فلسفة العقل عند جيلبير رايل 2/2

إن العقل والمادة هما قطبان متعارضان، ويُعبر عن هذا التعارض في الغالب بهذه الطريقة: توجد الأشياء المادية في حقل مشترك، معروف تحت اسم «المكان/الفضاء»، وما يحدث لجسم ما في جزء من الفضاء يكون مُرتبطا ميكانيكيا لما يقع لأجساد أخرى في أجزاء أخرى من الفضاء. على العكس من هذا فإن الأحداث العقلية تحدث في حقول معزولة، معروفة تحت اسم «العقول»؛ وليس هناك ، باستثناء لربما تداعي الأفكار، أية علاقة سببية مباشرة بين ما يقع في عقل ما وما يقع في عقل آخر.
للعقل مكانه الخاص به، ويعيش كل واحد في حياته الداخلية حياته (روبينسون كروزو Robinson Crusoé) الخيالية. يمكن للكائنات البشرية أن ترى بعضها البعض وتسمع بعضها البعض وتتخاصم بمساعدة الجسد، لكنها تكون عمياء بالمرة وخرساء لاشتغال عقول بعضهم البعض، والتي لا يمكنها الإشتغال عليه.
ما هو نوع المعرفة الذي يمكنه أن يكون عندنا في ما يخص اشتغالات العقل؟
طبقا للإرث الذي وصلنا، لكل شخص معرفة مباشرة، الأفضل الممكنة، باشتغال عقله. فالحالات والعمليات العقلية هي (أو هي هكذا عادة) حالات وعمليات واعية، ولا يمكن للوعي الذي يضيئها القيادة إلى أي وهم ولا يترك المجال لأي شك. إن الأفكار والمشاعر والإرادات اللحظوية وإدراكات وذكريات وتخيلات شخص ما تكون جوهريا مُتَفَسْفِية/فسفورية، يُكشف وجودها وطبيعتها حتما لصاحبها.
إن الحياة الداخلية هي إذن تدفق للوعي من نوع يكون من السخافة زعم كون العقل الذي تكمن حياته في تدفق الوعي هذا لا يكون واعيا.
صحيح أن التجارب التي ذكرها فرويد مؤخرا تحاول أن تُظهر بأن هناك روافد لتدفق الوعي هذا، وهي تدفقات تجري بطريقة مُختفية عند الشخص الذي تظهر عنده. تتحرك الكائنات البشرية بدوافع ترفضها بقوة، هناك بعض أفكارهم تختلف عن الأفكار التي يعتبرونها لهم، وهناك بعض الأفعال التي يعتقدون بأنهم يريدون تحقيقها، لا يُريدونها في الحقيقة. قد يكونون بلداء في ما يخص نفاقهم الخاص وينجحون جيدا في تجاهل وقائع من حياتهم العقلية، والتي من الضروري، طبقا للمذهب الموروث، أن تكون شفافة بالنسبة لهم. ومع ذلك، فإن المدافعين على المذهب الموروث هذا يدافعون عن ضرورة أن يكون شخص ما بالضرورة، وفي الأوضاع العادية، على علم بحال اشتغال عقله مباشرة وبطريقة أصيلة.
لا يفترض المذهب الموروث أن تكون في متناول الفرد وفرة مُعطيات يُزعم أنها مباشرة للوعي فقط، بل عليه أيضا أن يكون، من وقت لآخر، قادرا على نوع خاص من التمثل، يعني التمثل الداخلي أو الإستبطاني. وبهذا سيكون المرء قادرا على «النظر» (غير بصري) في ما يحدث في عقله. فلن يستطيع عن طريق حواس النظر رؤية وفحص وردة ما فقط، أو بمساعدة حاسة السمع الإستماع وتمييز النقط الموسيقية لقرع الأجراس فقط، بل يستطيع أيضا فحص، بطريقة استبطانية، الفكر ودون مساعدة أية حاسة من الحواس، الأحداث الحالية لحياته الداخلية. إضافة إلى هذا فإن هذا المذهب الموروث يفترض أيضا بأن هذه الملاحظة الذاتية آمنة من الوهم والخلط والشك. وبهذا فإن هذا التقرير من العقل على ما يجري داخله يمتلك يقينا أعلى من اليقين الذي يمتلكه في تقاريره عن أحداث العالم. قد تكون المدركات السمعية خاطئة وغامضة، لكن الوعي والإستبطان لا يمكنهما أن يكونا هكذا.
من جهة أخرى ليس لشخص ما أي مَمَّرٍ مباشر كيفما كان نوعه للوصول إلى أحداث الحياة الداخلية لحياة شخص آخر. في أحسن الأحوال ما قد يستطيعه هو فقط القيام باستدلالات إشكالية انطلاقا من سلوكات جسدية، تُلاحظ عند هذا الشخص ويستنتج منها حالات عقلية، يفترض بمقارنتها مع سلوكه الخاص بأنها تتمظهر في السلوكات المُلاحظَة.
إن الوصول المباشر إلى اشتغال عقل ما هو امتياز لهذا العقل نفسه، ودون امتياز من هذا القبيل؛ فإن اشتغال عقل ما يكون غير شفاف بالنسبة لكل شخص آخر. في الواقع، فليست هناك أية ملاحظة يمكنها تعزيز استدلال بعض الملاحظين، الذين يستنتجون من حركات جسدية مشابهة لحركاتهم، بأن الإشتغالات العقلية متشابهة جزئيا. من هنا فليس من المفاجئ أن يستعصي على منضو ما لهذا المذهب الموروث أن يشرح نتائج فرضياته، القائلة بأنه ليست هناك أسباب جيدة للإعتقاد في وجود عقول أخرى من غير العقل الشخصي الذاتي. وحتى وإن كان أصحاب هذا المذهب يفضلون الإعتقاد بأن العقول التي تتحد في الأجساد البشرية الأخرى لا تختلف عن العقل الخاص، فإنهم لا يستطيعون الادعاء بأنه باستطاعتهم اكتشاف خاصياته الذاتية أو العمليات الخاصة التي يخضعون لها أو تلك التي يُشغِّلونها. وطبقا لهذه النظرية، فإن العزلة المطلقة هي المصير الحتمي للروح، والأجسام وحدها هي التي يمكن أن تلتقي.
لهذا الرسم التخطيطي لازمة corollaire ضرورية، تفترض ضمنيا طريقة خاصة لفهم مفاهيم القُدرات والعمليات العقلية. يجب أن تُؤَوَّل الأفعال والأسماء والصفات المستعملة في الحياة اليومية لوصف الذكاء والشخصية والإنجازات من مستوى عالٍ للأشخاص الذين نلتقي بهم، وكأنها تشير إلى حلقات خاصة للتاريخ السري لهؤلاء الأشخاص أو إلى الميولات التي تقود إلى حدوث هذه الحلقات. عندما نقول عن شخص ما بأنه يعرف ويعتقد ويَحْزُر devine شيئا ما ويتمنى ويخاف، يقترح أو يتجنب عمل شئ ما، ينوي القيام بشئ ما أو يتسلى بشئ آخر، فإننا نفترض بأن هذه الأفعال ترمز لظهور تعديلات خاصة في ميدان وعيه (يكون غير مرئي بالنسبة لكل الآخرين). والمسلك الخاص والمُفضّل عنده للوصول إلى تدفق الوعي هذا، عن طريق الإستبطان والوعي المباشر، هو الوحيد الذي قد يقدم شهادة صحيحة عما إذا كان المرء يستعمل هذه الأفعال، التي تعني سلوكات منطقية، بطريقة صحيحة أم لاَ. لا يمكن أبدا للمُلاحظ سواء أكان أستاذا، ناقدا، كاتب سير أو صديقا أي يضمن بأن تعاليقه تتضمن جزءا من الحقيقة. في الواقع، فلِأننا نستطيع القيام بهذا النوع من التعاليق، ونقوم بذلك بطريقة صحيحة عامة ونصححها إذا ما ظهر بأنها خاطئة أو غامضة، رأى الفلاسفة بأنه من الضروري بناء نظريات حول طبيعة مكان العقول. وجدوا مفاهيم السلوك العقلي المُستعملة بانتظام وبنجاعة، وحاولوا من طبيعة الحال تطوير جغرافيتهم المنطقية. وتكمن نتيجة الجغرافية المنطقية التي اقترحت بصفة عامة في عدم وجود أي استعمال مُنظَّم أو فعَّال لمفاهيم السلوك العقلي هذا في توصيفاتنا لعقل الآخر أو في التوصيات التي نوجهها له.

سخافة النظرية الموروثة

سأتحدث عن المذهب الموروث الذي لخصته كـ „مذهب الشبح في الآلة“. والإهانة هنا معتمدة. أتمنى أن أبرهن على أن هذه النظرية خاطئة كليا، خاطئة في المبدأ وليس في التفاصيل، لأنها ليست فقط تجميعا للأخطاء الخاصة، لكن خطأ كبير واحد من نوع خاص، يعني أنها خطأ في الفئة. في الواقع، تُقحم هذه النظرية أفعال الحياة العقلية كما لو أنها تنتمي إلى نوع منطقي أو فئة منطقية (أو إلى سلسلة من الأنواع أو الفئات المنطقية)، في حين أنها تنتمي بالفعل إلى فئة أو إلى نوع منطقي آخر. ولهذا السبب يتعلق الأمر بأسطورة للفلسفة. سيظن المرء في مجهوداتي لتفجير الأسطورة بأنني أنكر حقائق معروفة جيدا مُتعلقة بالحياة العقلية لبني البشر، وإذا دافعت عن نفسي زاعما بأنني لا أريد إلا تصحيح منطق مفاهيم السلوك المنطقي، فلربما يرفض المرء هذا العُذر كحيلة مني ليس إلا.
عَلَيَّ قبل هذا شرح ما أعنيه بعبارة „خطأ في الصنف“، وسأقوم بهذا مُستعينا بسلسلة من الأمثلة.
يزور غريب لأول مرة أكسفورد أو كامبريدج. نُريه الكليات والخزانات والملاعب الرياضية والمتاحف والمختبرات وبنايات إدارية. يسأل هذا الغريب: „لكن أين هي الجامعة؟“. رأيت أين يعيش أعضاء الكليات، أين يشتغل العميد، أين يقوم الفيزيائيون بتجاربهم وبنايات أخرى مختلفة، لكنني لم أر الجامعة بعد حيث يسكن ويشتغل أعضاء جامعتكم“. على المرء إذن أن يشرح له بأن الجامعة ليست مؤسسة إضافية، إضافة للكلية والمختبرات والمكاتب التي كان باستطاعته رؤيتها. إن الجامعة هي الطريقة التي يُنظَّم بها كل ما رآه. فمشاهدة البنايات المختلفة وفهم تنسيقها هو مشاهدة الجامعة. يكمن خطأ هذا الغريب في الاعتقاد الساذج بأنه من الصحيح الحديث عن كلية كنيسة المسيح ومكتبة البودلييان la Bodléienne ومتحف أشمولين والجامعة، كما لو أن هذه الأخيرة هي عضو آخر للفئة التي تكون المؤسسات السالفة الذكر عضوا فيها. أسكن خطأ الجامعة في نفس الفئة التي تنتمي لها المؤسسات الأخرى.
يمكن لطفل يحضر استعراضا لفرقة عسكرية ما أن يقع في نفس الخطأ. نشير له بالأصبع إلى الكتائب والبطاريات العسكرية والفرق إلخ، ويسأل في ما بعد متى يتم استعراض الفرقة العسكرية؛ مُفترضا بهذا بأنها تشبه الفرق التي شاهدها، مشابهة لها جزئيا، وتختلف عنها جزئيا. نصحح خطأه قائلين بأنه وهو يُشاهد استعراض الكتائب والبطاريات العسكرية والفرق، فإنه قد رأى استعراض الفرقة. فالإستعراض ليس موكبا للكتائب والبطاريات العسكرية والفرق، بل كان موكبها.
هناك مثال آخر. غريب يحضر أول مرة مقابلة في لُعبة الكريكيت Cricket ويُعلم أدوار رامي الكرة ورجل المضرب والصيادين والحكام والمسجلين. يصيح: „لكن لم يبق أحد في الملعب ليساهم في الجزء المشهور من اللعبة ألاَ وهو روح اللعب. أرى من يطلق الكرة ومن يمررها ومن يحرس المرمى، لكنني لا أرى اللاعب الذي يلعب دور روح اللعب». يجب على المرء أن يشرح له مرة أخرى بأنه يستفسر بشدة. روح اللعب ليست حركة للعبة الكريكيت إضافية للحركات الخاصة الأخرى لها. إن روح اللعب هي على العموم الحماس الذي يؤدي به كل واحد دورا من أدوار اللعبة. لكن القيام بدور بحماس لا يعني القيام بدورين. بالفعل إن إظهار روح اللعب ليس هو نفس الشيئ كرمي كرة أو الإمساك بها، وليس كذلك حركة إضافية كأن يقول المرء مثلا بأن رامي الكرة يرمي أولا الكرة وبعدها يُظهر روح اللعب أو أن الصياد يقبض في لحظة ما على الكرة أو يُظهر روح اللعب.
لأمثلة الفئة هذه خاصية مُشتركة لابد من تسجيلها: تُرتكب الأخطاء من طرف أُناس لا يعرفون استعمال مفهومي الجامعة وروح اللعب. وتنتج الصعوبات التي تواجههم في عدم كفاءتهم في استعمال بعض مفردات اللغة الفرنسية.
تكون بعض الأخطاء من هذا القبيل مهمة من وجهة نظر نظرية، يعني الأخطاء المُرتكبة من طرف الناس القادرين على استعمال المفاهيم ببراعة، على الأقل في الأوضاع العادية، لكنهم مُعرضون، في فكرهم المجرد، لتنظيم هذه المفاهيم في إطار أنواع منطقية لا تنتمي إليها. لنأخذ مثلا مثل هذا الخطأ: تعلم طالب في العلوم السياسية الإختلافات الأساسية الموجودة في الدساتير البريطانية والفرنسية والأمريكية وكذا الإختلافات والعلاقات الموجودة بين مجلس الوزراء والبرلمان ومختلف الوزارات والهيئة القضائية والكنيسة الأنغليكانية. وقد يجد هذا الطالب نفسه مُضايقا بأسئلة حول العلاقات بين الكنيسة الأنغليكانية ووزارة الداخلية والدستور الإنجليزي. ففي الوقت الذي تكون فيه الكنيسة الأنغليكانية ووزارة الداخلية مؤسسات، فإن الدستور البريطاني ليس مؤسسة أخرى بنفس معنى المُصطلح. بإمكاننا أن نؤكد أو ننفي بأن هناك علاقات بين مؤسساتية بين الكنيسة ووزارة الداخلية، لكن لا يمكننا الحديث عن علاقات من هذا القبيل بين مؤسسة من المؤسستين المذكورتين والدستور البريطاني. لا تنتمي عبارة» الدستور البريطاني» إلى نفس الصنف المنطقي كـ « وزارة الداخلية» و»الكنيسة الأنغليكانية». ويشبه هذا قليلا كون جون دوبون Jean Dupond قد يكون قريب أو صديق أو عدو جون دورون Jean Durand، وهذا ما يمكن أن يكونه بالنسبة لدافع الضرائب الإنجليزي. ونفس جون دوبون هذا قد يتحدث في نقاش ما بطريقة ذكية عن دافع الضرائب المتوسط، لكنه سيكون متضايقا من شرح لماذا لا يمكنه الإلتقاء به في الشارع كما يلتقي بصديق ما.
في ما يخص دور خطأ الصنف، فمن الأهمية بمكان تسجيل النقطة التالية: فطالما أن طالبنا في العلوم السياسية يعتقد بأن الدستور البريطاني مُمَثل للمؤسستين المذكورتين، فسيميل لوصفه كمؤسسة غامضة. ونفس الشيئ بالنسبة لجون دوبون، فطالما فكر في دافع الضرائب المتوسط كما يفكر في مواطن مشابه له، فإنه سيكون مضطرا لتصوره كرجل هارب وغير مادي، طيف يوجد في كل مكان ولا يوجد في أي مكان.
إن الغرض من انتقادي هو إبراز وجود مجموعة من أخطاء الصنف الراديكالية في أصل نظرية ثنائية الحياة. تمثل الفرد الإنساني كشبح أو روح غامضة معشش في آلة يأتي من هذه النظرية. في ما يتعلق بهذا الأمر، فمن الصحيح بأنه لا يمكن وصف العواطف والأنشطة الإرادية فقط بلغة فيزيائية وكيميائية وفيزيولوجية. وقد استنتج المدافعون عن نظرية الحياة المزدوجة بأنه يجب وصفها بلغة مُتَوَازِيَة. فبما أن الجسم الإنساني هو وحدة معقدة ومُنَظَّمة، فيجب على العقل الإنساني، طبقا لهم، أن يكون وحدة أخرى، معقد أيضا ومُنظم، على الرغم من أنه مُختلف وينتمي إلى جوهر آخر وله نوع آخر من البنية. أو بما أن جسم الإنسان ككل قطعة مادية أخرى هو حقل أسباب ومسببات، فإن هذا المذهب يرى في العقل حقلا آخر للأسباب والمسببات (اللهم أننا نشكرك)، وهي ليست أسباب ومسببات ميكانيكية.

الجزء الثالث

نقدم الجزء الثالث والأخير لترجمتنا للجزء الأول لكتاب رايل، حيث يقول بأن خطأ ديكارت يكمن في إدراجه العقل مع الجسم باعتبارهما «جواهر»، وهو الخطأ الذي أطلق عليه اسم «خطأ المقولة»، بمعنى إدراج مفهومين في مقولة واحدة، مقولة الجوهر.
يصنف ديكارت إذن، حسب رايل، فئة من المفاهيم غير الواضحة داخل فئة أو مقولة لا تنتمي في الحقيقة إليها. وهذا بالضبط أساس الثنائية الديكارتية. فالعقل عند ديكارت جوهر لا مادي منفصل عن الجسم، لكنه متصل به في الوقت ذاته اتصالًا وثيقًا، وما لم يشرحه هو من أين أتت هذه الصلة، ومن أية طبيعة هي، ما دامت تقوم بين ما هو مادي وما هو غير مادي. وهنا بالضبط يستعمل رايل تعبيره: «الشبح في الآلة»، متصورا الجسم كآلة تشتغل طبقا للقوانين الفيزيائية، لكنها تشتغل طبقا لأوامر جوهر، يسمى العقل.
تعامل رايل مع العقل في سلوكيته اللغوية، كما أكدت طاني على ذلك، كإسم نطلقه على مجموعة من العمليات والحالات السلوكية، لكنه لم يعتبره شيئا ملموسا. ولهذا السبب كان أول سؤال شغل فلسفة العقل هو وجود أو عدم وجود العقل. وانطلاقا من قراءتنا لباقي فصول الكتاب، نفهم بأن هناك بعض التأثير الواضح للسلوكية السيكولوجية، التي كانت تؤكد بأنه لا يجب أن تُدرس الحالات العقلية في ذاتها، كما لو كانت أشياء داخلية تنتمي إلى داخل الإنسان، بل من الضروري اختزالها إلى السلوك الذي يمكن ملاحظته مباشرة وتجريبيًّا. فالسلوك الظاهر لا «يشير» إلى حالة عقلية باطنية أو يدل عليها، بل هو نفسه في حد ذاته الحالة العقلية المعنية بالأمر. وهي حالة لا تتوفر على أي محتوى آخر من غير كونها سلوكا خارجيا ليس إلا، أي أن السلوكية كمنهج، رفضت الإستنباط، لأن ما يسمى بالحالات النفسية كالفرح أو الحزن لا تتعدى كونها سلوكا مرتبطا بالفرح أو بالحزن، وليست موضوعات وجدانية باطنية، يمكن معرفتها بالإسنباط. والإشارة إلى هذا الأمر من الأهمية بمكان لأن رايل تعامل مع العقل في سلوكيته اللغوية بنفس الطريقة، فالعقل عنده، كما قلنا، هو اسم شامل، يجمع فئة ضخمة من السلوكات.

النص المترجم:
«مصدر خطأ الصنف»

ها هنا، في نظري، مصدر من مصادر خطأ الصنف الديكارتي. فبعدما وضح جاليلي بأن مناهج اكتشافاته العلمية باستطاعتها تقديم نظرية ميكانيكية قادرة على التطبيق على كل من يوجد في المكان/الفضاء، فإن ديكارت شعر بأن لديه حضور مُيُولَيْنِ (من الميول إ. م) متناقضين. فباعتباره عبقريا علميا فلن يكون بإمكانه إلا تأييد متطلبات الميكانيكا، وكمُؤمن مشغول بالمشاكل الأخلاقية، فلن يقبل كهوبز Hobbes الشرط الذي يدفع للكآبة للميكانيكا، القائلة بأنه لا يوجد فرق في التعقيد بين الطبيعة الإنسانية وميكانيكا الساعة الحائطية. وبالنسبة لديكارت، لا يمكن للعقل أن يكون فقط نوعا من الميكانيكا.
من طبيعة الحال، لكن بخطأ، تبنى ديكارت والتابعين له منفذا ما. فبما أنه كان من الضروري الإحتياط من تأويل شروط السلوك العقلي وكأنها تعني مجرى العمليات الميكانيكية، فمن الضروري تأويلها كحاملة لسيرورة غير ميكانيكية. وبما أن قوانين الميكانيكا كانت تشرح الحركات في الفضاء كنتائج لحركات أخرى في الفضاء، فمن الضروري إيجاد قوانين أخرى لشرح بعض الإشتغالات غير المكانية/فضائية للعقل كنتائج لاشتغالات غير مكانية له. ولا بد أن يكون الفرق بين السلوكات البشرية التي توصف كعاقلة وتلك التي تُعتبر غير عاقلة من منظار سببي. وبهذا، ففي الوقت الذي تكون فيه بعض حركات اللسان والأعضاء نتيجة أسباب ميكانيكية، فإنه من الضروري أن تنبع الأخرى من أسباب غير ميكانيكية. بكلمات أخرى، يكون مصدر بعض هذه الحركات في حركات جُسَيِّمَات مادية، ويكون مصدر أخرى في اشتغال العقل.
أوُدِعت الإختلافات بين الفيزيقي والعقلي داخل المخطط المشترك لفئات „الشيء“ و“الجوهر“ و“الصفة“ و“الحالة“ و“العملية“ و“التغير“ و“السبب“ والتأثير“.
كان العقل يُعتبر كـ „شيء“ مختلف عن الجسم وكانت العمليات العقلية أسباب ومسببات، على الرغم من أنها كانت من نوع مغاير للحركات الجسدية إلى غير ذلك. وكالغريب الذي كان ينتظر أن تكون الجامعة بناية إضافية، مشابهة للكليات ومغايرة لها في نفس الوقت، فإن أصحاب المذهب الموروث كانوا يُقدمون العقل كمركز إضافي للعملية السببية/ مشابهة للآلات، على الرغم من أنها تختلف عنها. كانت هذه الفرضية إذن فرضية شبه ميكانيكية.
اتضح بأن هذه الفرضية توجد في قلب النظرية، لأن معتنقيها انتبهوا إلى صعوبة نظرية كبيرة: كيف يمكن للعقل أن يؤثر في الجسد ويكون بدوره متأثرا بهذا الأخير؟ كيف لعملية عقلية كالإرادة مثلا أن تكون سبب الحركات الفضائية كحركات اللسان؟ كيف لتغير فيزيقي في عصب النظر أن يكون له، من بين تأثيراته، إدراك العقل لخط من الضوء؟ ويكفي هذا الخطأ المشهور لإبراز القالب المنطقي الذي شكل به ديكارت نظرية العقل. يتعلق الأمر في الحقيقة بنفس القالب الذي طور فيه هو نفسه وغاليلي مِيكَانِيكيتَهُمَا. كان عضوا، دون أن يعرف ذلك، في قواعد الميكانيكا؛ حاول تجنب الكارثة واصفا العقل بمفردات لم تكن إلا عكس مفردات الميكانيكا. وجد نفسه مُضطرا لوصف اشتغال العقل كنفي بسيط للوصف الخاص بالجسد، فالعقل ليس في الفضاء، لا يتحرك، ليس تغييرا للمادة وغير قابل للملاحظة العمومية. إن العقل ليس مجموع دواليب ساعة حائطية، لكنه مجموع دواليب شيئ آخر من غير الساعة الحائطية.
إن اعتبار العقل هكذا لا يعني فقط بأنه شبح مُعلق على آلة ما، بل إنه هو نفسه ألة شبحية. وحتى وإن كان الجسم الإنساني آلة، فإنه ليس آلة عادية، فبعض عملياته مُتحكم فيها من طرف آلة داخلية أخرى له، وتعتبر هذه الآلة-الربّان من نوع خاص. غير مرئية، غير مسموعة، ليس لها لا قامة ولا وزن. لا يمكن البرهنة عليها، والقوانين التي تتحكم فيها غير معروفة من طرف المهندس العادي. إضافة إلى هذا، فلا نعرف الطريقة التي تتحكم بها في الجسد.
يقود خطأ ثان كبير إلى نفس الإستنتاج. بما أن العقل، حسب هذا المذهب، ينتمي لنفس الفئة كالجسم، وبما أن هذا الأخير محكوم بطريقة صلبة من طرف القوانين الميكانيكية، فإن الكثير من المنظرين استنتجوا بأنه يجب أن يكون العقل أيضا محكوما بقوانين صلبة، لكن ليست ميكانيكية.
إن العالم الفيزيقي هو نسق حتمي وعلى العالم العقلي أن يكون أيضا كذلك. ولا يمكن للأجسام ألا تتأثر بالتغييرات التي تتعرض لها، كذلك الشأن أيضا بالنسبة للعقول، التي لا يمكن ألا تتبع المشوار الذي رسمته هي نفسها. إن المسؤولية والإختيار والجدارة هي مفاهيم لا يمكن أن تطبق إلا إذا تبنى المرء حلا توافقيا بالقول بأن القوانين المتحكمة في العمليات العقلية تتمتع بالخاصية الجميلة الكامنة في كونها صلبة نسبيا فقط. ويصبح مشكل الإرادة الحرة هو الصلح بين فرضية (ضرورة استعمال مصطلحات الأصناف الميكانيكية لوصف العقل) مع يقين (يختلف السلوك الإنساني الأعلى بشكل أساسي عن اشتغال آلة ما).
من الغريب تاريخيا أن المرء لم ينتبه لتصدع برهان المذهب الموروث هذا. يفترض المنظرون بطريقة صحيحة بأن كل إنسان صحيح عقليا باستطاعته التمييز دائما، مثلا، بين خطابات عقلية وخطابات غير عقلية أو بين سلوكات إرادية وسلوكات أوتوماتيكية. وكان الشرح الذي قدمه المرء يفترض مبدئيا بأن الشخص لا يستطيع التمييز بين خطابات عقلية وخطابات غير عقلية نابعة من أجساد بشرية أخرى من غير الجسد الشخصي، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال حيازة منفذ للوصول إلى الأسباب غير المادية لبعض خطاباتهم. وباستثناء أنفسنا، وهذا قابل للنقاش أيضا، فلا يمكننا أبدا أن نميز بين كائن بشري وإنسان آلي/الروبو. علينا، مثلا، الإعتراف، إذا كان بإمكاننا أن نحكم، بأن الحياة الداخلية للأشخاص الذين يُعتبرون بلداء أو ذُهانيين تكون عقلانية أيضا بالمقارنة مع أي شيء آخر. والسلوك الخارجي لهذه الفئة من الناس هي التي قد تكون خدَّاعة، لربما لم يكن „البلداء“، بلداء حقيقة، و“الذهانيون“ مرضى بالفعل. ولربما هناك أيضا الكثير من االذهانيين بين الذين يعتبرهم المرء أصحاء عقليا. سيكون من الصعب ولربما من المستحيل لشخص ما الزعم بأنه مُعافى ذهنيا أو أنه متماسك منطقيا مع نفسه، لأنه محروم من إمكانية مقارنة مجهوداته الشخصية بمجهودات الآخرين. باختصار فإن هذه النظرية تُقصي كل إمكانية للحكم على سلوك وأنشطة شخص ما كأنشطة ذكية، حذرة، فاضلة، بليدة، مُنافقة أو جبانة. وإذا كان الأمر على هذا الحال بالفعل، فإن مشكل تطوير فرضية سببية خاصة لخدمة أساس هذا النوع من الأحكام لن يطرح أبدا. لم يُطرح سؤال: „في ماذا يختلف الأشخاص عن الآلات؟“ إلا لأن الكل، وقبل إدخال هذا الإفتراض السببي الجديد، كانوا يعرفون تطبيق مفاهيم السلوك العقلي. لم يكن من الممكن أن تكون هذه الفرضية السببية مصدر المعايير المستعملة في التطبيقات المُشار إليها أعلاه، ولم تطور في الواقع استعمالها. مازال المرء يميز بين علم الحساب الجيد وغير الجيد والسلوك السياسي الجيد ونقيضه غير الجيد وبين التخيلات الفقيرة والتخيلات الغنية، بين الطريقة التي كان ديكارت يميز بها بين هذه الأشياء قبل وبعدما نظَّر للطريقة التي يكون فيها استعمال هذه المعايير تتوافق مع مبدأ السببية الميكانيكي.
فهم ديكارت بطريقة سيئة منطق إشكاليته. فعوض أن يتساءل ما هي المعايير التي نميز بها بالفعل بين السلوك الذكي والسلوكغير الذكي، فإنه تساءل: „بما أن مبدأ السببية الميكانيكية لا يُظهر لنا الفرق، فأي مبدأ سببي آخر سيُظهره لنا؟“. فهم بأن مشكله ليس مشكل الميكانيكا، ومن تم افترض بأنه من الضروري أن يأتي من نظيره في الميكانيكا. ومن الطبيعي أن لا أحد أناط لعب هذا الدور للسيكولوجيا.
عندما تنتمي كلمتان لنفس الصنف، فإنه من العادي بناء قضيتين متناسقتين تُدمجهما. وبهذا يُمكن لشخص ما أن يقول بأنه اشترى قفازا لليد اليمنى وقفازا لليد اليسرى، وليس كونه اشترى قفازا لليد اليسرى وقفازا لليد اليمنى وزوج من القفازات. «وصل إلى المنزل باكيا وفي كرسي متحرك». ها هنا إذن دعابة معروفة جيدا، مؤسسة على سخافة التنسيق بين كلمتين تنتميان لفئتين مُختلفتين. كان أيضا من السخافة بناء الإنفصال: «وصل إلى المنزل إما باكيا أو في كرسي متحرك». وهذا بالضبط ما تقوم به عقيدة الشبح في الآلة، بدفاعها عن وجود الأجسام والعقول في آن واحد، عمليات فيزيقية وعمليات عقلية وبأن هناك أسبابا ميكانيكية وأخرى عقلية للحركات الجسدية. سأحاول البرهنة بأن هذه الإرتباطات، وأخرى من نفس النوع، سخيفة. لكن -ولنسجل هذا- سوف لن تُشير برهنتي بأن كل القضايا المرتبطة بهذا الشكل تكون سخيفة في حد ذاتها. مثلا، لا أنفي بأنه قد توجد عمليات عقلية تتمثل، مثلا، القيام بعملية قسمة طويلة أو القيام بسخرية ما. ما أدعيه هو أنه ليس لجملة: «تمَّت عمليات عقلية» نفس المعنى كَجُمْلَةِ: «تمَّت عمليات فيزيقية». ليس لتنسيقها أو القيام بعملية فصلها أي معنى إذن.
إذا نجحت برهنتي، فستنتج عنها بعض النتائج المهمة. أولا سيختفي التناقض التقليدي بين العقل والمادة، ليس بالإمتصاص التقليدي كذلك للعقل من طرف المادة أو العكس، لكن بطريقة مغايرة. سَأُبَيِّن بأن التباين الظاهر بين الإثنين خال من أي أساس مثله مثل التناقض بين: «رجعت باكية إلى المنزل» و»وصلت إلى المنزل بكرسي متحرك». إن الإعتقاد بأن هناك تناقضا بين العقل والمادة هو الإعتقاد بأن لنا هنا كلمتان تنتميان إلى نفس النوع المنطقي.
سينتج عن برهنتي أيضا، كون المثالية والمادية هما جوابان عن أسئلة طُرحت بشكل سيئ. يفترض «اختزال» العالم المادي إلى حالات وعمليات عقلية و»اختزال» الحالات والعمليات العقلية إلى حالات وعمليات فيزيقية مشروعة الانفصال: «فإما أن توجد العقول وإما توجد الأجسام (لكن ليس الإثنين»). وهو ما يُعادل القول: «فإما أنها اشترت قفازا لليد اليمنى وقفازا لليد اليسرى أو أنها اشترت زوجا من القفازات (لكن ليس الإثنين)».
يمكن القول تماما ومنطقيا بوجود أجسام، والقول منطقيا أيضا بوجود عقول. ولا يشير التعبير بأن هناك نوعين مُختلفين للوجود، لأن «الوجود» ليس مصطلحا عاما كـ «لون» أو «مُجَنَّس» (من الجنس، إ. م).
يُبرز التعبير فقط بأن لفعل «وُجِدَ» معنيين مختلفين، نفس الشيء بالنسبة لـ «أظهر» الذي له معان كثيرة في «المد يرتفع»، «الأمل يرتفع» أو «أسعار البورصة ترتفع». لا نتصور بأن شخصا يقول مزاحا: «هناك حاليا ثلاثة أشياء ترتفع، المدّ والأمل وأسعار البورصة». ويُعادل هذا القول بوجود أعداد أولية والأربعاءات (من الأربعاء إ. م.) ورأي عام والبحريات أو وجود الأجسام والعقول في نفس الوقت. سأحاول في الأجزاء اللاحقة أن أبين بأن المذهب الأصلي يتأسس على سلسلة من أخطاء الأصناف، مستنكرين العبثية المنطقية للدلالات اللغوية التي تنتج عنها. وتكون نتيجة عرض هذه العبثية بناءة في توضيح جزء من منطق مفاهيم السلوك العقلي.

ملاحظة تاريخية

سيكون من الخطأ القول بأن المذهب الموروث مُشتق من نظريات ديكارت وحده أو من قلق واسع كان منتشرا في القرن السابع عشر في ما يخص نتائج ميكانيكا ذلك الوقت. فقد أثر العصر الوسيط ولاهوت الإصلاح على تفكير رجال العلم والجمهور العريض، الفلاسفة ورجال الدين. أدمجت النظريات الرواقية الأغسطينية للإرادة مع عقائد الكلفانية للخطيئة والخلاص، ومنحت نظريات العقل لأفلاطون وأرسطو الشكل للنظريات الأرثودوكسية حول خلود الروح. أعاد ديكارت صياغة المذاهب الثيولوجية للروح التي كانت قائمة، في اللغة الجديدة لجاليلي. أصبحت حميمية الضمير الأخلاقي لرجل الدين هي حميمية ضمير الفيلسوف، وما كان يُعتبر فَزَاعَة القدر أصبح فزاعة الحتمية.
سيكون أيضا من الخطأ الزعم بأن أسطورة العالمين لم يكن لها أي تأثير مفيد على المستوى النظري. فعندما تكون الأساطير جديدة، تكون لها تأثيرات نظرية جميلة. ومن مزايا الأسطورة شبه الميكانيكية هي كونها أزاحت جزئيا الأسطورة شبه السياسية التي كانت سائدة أنذاك. كان العقل يوصف في السابق بالمُمَاثلة مع الرؤساء والمرؤوسين السياسيين، وكانت اللغة المستعملة هي لغة القيادة والخضوع، التعاون والإنتفاضة. وما تزال هذه المفردات حية في الكثير من النقاشات الأخلاقية والكثير من النقاشات الأبستمولوجية. وبنفس الطريقة التي مَثَّلَت فيها الأسطورة الجديدة في الفيزياء، المتعلقة بالقوى السحرية، تطورا علميا بالمقارنة مع الأسطورة القديمة للأسباب الأخيرة؛ فإن الأسطورة الجديدة للعمليات والدوافع والفاعلين الخفيين مَثّلَت تقدما في النظريات الأنثروبلوجية والسيكولوجية».

انتهى


الكاتب : ترجمة وتقديم: د. حميد لشهب

  

بتاريخ : 26/08/2019