خاصة، ويرون بأن التوجه إلى الحمّام هو أمر ليس شكليا، وإنما له طعمه الخاص ووقعه الاستثنائي، إذ تستهوي هذه المساحات الكثيرين، الذين منهم من ينتظر هذا الموعد بفارغ الصبر للارتماء في حضنها، حتى يتسنى له ضرب عصافير متعددة بحجرة واحدة، لأن دخول الحمّام ليس هو الخروج منه، كما يقول المثل الشعبي المغربي.
الحمّام، بنية/بناية ليست حديثة النشأة، فهو ضارب في عمق التاريخ وجذور الإنسانية، لا يقتصر حضوره على مجتمع دونا عن غيره، وفضلا عن كونه مكانا مشيّدا وفقا لمواصفات هندسية خاصة، فهو ثقافة وإرث إنساني يعكس تنوع الحضارات وغناها. تعددت التفسيرات لمصطلح «حمّام» واختلفت الروايات بشأن ظهورها، ويعود الرازي بن محمد إلى أصل الكلمة وهي «الحمّة» بفتح الحاء وتشديد الميم، التي يعرفها بكونها العين الحارة التي يستشفي بها «الأعلّاء» والمرضى، وقد وردت الكلمة في عدة مواقع من كتب الجغرافيين والرحالة، حيث أورد شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي، وهو أديب من أصل رومي، مثالا عن حمّة الإسكندرية التي تشفي من البرص ومن جميع الأدواء، بينما يرجع البعض الآخر أصلها إلى كلمة «الحميم»، التي تعني الماء الحار، فنقول حمّ الماء، أي سخّنه، واستحمّ أي اغتسل بالحميم، وأحمّه أي غسله بالحميم، فيقول هذا هو الأصل، ثم صار كل اغتسال استحماما بأي ماء كان سواء كان باردا أو ساخنا، كما سمي حماما كل مسبب للعرق.

تعاريف ونشأة

يؤكد الكثير من الرواة والمؤرخين القدامى أن أول من عرف «الحمّام» هم الفراعنة ، لكن دون تحديد الفرعون المعني بالأمر، بينما يذهب آخرون إلى أن هناك إشارات سابقة لذلك، هذا في الوقت الذي تشير فيه عدد من المصادر إلى أن إحداث «الحمّامات الشعبية» يعود إلى العصر الروماني في ايطاليا أو في الولايات الرومانية، في القرن الثاني قبل الميلاد، وكانت الفكرة في إنشائها بسيطة للغاية، تقوم على تهيئة مجموعة من الأحواض الصغيرة التي تحتوي على الماء البارد والساخن، دون خلوّها من طقوس للتدليك، وكانت مفتوحة أمام الجميع دون مقابل، بالمقابل تم إحداث «حمّامات» خاصة بالأباطرة مثل «نيرون» و «دقلديانوس» وغيرهم، التي كانت متميزة على مستوى البنيان والمساحة وضمّت في جنباتها مكتبات وملاعب وحدائق، مما جعلها تقوم بدور ترفيهي استجمامي إلى جانب دورها في عملية الاغتسال. أما الحمامات الشعبية أو العامة في البلاد العربية الإسلامية، فظهرت مع بداية العصر الإسلامي وتحديدا في مصر.
وفي المغرب، وتحديدا في فاس، وجدت الكثير من «الحمّامات»، التي تحدث عنها حسن الوزان المشهور بـ ليون الأفريقي»، تحديدا في القسم الثالث من كتابه «وصف إفريقيا»، الذي تناول فيه المدينة ومارستاناتها وفنادقها و «حمّاماتها»، التي كانت وفقا له، أوفر ماء من نظيرتها في المغرب الأوسط، وتعود بداية بنائها إلى عهد يحيى بن محمد بن إدريس، في النصف الأول من القرن الثالث الهجري الذي أمر ببناء «الحمّامات» والفنادق للتجار، ثم ارتفع عددها في عهد المرابطين وتحديدا في عهد يوسف ابن تاشفين، إذ بدخوله مدينة فاس، أمر بهدم الأسوار التي كانت فاصلة بين المدينتين عدوة القرويين وعدوة الأندلس فحصّنهما وأمر ببناء المساجد في الشوارع والأزقة، وعاقب أهل أي زقاق لم يجد فيه مسجدا، وأمر ببناء الحمامات التي كان إنشائها من الأولويات إذ ارتبطت ارتباطا وثيقا ببيوت العبادة، لأن الدولة المرابطية، كانت دولة دينية وبالتالي فالطهارة هي إحدى أهم أسس الدين الإسلامي الذي قامت عليه.

 إرث ديني وإنساني

انطلقت أشغال بناء مسجد الحسن الثاني بالدارالبيضاء، الأكبر في المغرب والثاني إفريقيا والثالث عشر عالميا سنة 1986، هذه المعلمة الدينية والتاريخية التي انخرط المغاربة قاطبة في ورش تشييدها بعد دعوة الملك الراحل إلى المساهمة المادية في ذلك، والتي تم تدشينها سنة 1993. معلمة شاملة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، استحضر في بنائها المرحوم الحسن الثاني الفلسفة الروحية والقيم التاريخية والأبعاد الإنسانية، إلى جانب العلاقة التي ظلت تربط دور العبادة بـ «الحمّامات»، فكان أن أوصى بأن تكون من بين مرافقها «حمّامات» تليق بالمعلمة وبمرتاديها وزوارها من المغرب ومن خارجه، وهو ما تحقّق بالفعل لكن دون أن يتأتى فتح هذه المرافق التي كانت جاهزة أبوابها بالموازاة مع استقبال المسجد للمصلين.
وضع، انتبه له الملك محمد السادس الذي أعطى تعليماته سنة 2017 لإعادة تهيئتها وتجهيزها حتى تُفتح أبوابها في وجه العموم وتقوم بوظائفها المختلفة، فانخرطت مؤسسة مسجد الحسن الثاني، التي كانت قد أحدثت لهدف غير ربحي بظهير شريف في 21 يناير 2009، التي تحظى بالمنفعة العامة وتتوفر على الشخصية المعنوية والاستقلالي المالي، والتي من مهامها التدبير والحفاظ وصيانة المسجد والمرافق التابعة له، وتحقيق إشعاع ثقافي وعلمي من خلال برامج وأنشطة على مدار السنة، لترجمة التوجيهات الملكية، إذ وبعد افتتاح الخزانة الوسائطية في 2010، وأكاديمية الفنون التقليدية في 2012، شرعت في إعادة تهيئة وإعداد «الحمّامات» في 2017، التي أضحت جاهزة في 2 ماي 2019، واكتملت قطع الفسيفساء التي ترصّع هذه اللوحة بالافتتاح الرسمي للحمّامات الصحية في 7 غشت 2019، دون إغفال وجود مرافق أخرى تابعة هي الأخرى للمؤسسة.

 هندسة وفلسفة

تتعدد الدوافع وتختلف الغايات التي تدفع بالأشخاص، باختلاف الجنسين والأعمار، إلى التوجّه إلى «الحمّام»، التي تتوزع ما بين الرغبة في تنظيف الجسد والطهارة والاغتسال، أو سعيا لإزالة التوتر والإعياء، أو ارتباطا بطقس وحدث معين، كاستقبال الجمعة والأعياد الدينية والتوجه إلى الحجّ، أو استعدادا للزواج، خاصة عند النساء اللواتي تعشن طقوسا خاصة، استثنائية ومتميزة خلال هاته اللحظة، أو قبل وبعد الولادة وغيرها. لكن التوجه إلى «حمّامات» مسجد الحسن الثاني وقضاء بعض الوقت بداخلها، قد يصبح الدافع إليه غير هذا بشكل كلي، أو كلّه وبجملته نظرا لتعدده وغناه، خاصة وأن هذا الفضاء الذي يفسح المجال أمام الجميع لولوجه بتسعيرة حدّدت في 50 درهما وقد تصل إلى 450 درهما بحسب الخدمات المتوفرة، لا يمكن إلا أن يغري المرء ليفرّ إليه، ليس بالضرورة سعيا وراء نظافة البدن ولكن لرغبة في القطع مع ضغوط العمل ومع رتابة اليوم وانفلاتا من دوامة الحياة، وطلبا للاسترخاء والسفر في الزمان دون أن يبارح الجسد المكان.
ما أن تطأ أقدام المرء الأدراج السفلية المؤدية إلى «حمّامات» مسجد الحسن الثاني، حتى يقع أسيرا لسحر المكان بهندسته المعمارية، التي تسلب الشخص درجا درجا، ويتعاظم الأمر بعد عبور كل باب والاتجاه من قاعة نحو أخرى. عند المدخل تستقبل الزبون رائحة «الحمّام» التي تجذبه إلى الداخل بعد أن تكون قد تجاوزت كل الأبواب للترحيب بالوافدين عليها، فتأخذهم إلى قاعة الاستقبال أخذا، كمن يرقصون على إيقاعات سمفونية ريحية تجعلهم لا يحسون بأقدامهم وهي تمشي على الأرض، حيث يجدون أمامهم مجموعة من الشباب الذين يقدمون الإرشادات ويجيبون عن الاستفسارات، خاصة تلك المتعلقة بالطقس الذي يرغب فيه كل زبون عن الآخر، بحسب الأذواق والاختيارات. بعد ذلك يلج المستحم بعد أن يكون قد وضع السوار الخاص بنوع الخدمة التي سيستفيد منها إلى قاعة تغيير الملابس، مرفوقا بقفّته التقليدية التي تضم مستلزمات «الحمّام»، فيجد أمامه خزانات برفوف نقشتها أنامل صناع وأبدعت في إتقان تفاصيلها، يضع بداخلها ما بحوزته، ثم يتوجه صوب البوابة الأولى المؤدية إلى قاعة واسعة بأحواض فردية لأخذ دوش، وتعميم «الصابون البلدي» على جسمه في مرحلة أولى. ولأن كل شيء تم استحضاره بعناية، فإن المدخل الذي نتحدث عنه يتوفر على تقنيات تكنولوجية تمكّن الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من ولوج هذا الفضاء هم أيضا، وأن يستفيدوا من كل مميزات «الحمّام» دون أن يحول بينهم وبين تحقيق هذه المتعة أي مانع.
بعد ذلك ينتقل المستحم من تلك القاعة مرورا بقاعة ثانية نحو أخرى ساخنة، التي تسمح له بالتعرق وتفسح المجال أمام جسمه لإفراز ما يشاء من إفرازات، وهو مستلقٍ على رخام يعانق «تربة» جذورها فسيفساء خضراء، تصله بأقواس تصافحها صباغة «ينحتها» الضوء الأبيض المنبثق من المصابيح نحتا، تجعله ينسلخ عن العالم الخارجي انسلاخا، وتمكّنه من أن يصغي لنبضات قلبه، ولزفراته، ولحديث جسده كما لم يسمعه من ذي قبل.
 
ربط الحاضر بالماضي

حرص من أوكلت إليهم مهمة تهيئة وإعداد «حمّامات» مسجد الحسن الثاني على أن يجعلوا من هذا المرفق، إلى جانب المرافق الأخرى المشكلة للمعلمة، تحفة إضافية تسرّ الناظرين، فكان حقا بمثابة الجوهرة داخل العقد الواحد المرصّع بسلسلة من الجواهر، إذ استطاعوا أن يمكّنوه من بصمة وهويّة، تزاوج بين الماضي والحاضر، وبين الطابع التقليدي والمتمدن، الذي يربط بين الحاضر والماضي، وهو ما تترجمه النقوش وتعكسه الزخارف على الأبواب والجدران والأعمدة، وتبيّنه بمنتهى الدقة تفاصيل الجدران والأرضيات والسقوف، التي جاءت كل مساحاتها مهما صغرت دقيقة ومستحضرة لكل الأبعاد.
يتخذ الاستحمام بـ «حمّامات» مسجد الحسن الثاني أشكالا متعددة وصيغا مختلفة، إذ ينتقل الزبون بعد حصة «التسخين» إلى إحدى القاعات الخاصة المفتوحة، للاستفادة من «الحمّام» بتفاصيله باعتماد مواد تقليدية خالصة، تضفي على الجسم طهارة ونضارة، شأنها في ذلك شأن المسبح الساخن المعبأ بمياه البحر، الذي يزاوج بين الخصائص التقليدية والمواصفات العصرية، بفضل التجهيزات المائية المتوفرة به، التي تسمح بتدليك الجسم وتوفير «مساج» كامل له، من خلال أوضاع مختلفة، التي تحقق راحة مطلقة، فضلا عن فسح المجال أمام المستحم للسباحة وممارسة مختلف التمارين الخفيفة التي يرغب فيها والتي تمكّن من الارتخاء العضلي وتحقيق راحة نفسية وجسدية على حدّ سواء.

 «حمّامات» للإبداع

قضاء لحظات في قاعة «التسخين» أو أثناء عملية «الحكّ» والتدليك باعتماد مختلف المستلزمات، أو خلال الاستفادة من خدمات المسبح في وسط مياهه، هي لحظات لن تكون بالضرورة عابرة، إذ يمكنها أن تشكل مساحة زمنية لاستحضار الجانب الروحي الذي يرخي بسدوله على المكان، أو لإعادة ترتيب الأفكار، المتعلقة بالذات أو الأسرة أو العمل، حيث صفاء الذهن بعيدا عن كل تشويش، كما قد تكون باعثا وحافزا لاستحضار فكرة نص قصصي أو لإبداع قصيدة شعرية على إيقاعات تقاسيم العود المنبعثة من أرجاء الفضاء التي يرافقها رقص المياه، خاصة في المسبح، أو على ترانيم الموسيقى الأندلسية، التي تمكّن الشخص من الانسلاخ كليا عن واقعه والانطلاق نحو عالم مفتوحة «مصراعيه» على الإبداع.

أرقام ومعطيات

تمتد «حمّامات» مسجد الحسن الثاني على مساحة 6 آلاف متر مربع، وتنقسم بالتساوي إلى حمامين اثنين، الأول للإناث والثاني للذكور، كل واحد منهما يضم حماما تقليديا بقاعاته الثلاث، الدافئة والساخنة والساخنة جدا، إلى جانب الحمام/المسبح الصحي المزود بمياه البحر الساخنة، هذا الأخير الذي يمكن الولوج إليه لوحده بسعر 150 درهما للاستفادة من مختلف تجهيزاته والفضاءات المعدة للراحة والاسترخاء.
وقد تم اعتماد معدات حديثة ومتطورة في إعادة تهيئة «الحمّامات» وتشغيلها بيئيا وتقنيا، للاستفادة من الطاقات المتجددة، من أجل اقتصاد في الكلفة وربح في الجودة والمردودية، وتم التعاقد مع مؤسسة عالمية لها تمثيليتها في المغرب للإشراف عليها وتسييرها باعتماد الكفاءات واليد العاملة المغربية، وهي اليوم تقدم خدمات ذات جودة عالية ممكنة لمختلف الفئات والشرائح، وأبوابها مفتوحة للمواطنين المغاربة والأجانب، إذ أنها يمكن أن تلعب دورا سياحيا إضافيا أيضا، وبالفعل فهي تستقبل يوميا عددا مهما من الزبائن، وبالموازاة  مع ذلك يقوم مكتب للمراقبة بتتبع نوعية الخدمات وتفاصيل جودتها حتى تكون في مستوى الانتظارات وتجيب عن متطلبات المقبلين على «حمامات» مسجد الحسن الثاني، التي يعتبر الاستحمام فيها عنوانا على المتعة.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 10/08/2019