المفكر والمؤرخ عبد الله العروي: الدولة المغربية بحاجة إلى ضمانة رجل الدين والتقليد يتقوى في ظل الإخفاق واليأس

نُصُب محاط بكتبه، صاحب شغف جعل منه شخصية ذائعة الصيت ، إنه عبد الله العروي الذي استقبلنا في حصنه،داخل مكتب أعيد تهيئه في حديقة بمنزله العصري الصغير الكائن بحي السويسي بالرباط.هذا الفضاء- المَعْلمة يعود إليه العروي باستمرار طيلة سنوات، بعد كل رحلة من أسفاره كأستاذ زائر في أرقى الجامعات الأمريكية والأوروبية.كونه قارئا فطنا لجوهر الراهن،أدبيا وإعلاميا،فقد دأب على مجموعة طقوس، بعيدا عن الأنظار، في مقاهيه المفضلة،على منوال فيلسوفه المفضل،فريديريك هيغل،الذي اعتبر بأن قراءة جريدة الصباح بمثابة صلاة الإنسان الدنيوي.
لطيف ،وحيوي ومنكب باستمرار على مشاريع متوخيا إنجازها ،مما جعله يضاعف منذ عشر سنوات إصدار عناوين غير متوقعة.منتقلا من شهادته باللغة الفرنسية وهو يعرض ثانية سرد رؤيته حول سنوات الحسن الثاني،إلى خواطر الصباح التي رصدت وقائع تلك الحقبة باللغة العربية ثم ترجمة فلسفات الأنوار مثل جان جاك روسو،وكتاب المسرح كما الشأن مع هنري دو مونتيرلان،وهو مؤرخ وباحث يستمتع بتقاعد مستحق ومنتج، بعد 37 سنة من العمل الجدي(1963-2000) بكلية الآداب في الرباط.
صاحب الإيديولوجية العربية المعاصرة وكذا مفاهيمه الشهيرة (الدولة، الحرية، الإيديولوجية، التاريخ )،ذاع صيته لكونه أحد مفكري القرن العقلانيين الذي ساءل بقوة أكثر، علاقتنا بالحداثة الغربية وأدرك شيئا فشيئا،كيفية التنقل بين ذاتيته كروائي،وتضاعف ذلك باعتباره شاهدا على التاريخ،ثم صرامته كمفكر يجادل باستمرار أفكارا وموروثات.عندما يستدعى إلى جلسة نقاش مع زملائه من طرف جريدة، أو التلفيزيون،أو المكتبة الوطنية،يتمسك خلال كل مرة بضبط الجدول الزمني وكذا صيغ حضوره إلى الفضاء العمومي.
سواء تعلق الأمر بالتاريخانية بناء على دعوة من مجلة»رباط الكتب»وكذا حول دور المثقف أمام ثورات الشارع استجابة لطلب من المجلة الشهرية ‘’زمان’’،أو فيما يتعلق بالاختلاف بين المؤرخ والقاضي ضمن عرض الدرس الافتتاحي لكلية الآداب بن مسيك في الدارالبيضاء(11أكتوبر2012) ،أو منذ عهد قريب بخصوص موضوع الدارجة على صفحات جريدة الأحداث المغربية أو عبر القناة 2m،فالخرجات الإعلامية لعبد الله العروي نادرة جدا مع أنها منتظرة كثيرا لدى أحد الأخيرين الذي يجسد بالنسبة للمخيال الاجتماعي صورة المثقف الكوني. بيد أن العروي نفسه لا يقر بضرورة ذلك معتبرا أن خطاب العالِم بكل شيء لم يعد مسموعا تماما، مع وصول المختصين إلى المشهد العمومي.من هنا إحساسه بأن المثقف يلزمه جيدا استثمار عزلته- المتوارية كي يترك آثارا مكتوبة للأجيال القادمة، دون أن ينسى بين الفينة والاخرى،عندما يقتضي الأمر ذلك أو استدرجه نتاجه نحو اتخاذ موقف بكيفية علانية

 

ثنائية تقليد / حداثة :

p نلاحظ اليوم بأن ثنائية تقليد/حداثة تواصل حضورها المحظوظ،سواء ضمن خطاب الدولة أو داخل المجتمع.لقد كتبتم سابقا أن المجالين،التقليد والحداثة،لايمكنهما التعايش ضمن نفس الفضاء- الزمان.من أين يتأتى هذا اليقين؟
n أعيد التذكير بأن مفهومي، التقليد والحداثة،لا يتعايشان على مستوى الوقائع بل فقط في الخطابات.نتكلم فعلا عن الطب التقليدي، والهندسة التقليدية، والفن التقليدي،كفضول أو راسب . لكن هل ترون في الشارع دراجات تقليدية، وفي السماء طائرات تقليدية،وداخل المستشفيات أجهزة سكانير تقليدية؟إلا إذا تعلق الأمر بثنائية من نوع خاص : الجسد حديث والدماغ تقليدي.لحظتها، يعني الوضع حقا إسقاط نظرة (تقليدية)على حقيقة (حديثة). لكن، حينما نستعيد النصوص القديمة،ندرك بأن التراث المكتوب،الذي نملك أثره،هو باستمرار خطابا حول حقيقة. دائما،السنة بمثابة دعوى ضد بدعة.تحيل الأخيرة على المعاش، والحسي،أما السنة فليس لها غير الشجب اللفظي، الاجتماعي، السياسي. مانسميه انبعاث السنة يشكل على نحو دقيق إعادة تسمية لما أبدعه التاريخ، وابتكره. فالجديد الذي اقتضى الاستنكار لا يمحى قط أو يلغى ،بل فقط نُعِت بطريقة مختلفة.هذا مانعيشه اليوم. أليس أسلمة، الحداثة وجعلها تقليدية، شيئا ثانيا غير تكييف ما لايمكننا تجاوزه وفق تسمية ثانية ؟لقد رأينا فعلا ذلك بخصوص منتوجات التمويلات الإسلامية. كانت معروفة، ووظفت ثم أهملت ثانية. ليست إسلامية إلا بالاسم،لأنها تدوولت سلفا في البلدان الإسلامية.

هل إعادة اكتشاف التقليد يتوافق مع مفهوم الحداثة؟

أتساءل إن كانت قضية إعادة تسمية عنصر ارتبط بمجتمع آخر ليست وسيلة، بالنسبة لكل المجتمعات الحالية وليس فقط مجتمعاتنا،من أجل تجنب سؤال الغايات . نمر من لغة إلى أخرى، مثلما يستبدل طفل يلعب لعبة ليغو، مكعبا أخضر بأصفر معتقدا أنه أنجز فعلا ذا أهمية.عندما نبذل مجهود لإعادة التسمية، نظن أننا استوعبنا المفهوم، بينما نحن أبعد عن ذلك.لا يكمن الخطر في إعادة التسمية ،بل تركيز الانتباه حول الكلمة على حساب الشيء.

ماذا تظنون بخصوص استمرار هذه الازدواجية ضد – الطبيعة،تقليد وحداثة،على مستوى الخطابات المهيمنة في المغرب؟هل تترجم إرادة سياسية بهدف تأخير التطور؟

التقليد، باعتباره فعلا نوعا من التأويل المنقطع عن الواقع لحقيقة جارية – حقيقة لم ترى أو أنكرت بكيفية شديدة – لايسمح أبدا بالاندماج كليا في الحداثة.حاليا،لا أظن بوجود إرادة لعرقلة التطور. هذا يحيلني على فكرة مكر التاريخ،الأثيرة لدى هيغل وماركس : من أجل جعل مجتمع يتبنى شيئا جديدا ولد عند العدو الموروث،فإنكم تعيدون تسميته ثانية.تقدمون الانطباع أنكم تبدعون ما استعرتموه من الآخر لكنه يستجيب لحاجة حقيقية تشعر بها الإنسانية قاطبة. ذلك ربما ما نعيشه عبر كل هذا الضجيج وكل هذا الاندفاع.شعوب أخرى سبقتنا في هذا المضمار، أبانت عن جنون أكثر تدميرا .كم هي النظريات التي تراكمت حول الخاصيات التي هيأت اليابان كي تصير أكثر حداثة من الأوروبيين الأكثر حداثة ! لن أستحضر سوى تلك المتعلقة بمحاربة الأمية.يقال لنا بأنها عممت منذ نهاية القرن التاسع عشر،قبل أغلب البلدان الأوروبية. لكن هل نتكلم نفس الشيء، بناء على اختلاف العلامات المستعملة في الكتابة؟ربما لم يعمل اليابانيون سوى على إعادة تسمية ما ليس بوسعهم رفضه ولا الاستخفاف به.وقد تمثلوا جيد الفائدة،فتبنوها انطلاقا من الحزم المميز لهم.عكس التسويف الذي يميزنا.فيما يخصنا تتمحور كل المسألة،في معرفة مدى إمكانية أن نصير حقا مبدعين خلال يوم من الأيام.هل سننتقل من التعليق إلى التجربة المباشرة؟أواسط القرن التاسع عشر،طرح الروس والأمريكيون نفس الأسئلة حول مجتمعاتهما.

صرحتم في حوار أجراه معكم الباحثة نانسي غالاغير ،بأن المغرب هو البلد العربي الأكثر استعدادا للحداثة.لكنكم قلتم أيضا سابقا لازال المجتمع العربي غير مستعد بعد كي يباشر ثورته الثقافية.هل من بواكير تظهر أن المغرب على وشك القيام بذلك؟

سأكون اليوم بلا شك أقل إيجابية .فبلدنا ليس جزيرة وصار مجتمعنا مخترقا جدا. مع ذلك أتشبث بالأمل، لأن التقليد عندنا، ليس تماما تقليدا- جديدا،أود القول لازال إلى حد ما مسالما .أتناول على سبيل الذكر مثال الحجاب . في البداية، كنت مستاء،ولم أكن قادرا على مشاهدة الحجاب – غير الذي اعتدنا عليه بحيث جاءنا من مكان آخر- حول وجه فتاة شابة داخل الجامعة أو سيدة تسوق سيارة فارهة وسط شارع الأميرات، دون أن ينتابني سخط شديد.أقول مع نفسي :إلى هذا المآل انتهى نصف قرن من نضال الحركة النسائية !اعتقدت بحتمية تبني الدولة على الأقل لموقف السلطات التونسية،بحظر الحجاب حيثما شكل خطرا على الأمن العمومي- مثال حالة السيدة التي تسوق سيارتها- أو عندما يضر بالتماسك المجتمعي،مادام يضيف عنصرا جديدا للتفاضل وسط فضاء متشظ أصلا. فيما بعد تبين لي أنه يفقد رويدا رويدا قيمته الرافضة ،أو كونه دلالة عن معارضة السياسة الداخلية أو الخارجية للحكم.الذين يبجلون الحجاب يأملون ربما في الصدام،غير أن سياسة اتركه – يفعل،واللامبالاة اللينة ربما شكلت أفضل جواب، على الأقل إلى حد الآن.

تدافعون عن فكرة التحديث،لكن على مستوى الوقائع في المغرب،ينطوي المصطلح على تضمين تقني، تقنوقراطي.لماذا تظنون أن الحداثة لم يتم تمثلها كحالة فكرية؟

لم تقم أبدا حداثة شاملة، كتفعيل لمخطط مقرر سلفا. بل تبلورت حداثات بصيغة الجمع : علمية في ألمانيا، اجتماعية في انجلترا، سياسية في فرنسا،إلخ. كل بلد أظهر حداثة على مستوى معين ثم ليس كذلك،عند مستويات أخرى،بل أحيانا مناهضا للحداثة.لقد عارضت فعليا باستمرار فئات اجتماعية الحداثة :مثلا رجال الدين، وورثتهم، المثقفين.لاننسى أن الرومانسية الأوروبية مثلت في مجملها ثورة على فلسفة الأنوار التي جسدت أول نظرية للحداثة.قلت عدة مرات بأنه لاشيء يميزنا ضمن ما نعيشه منذ قرن.الحداثة التي تخلق مشكلة،ونتكلم عنها في أغلب الأحيان،هي الحداثة السياسية التي أخذت وقتا طويلا كي تفرض نفسها.حروب الثورة ثم فترة نصف القرن التي تلتها تراوحت بين الحداثيين وغير الحداثيين، أو بشكل دقيق بين المجددين وغير المجددين، مادام أنه تجلى بعد الثورة الفرنسية،وعي واضح بما تعنيه الحداثة – كانت الماركسية أفضل توضيح لذلك–وبالتالي مخطط سياسي للتكيف مع هذه الحداثة في البلدان التي لم تعرف أي مظهر لها،لاسيما في بلدان أوروبا المنتمية إلى البحر الأبيض المتوسط ونهر الدانوب. لماذا اتجهت هذه البلدان المتأخرة ،نحو التحديث شيئا فشيئا عبر سلسلة من الثورات،والانقلابات،والحروب الأهلية،بينما بلداننا العربية لم تفعل ذلك بذات الإيقاع،ولا بنفس الإرادة؟لندع جانبا عنصر الاستعمار،الذي يحظى بأهمية بالغة،لكنه سيفضي بنا بعيدا جدا،ولنتأمل فقط مسألة واحدة.حينما يذهب إسباني إلى باريس،فلا تحضره سوى فكرة واحدة،أن بلده يشبه فرنسا بكيفية أسرع مما يكون،ولا يتخيل نفسه مختلفا – اللهم بعض الفولكلوريين – لكن باعتباره متجاوزا أو مغتربا .على العكس منه،فإن مغربيا- لدينا بهذا الخصوص شهادة العديد من السفراء- سيرى نفسه مختلفا ثم حينما يقف أمام الأشياء الأكثر نفعا،سيقول : هذا ليس لنا. المعاصرة ليست إذن تحديثا. الأولى مسار تاريخي متمركز جدا، بينما الثانية مشروع سياسي بوسع كل واحد منا اختياره بحرية باسم المنفعة ولها وحدها. الإصلاح الذي عرفناه في المغرب،قبل الحماية،ليس تحديثا،مادام الأمر يتعلق بإصلاح الدولة القائمة، وليس تغييرها.ولأن مفهوم المنفعة يعتبر مركزيا بخصوص كل مشروع مجدد،فقد منحته أهمية كبرى على مستوى التربية والتعليم والاقتصاد .عندما تقول :((سأرفض مهما كانت فائدته،لأنه ينال من هويتي الثقافية أو يتعدى عليها))، فأنت مناهض للحداثة،أو انتهيت إلى ذلك.هذا اختيار،فكل العلم لن يغير رأي من لا هاجس له سوى ذاته.

نلاحظ حاليا بروز صورتان :الخبير المستشار وكذا الداعية.بالتالي ماهو المكان الذي بقي للمثقف / المفكر المدافع عن الحداثة؟

سيقول لكم الفيلسوف المحترف بأن دوره، الاستثنائي يكمن في التنظير لفعل هذا أو ذاك .فيما يخصني، اعتقدت باستمرار أن المجتمع الذي يصبح يوما ما في غير حاجة إلى المثقف الحداثي،فهذا يعني أنه على سكة التحديث. إذا كانت إشارتكم صحيحة،فسنعثر من جديد على الثنائية السابقة :الخبير يبدع والداعية يدين ثم يعيد التسمية. أنا لست متفقا مع الذين يتحسرون على سنوات الستينات والسبعينات. المثقفون يستمع لهم، لأنهم يمنحون أنفسهم حق التكلم في كل شيء وكانوا الوحيدين من يعرفون كيفية توضيح أفكارهم .حاليا وقد صار أخير بوسع أهل الاختصاص التكلم والإفصاح عن مرادهم،فلن يسمع لغير المختصين سوى بشكل أقل.لاشيء إذن يدعو للتحسر،إذا كان تقويمكم صائبا. مع أنه في اعتقادي غير كامل.المثقف التحديثي ،تعريفيا،لا يمكنه معرفة مخاطب غير الدولة التحديثية ،في نطاق كونه لا يرتبط تماما بمصلحة أي جماعة بعينها(بما في ذلك المثقفين المحسوبين على رجال التدريس والصحافيين والفنانين …) في المغرب،الدولة التحديثية،لن تكون سوى وريثة لدولة الحماية :علة ذلك مبدأ الاستمرارية الذي لايمكن لأي شخص التخلص منه.لكن الدولة المغربية في حاجة إلى ضمانة رجل الدين،من هنا الالتجاء إلى اللغة السلفية.هنا أيضا،نرى عمل مكر التاريخ.في هذه الشروط،لاتحتاج الدولة إلى التبرير النفعي للحداثي ،بل سيشكل لها عائقا. النتيجة، عزلة المثقف الحداثي .لكن هل يتعلق حقا الأمر به؟

يستلزم الانتقال إلى الحداثة إصلاحا ثقافيا وسياسيا سيتأتى له إحداث تحول في التقليد،أو السنة وفق المفهوم الموروث.هل الأمر ممكن عندنا؟

ممكن،حسب أي معنى، نظريا أم عمليا؟ نظريا،التقليد، كل تقليد،يقدم ذاته كمعطى يتعذر دائما تجاوزه وقائما باستمرار. بحيث تتمدد نظرية التقليد مع استمراره.لكن أطروحتي تعتبر ذلك وهما أو تضليلا.نتذكر شروط ظهور النظرية نفسها،أقصد ما يؤدي إلى ظهورها أو إخفاقها. تاريخيا، يتقوى التقليد في ظل الإخفاق واليأس.هذا ما استلهمته من رمز إبراهيم ،لقد قدم من بلاد مابين النهرين،عند حدود مصر وسوريا،أي نواة ما كان عليه التاريخ العالمي،قصد الصراخ ضد فشل الإنسان ومغامراته.لكن تحديدا،لا يتوقف التاريخ مع إبراهيم :هاهي الواقعة المتوارية والصريحة.حجبها، يعني توطيد التقليد،بينما الإقرار بها يشكل ولوجا إلى الإصلاح .يتفتت التقليد ويتشكل ثانية،حسب مسرّات وتعاسات التاريخ. ثم بين لحظة التفتت والتشكل الجديد،يصير كل شيء ممكنا،على مستوى الحقيقة نفسها.يعود هذا إلى إرادتنا وكذا اختياراتنا.أثناء ثم غداة الإخفاق،خلال لحظة التيه والشقاء، ينهار التقليد،لهذا يصبح عنيفا (أي عنف كما الشأن مع عنف الكنيسة الكاثوليكية أثناء صراعها مع لوثر والعدو العثماني !).بوسعه، خلال تلك اللحظة،أن لا يتقوض بل ينتظم ثانية .ما أصرح به هنا،عرفناه فترة نهاية الحماية،عندما هرب جميع شيوخ الزوايا.لكن،مثلما تعلمناه أيضا بحسب تجاربنا،فمع أقل تردد ينبعث التقليد بكيفية أكثر تماسكا وغطرسة وإلزاما من ذي قبل.

كتبتم في عملكم : مفهوم العقل .بأن الطوباوية الإسلامية ظلت حية جدا مع حصيلتها الحتمية المتمثلة في تبخيس فكرة الدولة نفسها. ما الذي سيبرر اليوم في اعتقادكم بأن ارتقاء دولة حديثة سيكبحه أكثر ثِقل الديني أو تراجع دور المؤسسات؟

أحيل على التعارض بين إيديولوجية الدولة الإسلامية(الخليفة)وحقيقة الدولة الوطنية.استمرار الأولى لايسمح أبدا بتقوية الثانية.إذا أعلنتم مع كل مناسبة، أن القرآن هو دستورنا، فإنكم تعيقون الدستور الآخر الذي أقره الاستفتاء كي يفرض نفسه باعتباره مرجعا وحيدا، بحيث يتم تلغيم أساس القانون. نواجه باستمرار نفس المعضلة، لكن ضمن سياق يتفاقم. خلال فترة الحسن الثاني، كان مصدر الخطر بالنسبة للنظام وكذا الوحدة الوطنية، يلزم قول ذلك، بلدانا مثل مصر أو سوريا،الحاملة للواء العروبة.أما اليوم فيأتي من بلدان أقل تطورا تاريخيا واجتماعيا –هذا واقع – لكن بوسائل لانهائية تتجاوز كثيرا ما امتلكه البلدان السابقان.انظروا إلى صحافتهم، وقنواتهم التلفزيونية، وتنظيماتهم الخيرية،إلخ.الدولة الوطنية في المغرب،كما الشأن في مكان آخر،لا تملك أي وسيلة لحماية نفسها،بل عليها أيضا التعامل مع هذه الدول.لا يمكن حتما توقع ما يحدث هناك ثم يمسنا بطريقة غير مباشرة.بوسعنا التفكير في النظرية البولشفية القديمة بخصوص تفاوت النمو.إنها مجتمعات تراكم ثروات خارقة، دون أن يكون المجتمع مهيأ لامتصاصها.إذا حدث اضطراب جراء ذلك، فسيؤثر فينا بغتة بمفعول جانبي ،ومفاجئ كما مستنا بطريقة غير مباشرة، ثورات مصر والجزائر وليبيا،إلخ. أقول هذا مرة أخرى،بهاجس الموضوعية، قصد تحديد ما يمكننا التطلع إليه أو الخشية منه. بالتأكيد عوائق التطور متعددة – تعود إلى الدين مثلما يُدرس ويمارس، البنية المجتمعية، المصلحة السياسية لبعض الجماعات – لكن يُتواصل دعمها من طرف تأثيرات هناك، ليس في مقدورنا أن نفعل ضده أي شيء. أمام هذا الخطر الكامن، يشكل الحفاظ على التماسك الوطني أولية مطلقة.كثير من المعلقين ينسون مع ذلك هذه القضية المهمة.

في كتابكم المغرب والحسن الثاني،تطرقتم إلى تراجع الدور المؤسساتي للدولة.هل مرد ذلك دائما إلى التأثير القادم من الشرق؟

في هذا الكتاب،توخيت إظهار، بأن كثيرا من قرارات الحسن الثاني على المستوى المؤسساتي،أملتها الظروف.تحوله إلى زعيم استجاب ربما،أكثر من المرجح،لنزوع طبيعي،لكنه لم ينجح بهذا الخصوص على نحو كامل وبكيفية سريعة جدا،لو لم يكن حوله،في العالم العربي،زمرة من الزعماء.خلال حقبة،وحدها الزعامة،أي قيادة الحكم،تضفي شرعية على السلطة .تراجع المؤسسات في مغرب اليوم،أسميه بالأحرى تراجع الآمال المؤسساتية.لقد عبرت دائما عن رغبة أن أرى البلد يدار،ببطء لكن بيقين،صوب نظام ملكي حقا مؤسساتيا وبرلمانيا،حيث الملك يحكم،يرشد، ينصح، يؤثر،لكن دون التدخل في الإشراف على الشؤون الجارية،حتى ولو عبر الفعل الخيري،لأن هذا يعطي الانطباع كونه يمتلك كنزا لاينضب.كل ذلك بهدف الحفاظ على سلطته المعنوية.يلزمه مختلف الوسائل كي يكون ويبقى ملكا للمغرب والمغاربة. لكنه طموح يظل شخصيا، ولا أهمية له .أما الحقيقة، فتؤكد وجود قوى متعددة لاتريد تطورا من هذا القبيل.بعضها وطنيا وربما لهذا السبب لا نرتاب فيها.بعض الأوساط، المفتقدة بشكل غريب للحس التاريخي، تتوخى جعلنا نعتقد استمرار مواصلة الحسن الثاني في توجيه حياتنا خلف موته.غير أن ما نراه منذ تسع سنوات،يؤكد فعلا عدم إرجاع كل شيء إلى الحسن الثاني.هذا ما أردت قوله بجملة غامضة :لقد كان ضحية لنا بقدر ما كنا ضحايا له. أضيفت إلى هذا العوائق الداخلية أخرى، خارجية. إننا جزء ضمن مجموع، بحيث ليس بوسعنا العودة إلى الوراء أو السير وحدنا وجهة الأمام.هذا التأثير المبطئ لا يتأتى فقط من الشرق،بل الغرب أيضا.الحقيقة التي لاغبار عليها،أن الأجنبي يريد محاورا وحيدا لا يتغير أبدا،يضمن الوفاء للالتزامات المتخذة.

في كتابكم : أزمة المثقفين العرب،طرحتم ثانية موقع المغرب الجيو-سياسي.اليوم،يرتبط المغرب اقتصاديا بأوروبا لكنه عاطفيا يبدو غير قادر كي ينفصل عن الشرق. هل يمثل ذلك في نظركم تناقضا يحتم قطيعة؟

يسهل إحداث القطيعة الفكرية، هي مفيدة بلا شك، لكن القطيعة العاطفية، أكثر صعوبة،وليست قطعا ضرورية.بهذا الخصوص، ألجأ إلى التمييز بين العمومي والخاص.إذا حرص الأشخاص ،بكيفية فردية،على بعض أنماط اللباس، والأكل، والتصرف ،ومعاملة النساء،فلما الاصطدام؟ لماذا نحرمه ؟إذا تمتع في ظل ذلك بارتياح شخصي وتوازن سيكولوجي ؟إجمالا،العديد من التقاليد المحلية والأسروية المشتركة التي تميز بعضنا عن البعض،لازالت قائمة. لكن بانتقالنا إلى المستوى العمومي،حينما يتقرر مستقبل البلد في شموليته،يلزم وقتها إعطاء الصدارة للخطاب العقلاني،وليس النموذج مهما كان مصدره.

هامش :
Fatima Ait Mous et Driss KsiKes :le métier d intellectuel ; en toutes lettres ; 2014 ;pp59- 87

 

حاوره: ادريس كسيكس وفاطمة موس


الكاتب : ترجمة : سعيد بوخليط

  

بتاريخ : 30/05/2017