ذكريات عبرت …فأرخت .. أنصفت وسامحت عبور طـنجة المتوسط في اتجاه الأندلس … -1-

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي .. .في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما « اٌلْقَدَرُ» كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ « أَبْطالٍ « بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَاٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ «لَهيبِ الصَّهْدِ» جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ وانْكِسارَاتِهِ، وَجِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، وعَبْرَ دِفَّتَيْهِ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ … بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَالأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ … وَعَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ، وأَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي «توفيق الوديع « دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ ومَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ والبَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَتَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ…

 

على الحدود أوقفوا العائلة للتحقق من الهويات، كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا… الجمركيّة نشطة في قيامها بالإجراءات القانونية اللازمة التي تسمح باجتياز الحدود، وقد كانت العملية سلسة وبسيطة للغاية…
«لن نوقفك على الحدود يا سيّدي، فالمغرب في تغير مستمر. ولكنها أغنية جميلة أضعها كذلك على هاتفي إبان عملي حتى أتذكر معاناة شعب مع حدوده» قالها شرطي الحدود وهو يعيد جوازات السّفر بعد التأكد من هويات أصحابها، فقد كان توفيق قد أطلق أغنيّة «الحدود» لمرسيل خليفة… عمداً والعائلة تهمُّ باجتياز آخر نقطة قبل ركوب الباخرة.
«واشحال فيك ديال الزيادة أ توفيق… شوف المسؤولين كيفاش كيسهلوا المأمورية… ديال العبور…» لاحظت أم سامية بفرح سبقه توجّس من عرقلة محتملة …
وجب الاعتراف، يا حبيبي، بهذا التطور المذهل التي عرفته البنيات التحتية لبلادنا، فقبيل عقد، لم أكن أتصور أنه بإمكاننا قطع المسافة الفاصلة بين العاصمة الاقتصادية وعروس الشمال في ظرف لا يتعدى ثـلاث ساعات ونصف وأن نُستقبل في ميناء بهذا الحجم… ونقطع الحدود بهاته السهولة… إنها مصالحة مع الذات و إنصاف لهاته المنطقة».
«لن نختلف طبعا، ولكن وجب أن ننتبه إلى أنه بموازاة كل هاته المجهـودات، وجب استمرار النضال من أجل النهـوض بكـل الـقـطـاعـات وعلى رأسها الصحة والتعليم و هي أوراش ضخمة وأساس لكل بناء ديمقراطي…»
تدخلت سامية مقاطعة حديث والديها، لتذكر الأب أنه في جميع نقاشاته لا يتحدث إلا عن البناء… وكانت في أوج حبورها وهي تستعد لعبور مضيق جبل طارق، مشهرة قصّة جدتها ثريا التي تحكي عن القائد الأمازيغي الذي كانت له الشجاعة لرفع التحدي، غزو الأندلس وبناء حضارة دامت زهاء ثمانية قرون… على أرض ستصبح أندلسا أرّخت لحقبة متميزة من تاريخ العرب و الأمازيغ.
والباخرة تمخر عباب البحر، ربتت سامية على رأس والدها الذي كان قد استلقى على أريكة وُضعت على ظهر الباخرة، يتأمّل شساعة ذاك المتوسط الذي وحده من يستطيعُ احتضان زخمَ الذكريات.
انتبه الوالد إلى أميرته، عانقها قائلا:
«أتذكر يا صغيرتي قصة جدّك في أول رحلة له خارج حدود البلاد، ولم تكن إلا لسبتة المحتلة حيث، وهو يهُمُّ بالعودة، اقتنى عطر الوالدة المفضّل،Le Chanel 05، وكمواطن ملتزم صرّح للجمركي بالهدية، فما كان من الأخير إلا أن طلب منه أداء ضريبة جمركية تفوق ثمن الشراء، عندها فضل جدُّك، إلقاء زُجاجة العطر أرضا لتكسيرها، لأن القانون الضريبي، أساسا، كان يسمح له اقتناء بعض المُشتريات ذاتُ الاستعمال الشّخصي دون أداء أيّة ضريبة. ضحك الجمركي طويلا، وهو يكتشفُ مواطناً يحترمُ قانون بلاده بحذافره، و منع جدَّك من تكسير القنينة الثانية ، فقد كان قد اقتنى هذا النوع من العطر لأن ثريّا تعشقه… هكذا كان، وهكذا ظل.
الخزيرات، الجزيرة الخضراء، كان مكبّر صوت الباخرة يُعلم المسافرين بانتهاء الرحلة طالبا منهم الالتحاق بسياراتهم أو الخروج عبر المعبر المُعدّ لذلك بالنسبة للراجلين.
«إذن نحن في الأندلس، يا والدي، والجزيرة الخضراء لا تتوفر على فريق على مستوى البطولة الاحترافية الإسبانية».
«كفى من الحديث عن المستديرة، يا أسامة، وهلاّ حدثتنا عمّا تعرفه عن تاريخ المدينة وارتباطه بتاريخ المغرب…» نبهته والدتهُ أسماء وقد ظهرت عليها علامات النرفزة.
«مؤتمر الجزيرة الخضراء عُقد سنة 1906 وكانت مقرراته قاسيّة في حق المغرب و لهذا أضحى المغاربة يصفون كل التعاقدات المجحفة بشروط الخزيرات»… كان جواب أسامة مقتضبا وينم عن معرفة أهم المحطات التاريخية لبلده.. وفي انشراح تام، ذكّر والدته بأن جوابه بمثابة ضربة جزاء حاسمة، أو إصابة في الزاوية التسعين في الدقيقة التسعين …»
يذكّرني ردُّك هذا بردود عمّك العربي العفوية والذكية …» ترد والدة أسامة.
كانت الوجهة نحو منتجع «لاهيرادورا» على الأبيض المتوسط، وهي من أجمل المنتجعات الأندلسية بمحاذاة مدينة المُنكّب، والتي سماها الـرومان sexis، ربما لاشـتـهـارها بعـشـق سـكـانها للـسـهـر والـنـشـاط، والمجون وسمّاها العرب بحصن المنكّر أو المُنكّب، فجمال المنطقة أهّلتها لأن تكون وجهة للعشّاق الهائمين المحبين للحياة.
والمنكّب كانت قد استقبلت عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، الملقب بصقر قريش، فارّا من بطش العبّاسيين، بعد رحلة طويلة ومُتعبة قادتهُ من دمشق مرورا بتونس والجزائر، ومن مدينة سبتة المغربية عَبَر إلى هاته الضفة، و منها سيُبَايَعُ أميرا على قرطبة سنة 756 م.
وAlmunecar هو الإسم الذي احتفظت به هاته المدينة إلى يومنا هذا، بل وخلد الإسبان تاريخ ذاك الأمير بتمثال جميل أطلق عليه إسم « صقر قريش».
ومن سخرية القدر، أو ربما حبّا في استعادة مجدٍ مضى، توجدُ غالبية إقامات المنطقة الباذخة في ملك أهل الخليج… هي قصور بنيت و جُهّزت من أجل الترويح عن النفس… وكذلك لتمكينهم من مجون يريدونه بعيدا عن أراضيهم المقدسة …!


الكاتب : توفيق الوديع أعدها للنشر: منير الشرقي

  

بتاريخ : 17/08/2019