مبدعون في حضرة آبائهم 46 : رجل مختلف حتى في قبره

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

إصرارا على سحر الغموض ومتعة الغامق ولغز العميق، رفض روائي معروف أن تتحوّل روايته الى شريط سنيمائي لان في رمادية روايته، على حدّ تعبيره، سرّ كينونتها ، وسحر ديمومتها ، فالعلاقة بين الرواية والسنيما هي نفسها العلاقة بين الاخفاء والتصريح ، بين الكتمان والاعتراف ، بين الوالد وما ولد … وما بينهما من التجاذب والتنافر ، كأية علاقة إنسانية حتى وإن كانت العلاقة بين الوالد وما ولد هي العلاقة الاستثنائية الوحيدة المحمّلة بآلاف الوشائج الغامضة ، الغامقة، والعميقة ، تلك التي تعجز اللغة عن الكشف عن مكنونها.لذا كلما فكرنا في هذا الكشف طرحنا بحيرة سؤال البداية والنهاية فتتزاحم الوقائع، راغبة في الخروج دفعة واحدة، غير أن أبقاها أصلحها، ومهما حاول الشريط/الابن ستظل الرواية /الاب مستعصية على الفهم حاملة أسرارها الى يوم يبعثون .

وكان بعضا مما حكاه لي:
… حمل حقيبته ذات صيف قائظ من مدينة التراب الى ثانوية مولاي يوسف بالرباط ليدشن وحيدا أعزل، بعد يتم طفولي وشظف عيش وبؤس قدر، اختط معزولا بحدس العارف بهداية من الله، طريق متابعة الدروس بين أقران ميسورين يقاسمونه الدفتر والرغيف بشفقة الأعراف القديمة،يحمل حقيبته بينهم بجلبابه الصوفي ، وبالرجل الذي يريد أن يكونه ، ولما لم يستسغ ان يظل عالة على الآخرين بأنفة البدوي الذي كانه، وباسم القيم التي تلقاها بقناعة مفرطة بين مدارج التعلّم، اكتفى،وهو النبيه الرزين طبعا وتطبعا ، بشهادة في منتصف الطريق تخوّل له الاشتغال بمجال التدريس.مع انه في قرارة نفسه كان يحلم بشهادة علمية عليا، ويرى في نفسه الرغبة الجامحة لبلوغها ، غير أن العين بصيرة واليد قصيرة . قضى عطله الصيفية مشتغلا كمياوم خلوق منضبط في محطّة للحافلات تارة، وفي معمل للصوف تارة ، وفي أشغال يدوية بسيطة تارة أخرى ،حتى يوفر نزرا قليلا من المال يسعفه لدخول مدرسي جديد. قنوع حد البساطة الراضية بما قسّمه الله مع حبّ يتاخم الجنون للكتب وما توفّر له مما سطّره الحكماء من السلف، لايمتلك غيرها مما يمكن ان يلتفت اليه الا أما مغلوبا على أمرها تدعو له ، وتخفي عن غيره بعضا من قروش تمدّه بها خفية لتدسها في جيبه،وهويعلم انه ابنها البكرالذي تعوّل عليه، وأنى له ان يكفي نفسه فبالأحرى ان يعدها بالمجهول الذي هو نفسه لا يعلمه…عسر الوقت ومتانة العلاقة مع الأم جعلاه البسيط القانع ، وبين طاولات القسم والسبورة ارتأى أن يظل كومة قيّم تنافح عما هو إنساني في الانسان دون حسب ولا نسب … ثم حطّ الرحال بقرية من قرى زمور المنسية مشرفا على مدرسة ابتدائية، وهناك بدأ حياته العملية، وهناك بدا له الفرق شاسعا بين الحلم والواقع، واقع أشد بؤسا وحلما أكثر شساعة غير انه ظل متشبثا بالحلم وما يستدعيه من تضحيات الحالم . جعل همّه الأكبر أن يتعلّم أبناء الشعب، ربما ليحقق الآخرون مالم يدركه هو.مواظباعلى حملة يقوم بها بمفرده لحث الآباء على إرسال أبنائهم للمدرسة. كم مرّة كرهه الأهالي لدخوله في شنئان مستمر مع أبآء يصرّون على منع ابنائهم من متابعة الدراسة بحجة أنهم في أمس الحاجة الى يد عاملة في مآرب الحقل وملحقاته، ،ومع ذلك أصرّ على تعلّم الأبناء وتوفير لوازم الدرس أحيانا كثيرة من جيبه. ثم انتقل مدرّسا مع قلّة من مغاربة وسط طاقم تعليمي فرنسي ، عاشر الأجانب ، وتطبّع ببعض من طباعهم ، فتأتى له الجمع بين القيم الدينية العليا والاستقامة في العمل وحبّ الواجب . لم يطمع في منصب إداري ، ولم تغره السلطة المتوهمة ، آثر أن يظل بين تلاميذه ناصحا باستمرار على متابعة المشوار، لا فرق فيهم بين الميسور والمعسور، كذلك كان دأبه بين أربعة أبناء كان فيهم حظ الأنثى متساو تماما بحظ الذكر .
وكان بعضا مما عشته :
زاوج تعلّما وتعليما بين اللغتين العربية والفرنسية حتى أن جريدة “الرأي ” الصادرة بالفرنسية لم تكن تفارق إبطه. بخطّ جميل من محبرة قديمة بألوان وريشة تفنن في حرقها كي تستجيب للمبتغى،كان يخطّ جذاذات الدرس الذي أحبه حدّ التعبّد. بنفس الخطّ الجميل خطّ بعضا من حكم وأقوال، وعلّقها بجانب مكتبه المتواضع كي ترافقه أو تنذره إن راوده النسيان البشري، متفانيا في العمل، أنيقا بوزرة بيضاء كان مع قلّة من المغاربة المعدودين على رؤوس الأصابع بين المدرسين الأجانب قبل مغربة الأطر. لم يقدّم طيلة سنوات تدريسية شهادة طبية واحدة ، كم مرة كان يحمل محفظته محموما ويتوجّه الى الإعدادية ، وحين نتوسّل اليه ان يرتاح قليلا، وهو الذي درّس أبناء البلدة جيلا بعد جيل دون تشكّ ولا تبرّم كان يردّ : ” لولا أبناء الفقراء لضاع العلم ” ، ويحمل محفظته ويسير توا الى ساحة الدرس ، مثالي حدّ الضجر . مسالم حدّ التجاوز عن أخطاء الآخرين بتسامح مفرط، كم مرّة ردّد:” أتيت الدنيا كي أصحح القاعدة النحوية “، وتلك كانت بعضا من أوجه السجال بيننا، اذ جرت العادة ان يكون الآباء أكثر واقعية من الأبناء، فما باله مختلف عنهم. بذا كان عاقل العائلة ومعلّمها، وبذا أحببناه قبل أن يحبّه تلاميذه وزملاؤه فيما بعد والذين كانوا تلاميذه فيما قبل، وبذا كان الأستاذ والزميل. كم أفرحه كثيرا حفل تكريمه، وشهادة تلاميذه، وكانت هداياهم ، على بساطتها ، أثمن ما يحتفظ به ويصونه .
محافظ في انفتاحه ، ومنفتح في محافظته، مواظب على صلاته دون أن يدعو أحدا لها الا ما كان من من إشارات مغلّفة بابتسامة عابرة حتى يترك للآخرين حقهم في الاختيار … حتى إذا سألته يوما بأي الكتب تنصحني قال: كل الكتب دون استثناء، وبعدها لك آن تختار “، وتلك كان عادته في القول الدال ، الملمّح دون تصريح جارح . فعشت بعده على التلميح، وعلى انه لا فرق بين الكتب كما بين الناس.
أصرّ أن يزور، وهو في خريف العمر، إبنه خارج الوطن … وهناك أسلم الروح لباريها، وعاد في صندوق خشبي ليدفن في قبر مختلف عن قبور الآخرين .
رحمك الله والدي ف ” رسالتي إليك يا أبي حزينةٌ في البدء و الختامْ فإن أهاجت شوقك القديم للكلامْ فهبْ لي لقاء في المنامْ” .


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 27/08/2019