مبدعون في حضرة آبائهم 48 : حسن إغلان : أبي..يأتيني صوتك أخضر في الخريف 2/1

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

عادة ما يتحدث الكاتب عن أمه، ذلك أن هذه الأخيرة تشكل لا وعي الكتابة عنده، أو هي بالأحرى مجاله اللغوي الأول حيث تسكن الخرافة والحكاية، إنها الحضن الذي نرتمي فيه لإعلان كل ما نسكت عنه بينما الأب يظل سلطة في الأرشيف، وعلامة فارقة في اللغة والكتابة، ما الذي يجعل صديقنا الصحفي مصطفى الإدريسي يقلب هذه المعادلة؟ معادلة بصيغة الانتقال من لغة الأم إلى لغة الأب، هل المسألة تعود إلى أن المرحلة تقتضي ذلك، تقتضي قبر لغة الأم وإعلاء من الأب برمزيته الذكورية والسلطوية. قد نحيل هنا على أسطورة إسماعيل في علاقته بالأب المقدس إبراهيم، وبقليل من المكر نعطي للأضحية ­ الضحية ­ الكلام عن أب مطاع ونترك الأم باعتبارها رامزة لليل والنجوم والحكايا ونستبدلها بلغة المقدس والسلطة والكتابة. هاهنا يكون القلب بعلاقة ممكنة حين تغيير فضاء الرؤية من الأم إلى الأب، في مثال مغربي دال يقول ما معناه إذا مات الأب فاستند إلى الركبة (الأم)، أما إذا ماتت الأم فتوقف عند العتبة، بهذا المعنى يكون الأب شرطي مرور، يرغب النظامَ، ويخضع للقانون والعرف والمقدس، لكن ماذا يعني قلب هذه العلاقة من طرف الكاتب المغربي؟ صحيح أن كُتاب العالم دأبوا الحديث عن أمهاتهم، وتركوا الصراع الميثولوجي مع الأب في بلازما الذاكرة.
علي الآن لملمة ذاكرة كي أوقظ الأب من أرشيفه الخاص بشوق كبير، وكأن اشتياقه هو ارتداء لباسه بلغة التحليل النفسي، لا أريد الدخول في هذا النوع من التطابق الملغوم، ولكن البحث عن سيرة أبي باعتبارها دالة على الضمير الجماعي فئويا وطبقيا، فأبي كما يحكي أرشيفه الخاص هرب من أحد الجبال بنواحي تارودانت خوفا من اختطافه وقتله، كان ذلك في زمن السيبة، وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، أرسله أبوه بطريقة ملتوية إلى إحدى الزوايا الدينية بمراكش، ثم في ما بعد إلى القرويين بفاس. هكذا كان تخطيط جدي إلا أن هذا المبتغى لم يسر في ما هو مرغوب فيه، في الزاوية مع الطلبة، والتقشف في كل شيء كان مبررا لموافقة أبي للتطوع من أجل تعليم الإسلام بمنطقة زمور الشلح. تلك هي البداية، بداية المغامرة الوجودية الصعبة، والمفتوحة على كل الآفاق الممكنة منها والمستحيلة، في الأول كان فقيها ومساعدا للوطنيين في نقل السلاح وما إلى ذلك، ثم في ما بعد امتهن التجارة وتزوج وكنا بالصدفة نحمل اسمه، مثلما نحمل بعض الخصائص الوراثية من شخصيته، استقر في مدينة الخميسات، لم يكن يرغب المكوث فيها إلا أن رغبة الأم في تعليمنا أبعدته عن تفعيل رغبته، أمي هي الأخرى من نفس الدائرة الترابية من سلالة أبي، ثمة لغة مشتركة تضيء الطريق وتقوم بتصوير الأسر التي تنتمي لنفس اللغة، وهذا أمر نجده في جميع المدن المغربية إلى حد أن الحارات تسمى بأصل ساكنيها من قبيل حارة سواسا، دكالة، غرباوة، جبالة، النصارى، في هذه الدائرة المغلقة نخضع لتربية الخوف من الآخر كيفما كان هذا الآخر.
أعود مرة أخرى إلى أبي الذي حملني بين يديه، وأنا لم أتجاوز الشهر الخامس من ولادتي إلى المقبرة، كنت ميتا حسب ما حكته أمي إلا أنني سعلت بالقرب من باب المقبرة، أعادوني إلى البيت، ومن تلك اللحظة أكون أنا السبب في تحرير أمي من الحجاب المكرس عليها، تحرير يفيد البحث عن مزارات، أو أولياء الله الصالحين في كل مكان، نقط ضعف الوالد هي أبناؤه، وهذا هو عمق هشاشته بينما الأم كانت صلبة رغم رقتها وهشاشتها الباطنيتين، بين هذا وذاك انتقلت السيرة الأبوية من طريقها الممتد إلى طرق متعددة تلتقي في آخر المقام داخل جوهر أكون فيه أنا أو أحد من إخواني، وكأن كل واحد من أبنائه خط لنفسه طريقه الخاص بعيدا عن التطابق، سي علي والمحاكاة، في بعض الأحيان أجدني متخلفا عن أبي، أو بعبارة أخرى، يكون الأب أكثر تقدمية مني رغم قدامته ومحافظته، أتذكر الآن أصلين، وهذا ما وقع لي حين كنت تلميذا بسلك الإعدادي، تخاصمت مع أختي التي تكبرني بقليل، وسبب الخصام هو أني منعتها من الذهاب إلى الإعدادية الجديدة بالمدينة لكونها ترتدي تنورة حد الركبتين، أمرتها أن تغيرها بالسروال، كانت عنيدة كما جبل”إغالَّن” في البلد، بينما أنا تلبست دور رجل البيت، تغيبنا معا، وحين قدم أبي من عمله التجاري أخبرته الأم بما جرى. دعاني، جلست بالقرب منه، وسألني، هل التلميذات اللواتي يدرسن معي يرتدين الجلباب واللثام؟ أجبته بالنفي. أضاف، هل لاحظت على سلوك أختك شيئا ما؟ أجبته بالنفي، استخلص بمنطقه قائلا: “ليس لك لا حق الكلام أوضرب أختك ما دمت على قيد الحياة، وحتى إن لاحظت شيئا فما عليك إلا قوله لي”. أحسست ساعتها بانكسار وامتعاض، ولم أستوعب هذا الكلام إلا في ما بعد. كان أكثر حنوا وعطفا على البنات، وهو ما يستند عليه دينيا وماهو محفوظ في الأحاديث النبوية من أخلاق رفيعة مع القوارير.
أما المسألة الثانية التي أتذكرها الآن هي إضرابات التلاميذ في نهاية السبعينيات من القرن الماضي والاعتقالات التي كانت بالجملة، حين خرج أبي إلى عمله في الصباح الباكر، لاحظ سيارات البوليس في كل مكان خفية أو ظاهرة، لم يكمل طريقه إلى عمله، رجع إلى البيت، وجدني على بابه أتهيأ للخروج، أخبرني بما لاحظ، أخفاني داخل بُرنسه، امتطينا عربة مجرورة بدابة إلى خارج المدينة باتجاه المعازيز(قرية صغيرة)، في هذه الحقبة كان ينهرني بسبب الذهاب إلى دار الشباب، وفي نفس الوقت كان فخورا بي، تصوروا معي تلك الحقبة المليئة بالخوف والترهيب والرعب، والحكاية المتناسلة حول هؤلاء الذين تم اعتقالهم باعتبارهم “مساخيط الملك”، وأن مصيرهم غير معروف بالمرة، حتى البحث عنهم يعتبر جريمة، التراث هو تأزيم الطرف الآخر الذي يعتبر نفسه المحافظ والحارس له، هو الخوف إذن، وقد كبر إلى حد كبير وازداد اتساعه في الفضاءات العامة الأخرى بعد أحداث 1984، ساعتها كنت أدرس بالجامعة، وبالضبط في السنة الأخيرة منها، اعتقالات بالجملة، الدراسة متوقفة، وأنا بالمدينة بحثت عن بعض الكتب في مكتبتي الصغيرة، لم أجد نصفها ، استفسرت الأمر قيل لي إن أبي أخفاها خوفا من أي احتمال طارئ، أيقظني في الصباح الباكر، مد لي مصروفي، وسافرت إلى الرباط…


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 29/08/2019