مبدعون في حضرة آبائهم 52 : مراد القادري : جُرح الوالد

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

 

قلْتُ لعائشة عِندما ازْداد مَولُودُنا الجَدِيد، سنُسمِّيه «أديب». هذا الاسْمُ يَرُوقُ لي. ويجِدُ صدىً في مِزاجي. قلْتُ ذلك، وغادَرتُ المِصحَّة في اتّجاه مقْهى «المثلث الأحمر»، حيثُ التحقـتُ بزُمرةٍ من الأصدقاء الذين باركُوا لي مَجِيءَ وليّ العهد.
ماذا حصل؟ وكيف تحوّل اسمُ «أديب» إلى «سيدي أحمد». لا أعْـرف. غير أنّني أعـرفُ مَدى السّعادة التي غمَرت والدي، وهُو يرى اسمَه يَجِدُ امتدادًا له في المُستقبل. سعادةٌ لم يُظْهِرهَا لي، فقدِ اعتادَ هذا الرّجل ألاّ يُبديَ لنا شيئًا من أحَاسيسِه ومَشاعِـره.
في الزّمن المغربي الرّاهن، من الطّبيعي جدًّا أنْ يكونَ اسمُ الوالِد أحمد، فيما الابنُ يَحْمِلُ اسمَ «مراد»، ذلك أنّ آباءنا من لم يكنْ منهم مفتُونا باسمهان، تجِدُه مُعْجبًا بأم كلثوم أو ليلى مراد، كما هو حالُ والِدي الذي أطلق عليّ اسْم «مراد» من شِدّة إعْجابِه بالمطربة المِصرية المذكُورة.
إذا كان ذلك طبيعِيّا وعاديا، فلربّما يكونُ العكس غير ذلك، أيْ أنْ يحملَ ابني اسم «أحمد». لكنّ ذلك هو الذي حصل، لترتسِمَ علاماتُ الاسْتغْراب على وجُوهِ الأصْدقاء في مقهى «المثلث الأحمر» الذين كلّمتُهم البارحة عن موْلُودٍ جَديدٍ أسميْتُه «أديب»، فإذا هُو، في اليوم المُوالي، يحْملُ اسم جدّه أحمد.
اليوم، عندما أفكّرُ في علاقتي بوالدي، لا أجدُ بُدّا من اسْتِحضَار هذه الحكاية، التي تعْنِي رغْبتي الدّفينة في ألّا يغيبَ اسمُ الوالد عن عالمي، وأنْ يستمِرّ حضُورُه، بيننا، من خِلال اسْمِه.
لمْ يُسْعفِ الوقتُ كثيرا (أحمد الكبير) ليتوَاصلَ مع حَفيدِه (أحمد الصغير)، فقد تُوفِّيَ أشهُرًا معْـدُودة بعد مَجِيء حفِيده. كأنّه كان ينتظرُ مقْـدمَه ليُغادِر هذا العالم الذي قد لا يَحْتملُ وجُود «أحمديْن» داخل نفس المكان.
يبلغُ اليوم عُمر ابني أحمد عشرين سنة. أيْ أنّ عِقدين من الزّمن مَرّا على وفاة والدي «سيدي أحمد». هكذا كان الجميعُ ينادُونه، الرّجل البسيط الذي كان يُسيّرُ، بمزاجٍ خاصّ، مقهى صغيرة بوسط مدينة سلا. كان المقهى شبيهًا بنادٍ صغير، زُبناؤُه معْروفُون، حرفيّون وباعة وبعضُ الموظفين الصغار، الذين يأتُون، في أوقاتٍ معلُومة، لشُربِ الشّاي أو لعِب الكارطا وتحْسين المِزاج بتدخين السبسي، وكلّهم من بُسطاء مدينة سلا، الذين تظلّ آذانُهم مشْدودةً إلى قصائِد الملحون طالِعةً من جِهاز الرّاديو الذي كان سَميرَنا الوحيد في هذا المقهى، وذلك قبل أنْ يحلّ كأس العالم لسنة 1978 ويضطرّ الوالدُ إلى جلْب التلفاز في إشارةٍ إلى تحوُّلٍ دالٍّ و رمْزي.
شقَاوتي داخل البيت، وعدمُ قُـدرة الوالدة على ترويضِي، رمَى بي إلى مُعـسْكر الوالِد الصارم. وهُو مُعَسْكـرٌ تقـْتضي قوانينُه أن أغادِر البيت معه وألّا أعُود إلا في رُفقته.في ظلالِ هذه الرّفقة، تعرّفت على والدي أكثر من أيّ شخص آخر، فقد كُـنتُ مُلازما له في المقهى: مكان عمله اليومي، وذلك منذ الصباح الباكر إلى حلول الليل، باستثناء الساعات التي أذهب فيها إلى المدرسة.
في هذا المقهى، وليس في البيت، توطّدت علاقتي بهذا الرّجل الذي كنْت مُصاحِبا له. صحبةٌ لم تكن اختيارية، ولكنها اضطرارية، لا تريحُني البتة، غير أنها تُريحُ الجيران من شقاوتي. كنتُ أعِينُه، طيلة النهار، في عملِه. وفي آخر المساء، ألحظُ المَرارة التي كان يتجرّعُها من قلّة ذاتِ اليد وازدِياد حاجيات البيت. وكان ذلك يؤلِمُني كثيرا … على أنّ أهمّ ما اكتسبتُ من هذه العلاقة / السّجن الذي وجدتُ نفْسي داخلَه، هُو بناءُ عالمٍ خاصٍّ بي داخل هذا المقهى، وذلك بإحْداث ركْـنٍ قصِيٍّ ألوذُ إليه للقراءة والمُطالعة، كلما فرغتُ من مُساعدته وتلبيّة طلبات الزّبناء داخل المقهى أو خارجَها.
سيتيحُ لي كذلك، هذا الفضاء، بجِوار الوالد أنْ أخالِط، باكرًا، عالمَ الكبار الطافح بالأقوال المأثورة والأمثال الشّعبية التي كانوا يتراشقُون بها في مُعارضة، لبعضِهم البعض، يكثُر فيها اللّمز والغمز، وحيثُ الاستنجاد بقصائد الملحون ضرورة حتمية.
أفادتني صحبة الوالد، وأفادتني مقهاهُ الشعبية أكثر ممّا أفادتني المدرسة. فبِجواره تشرّبت الكلام الشّفوي المُعتق الذي سينفجِرُ لاحقا في قصائدَ مكتوبةٍ بلهجتنا العامية، التي ما كان لي أنْ أكتشف سِحرها و شِعريتَها لولا هذه الرّفقة، هو الذي رأيتُ، أوّل مرّة، دمعتَه تشرق في عينيه ، وهو يستمِع لقصيدة «التوسل» للشيخ سيدي قدور العلمي، خاصّة في هذا المقطع:

ما يْلي قُوة ولا يْلي جَهْدْ ولا حولْ *** ولا تدْبير فْالقضا وَلاَ حِيلَة
من أمرني بالصْبـــــرِ والتوكّــــلْ *** هو يَفْجي همُومْ ذاتِي لُوحيلَة
منّي أنا الدّعَا ومن عنْدك لقبـُـولْ *** والحَاجة ما تكُونْ فيهَا تعْطِيلة
واللـــه ما بْديــتْ هـاذْ التوسّــــلْ *** حتى تيقَّنْتْ من قُدْرتك الجْلِيلة

كان «سيدي أحمد» رجُلا مُسالِمًا، قليلَ الكلام، بل دائمَ الصمت، مُنكفِـئًا على نفْـسِه وعلى عالمِه الدّاخِلي الدّفين، وقدِ انْعكس ذلك حتّى على علاقته بنّا داخل البيت، لم يكنْ يُشاطِرُنا الكلام، ولم يكنْ بمقدُورنا أنْ نجْـلِس إليه في مُحادثةٍ حميميّة، كتلك التي أُجْريها اليوم مع حفيده أحمد الصغير. لذلك، فقد وقفت بيننا وبينه جبالٌ من الجليد. وحْدي وبفضل، وجُودي إلى جِواره في المقهى، أتيحَ لي أنْ أعْـرف ملامحَ من سيرة هذا الوالد، التي لمْ يتحْ لإخوتي معرفتها أو الاقترابَ منها. وتحت تأثير هذه العلاقة، ستعبُرُ بعضٌ من هذه الملامِح إلى قصيدتي الشعرية، سيعبُر جُرحُه الخاصّ الذي كان مُلازمًا له، ولم نستطعْ نحن أنْ نفكّ لُغزه:

وْيفرحْ، كانْ، بْ الجَرحْ
كِ يتْوضّا، يْصلّي الصُّبحْ
يْهـزّ كفُوفُو يعْقدْ رجَاهْ
وْ جَرحُو فْ ضلُـوعُـو
فْ قلبُـو خبّاهْ
جَـرحُو… عمّرنَا مَا شفناهْ.
مات الوالد…
مات سيدي أحمد القادري دُون أن نعْرف جُرحَه.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 03/09/2019