مبدعون في حضرة آبائهم: حسن إغلان أبي..يأتيني صوتك أخضر في الخريف 2/2

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

ما الذي جعل الأب يخاف علي بهذا الشكل، هل ما خبره عن صديقه المناضل محمد بن الحاج الذي تم اعتقاله أكثر من مرة في الستينيات والسبعينيات؟ وهل هو ناتج عما سمعه من التخويف والترهيب الذي يمارسه البوليس السري بأهل المعتقل في آخر الليل، كل هذا ممكن، ولكنه في نفس اللحظة يفتخر بي كمناضل يرغب التغيير والعدالة، هكذا تتأرجح لغة الأب، وهو تأرجح غابر في التاريخ الديني بين الوعد والوعيد، مثلما أذكر حين تزوجت كنت في البيت رفقة زوجتي، وهي المرة الأولى التي ترى فيها بيتنا، في طريقي إلى البوابة أوقفني بإشارة من يديه، أجلسني بالقرب منه وهو يدور على سبحته بدون كلام، وهي طريقة تيجانية للأدعية وإكمال الصلاة، وحين أوقف سبحته حدثني عن الزواج ومشاكله، وعن المرأة وفتنتها، وعن الصبر، وما إلى ذلك، وجدت في كلامه حكما مدفونة في الملاحم والأساطير، من قبيل أن الرجل هو المسؤول الأول والأخير عن أسرته، أي لا يحق لك الاستيلاء على مال زوجتك… إلخ.
في زحام الذكريات وانفجار الصور تبدو تقدمية أبي في علاقته ببناته وزوجتي، فرغم أنه فقير ومحافظ لم يطلب لحظة واحدة منهن ارتداء الحجاب، مثلما لم يطلب من الذكور أداء الصلاة، وهو أمر يضيف للحيته البيضاء بهاء صوفيا خالصا، ويظهر هذا بجلاء حين كانت زوجتي تهيء لمناظرة سياسية وحقوقية مع الأستاذة خديجة مفيد (إطار في حزب العدالة والتنمية)، في أواخر القرن الماضي بسطات، ومرد هذه المناظرة هو النقاش العمومي حول مدونة الأسرة الجديدة، كان على زوجتي البحث في الأصول الدينية على ما يثبت مشروعية مطالب النساء المغربيات، ساعتها كان أبي يقضي معنا شهر رمضان، قدم لها مجموعة من الآيات والأحاديث وأحاديث بعض الفقهاء حول تعدد الزوجات والإراثة والحجاب، وما إلى ذلك، وما تحصلت عليه زوجتي من هذا النقاش كان رافعة مهمة في التناظر مع مرجعية مخالفة، فأهمية الرجوع إلى التراث هو تأزيم الطرف الآخر الذي يعتبر نفسه المحافظ والحارس الأمين له.
قلت في البدء من الصعب الحديث عن الأب، هو الآن في الجهة الأخرى من العالم، نستحضره في الذكريات، نتقرب منه أحيانا، ولا أزوره في المقبرة بالرباط، ولكني أراه في مرات عديدة ببيتي، مرة أجده منزويا، جالسا على الأريكة بلباسه الأبيض وعمامته البيضاء، وسبحته في يده اليمنى يدور عليها كما لو كان يدور على الكعبة، وفي بعض الأحيان يدخل علي في غرفة النوم، أسمع رضاه، وفي أحيان أخرى ينبهني لشيء ما.
مع ذلك حين أتذكره تجتمع الدموع في عيني ولا تخرج، وكأنها تتسع في الحلم أو أنها تغسل الأوساخ العالقة فينا وفي زمننا، لا أريد قلب المواجع، ولكن الشيء الوحيد الذي أعزه في أبي الحاج سي علي، كما يسميه الأحبة والأصدقاء، هو كبرياؤه ومسؤوليته ورجولته وتسامحه وتقدميته ووطنيته، كل هذه الخصال تضعه في مصاف المناضلين الاتحاديين الذين لا يعلنون انتماءهم إلا حين ينتخبون، ولا يرغبون في قضاء مصالحهم من الريع الذي وزع بعد الاستقلال، ولا حتى قبله، فحكمة الابتعاد عن دائرة المخزن راحة وارتياح، أما الدخول إليها فهي إيقاظ النار التي ستلتهمه لا محالة أو ستأكل أبناءه.
الحكمة واضحة والأب غائب، وإيقاع السمع والطاعة حاضر في ثقافتنا. متى سنتمرد على هذا الأب الذي يسكننا، ويسكن لا وعينا الجماعي، ألهذا نطوي الأب بين الصور والذكريات ونحتفي بالأم لكونها حاضنة لليل والرمز والنجوم، ثمة تواشج لغوي رائق في اللغة الأمازيغية بين الأم (يمِّ باللغة الأمازيغية) أي البـحر، هذا الأخير في شساعته وعمقه وصفائه وحركته، هو الذي يشد الكاتب ويضعه في عالمه التخييلي المتسع باتساع الأم، وهي المرأة العاكسة لصورتنا، هل قلت شيئا عن الأب؟ أم أنني احتجبت في الأرشيف، ولم أقل غير ما تبقى من قفشات تسكنني، كم تمنيت أن أضمك من جديد، وأدعوك لشرب القهوة معي في إحدى المقاهي بالرباط كما تعودت حين زيارتك، ربما سأشربها معك في ذاك المكان الموعود الذي يعيش في اللاوعي الجماعي، لن أقول لك إن مصطفى الإدريسي ورطني في الكتابة عنك، وأنا لم أكتب إلا ما بدا لي في فنجان قهوتي، وما تبقى سيأتي رواية.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 30/08/2019