كتاب« الصحافة والتاريخ» للطيب بياض

الزمن المغربي الراهن بين الظرفي والبنيوي، بعيون الصحافي والمؤرخ

 

في موضوع الكتاب والكاتب أصدر حديثا المؤرخ المغربي الطيب بياض كتابا في طبعة أنيقة، يضم حوالي 175 صفحة من الحجم المتوسط، عن منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر في الرباط، بمساهمة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-عين الشق بالدار البيضاء. يحمل عنوان: «الصحافة والتاريخ. إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن»، من أجل المساهمة في نقد الصراع المصطنع بين التاريخ والصحافة من جهة، والوصل بينهما من جهة أخرى.
يشتغل الدكتور الطيب بياض أستاذا للتاريخ الاقتصادي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية-عين الشق. تتمحور اهتماماته حول حقول التاريخ الاقتصادي للمغرب المعاصر والراهن2، وعلاقة التاريخ بباقي الحقول المعرفية الأخرى، ثم الرحلات المغربية إلى أوروبا3، قبل أن يغوص مؤخرا في حقل الصحافة والتاريخ، في صورة ورش معرفي جديد بدأ شق مسالكه منذ سنوات، حيث درّس ولايزال إلى جانب التاريخ الاقتصادي، مواد «الصحافة والتواصل»، «الصحافة الثقافية»، «تاريخ الزمن الراهن»، بأسلاك مختلفة ومؤسسات متنوعة، بالمدرسة العليا للصحافة والتواصل في الدار البيضاء، وبسلكي الإجازة والماستر بكليتي الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق-الدار البيضاء والرباط، كما كان مستشارا علميا بهيئة مجلة زمان في نسختها العربية، وكاتبا لعمود رأيها الشهري، تحت عنوان: «للتاريخ إضاءة» بين سنتي 2013 و2016.

 
إن الكتاب الذي بين أيدينا، يرافع من أجل ثلاث قضايا، حسب الكاتب والصحافي إدريس كسيكس، الذي استهله بتقديم مركز. فالأولى تدافع عن مركزية الإنسان باعتباره هما مشتركا، ليس فقط بين المؤرخ والصحافي، بل بين مختلف قطاعات العلوم الإنسانية والدراسات الإعلامية. أما القضية الثانية، فتدافع عن المثقف كوسيط بين المعرفة وعموم القراء، يهتم براهنية التاريخ من خلال الربط بين زمني الحاضر والماضي، يقدم وصفات تاريخية عميقة لفهم ومداواة أعطاب المجتمع. بينما القضية الثالثة ترتبط بنمط الكتابة لكونها قالبا سرديا وحاملا للمعرفة الإنسانية، يقتضي تلقحيه بالنفس الأدبي، لأن الأسلوب الشيق حسب الأستاذ الطيب بياض، «لا ينقص من علمية المعرفة التاريخية، بل يضمن لها حفاوة الاستقبال والوقع الحسن في نفوس القراء»4. فالكتابة حلقة رئيسية في سيرورة توليد الأفكار والمعاني5، في زمن الإجماع الإبستمولوجي بدل زمن المدرسة الفكرية، الأمر الذي يستوجب ابتكار أنماط حديثة، تستحضر مناهج العلوم الإنسانية، وتبدع أفكارها في قوالب ونصوص أدبية تتسم بالروح العلمية والنفس الإبداعية، بالصرامة الأكاديمية والصياغة الأدبية السلسة6.
لقد تناول المؤلِّف قضايا هذا الكتاب من خلال قسمين، يتضمنان مواد متنوعة أكاديمية وصحافية، تتفاعل مع قضايا الزمن الراهن، وتسافر بالقارئ بين الزمن الراهن والتاريخ، بين صيغة الصحافي وكتابة المؤرخ، بين الظرفي والبنيوي. بتعبير أكثر وضوحا، تنطلق من حدث آني لإماطة اللثام عن جذور بعض الأحداث والبنيات الضاربة في عمق التاريخ. هذا إلى جانب مقدمة نقدية بمثابة قاعدة إشكالية، تسمح بمتابعة علاقة التاريخ بالصحافة. كما تدفع الصحافي والمؤرخ ليتحدثا عن مضمون ومنهجية الكتاب، إذ قدم له الصحافي إدريس كسيكس، وختمه المؤرخ محمد حبيدة بشكل يتماشى مع عنوان الكتاب.

خطابات الزمن الراهن

يقتحم متن هذا الإصدار بالتحليل والنقد، العلاقات الملتبسة بين الصحافة والتاريخ. بين الصحافي والمؤرخ، التي تظهر «محكومة في بعض الكتابات بالتمايزات والمفاضلة حينا، وبتنازع الاختصاصات وسؤال المشروعية والأحقية أحيانا أخرى»7، إنه صراع مصطنع بين المؤرخين والصحافيين، حسب الباحث الطيب بياض، يكشف عن جوانب من التدافع الخلاق بين قطاعات المعارف الإنسانية وأدوات فهمها والتعبير عنها.
ومن نافلة القول، أن الزمن الراهن يشهد إقبالا كبيرا من مختلف القراء، القارئ العادي والقارئ النبيه، المتخصص وغير المتخصص، إذ تنامى الشغف وتزايدت الرغبة في المجتمعات المعاصرة، على الزمن الفوري وعلى التاريخ الحاضر والماضي القريب. هو ما يعبر حسب المؤرخ الفرنسي، فرانسوا هارطوغ، عن «نشأة نظام جديد للتاريخية قوامه هيمنة الحاضر، على عكس النظام الذهني السابق، حيث كان الماضي يؤول على ضوء المستقبل»8. ولم تعد كذلك عملية الكتابة التاريخية تقتصر على قضايا الماضي، بل اقتحم بعض المؤرخين «الظواهر الراهنة بالإدبار التاريخي اللازم لضبطها»9.
إذا كان حقل التاريخ الراهن أو الحاضر، الذي انشغلت به الصحافة في الأصل10، يثير اهتمام العديد من المتتبعين والباحثين في السنوات الأخيرة، فقد حرض ذلك على خوض سجالات نظرية ومنهجية، تعيد التفكير في اهتمامات وأدوات وخطابات العلوم الإنسانية والدراسات الإعلامية. فبرزت على السطح، مثلا، أسئلة تداهم العلاقة المتوترة، الخفية والملتبسة، بين خطابات الصحافي والمؤرخ، بين الظرفي والبنيوي، بين المواد الصحافية والكتابة التاريخية، خاصة حين اقتحم المؤرخ وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، قصد «بسط سطوته ونشر معرفته وإعادة الاعتبار لصنعته»11.
يتابع القسم الأول، انطلاقا من ثلاث قضايا متداخلة ومتكاملة، من «تبادل خدمات» إلى «تقاطع غايات» ثم «اختلاف آليات»، علاقة التاريخ بالصحافة، على ضوء السؤال القديم-الجديد: «ما جدوى التاريخ؟»، الذي بلوره أكثر مارك بلوك مؤرخ التاريخ الاجتماعي المقارن، في مؤلفه «دفاعا عن التاريخ»12. إنه سؤال يضع مشروعية التاريخ أمام محك التفكير والنقد، في سياق المعارك الإبستمولوجية التي كانت قائمة على قدم وساق في منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين.
يتنصر مارك بلوك من أجل بناء صنعة المؤرخ، لمسألة علمية التاريخ التي يستمدها من مقارباته وتناهجه مع العلوم الإنسانية، واستحضاره للبعد الزمني، وليس من طبيعة موضوعه كما يذهب البعض. في هذا الإطار، توقف الطيب بياض عند عناصر مكثفة، تبدو أنها مكنت الباحثين من تحديث الإسطوغرافيا. فمن «موضوع التاريخ»، إلى «المؤرخ والوثيقة»، إلى «مركزية النقد التاريخ»، إلى «المؤرخ والقاضي»، ثم «المنزع الإشكالي للتاريخ»، استطاع المؤرخون إعادة الاعتبار لصنعتهم، وموقعتها بشكل رصين ضمن خريطة العلوم الإنسانية والاجتماعية، خاصة مع المشروع النقدي الذي دشنته الحوليات الفرنسية منذ سنة 1929، بفضل جهود ثنائي ستراسبورغ مارك بلوك ولوسيان فيفر.
يقدم مؤرخ التاريخ الاقتصادي الطيب بياض، مرحلتي الجيل الأول والثاني من الحوليات، كمعركة مفتوحة متعددة المواقع والوسائل، بعد ظهور علوم ومناهج فتية، تنافس التاريخ على الريادة وتعمل على نقد الكتابة التاريخية. غير أن الجيل المؤسس لم يبق مكتوف الأيدي، بل صاغ مارك بلوك ولوسيان فيفر ترسانة من آليات الدفاع والمواجهة. دوّن الأول كتابا منهجيا «دفاعا عن التاريخ أو صنعة المؤرخ»13، في حين كتب الثاني دراسات وأبحاث، نشرها بين سنتي 1906 و1952، قبل أن يجمعها في إصداره الموسوم بـ»معارك من أجل التاريخ»14. أما الجيل الثاني، فقد عمل زعيمه المشهور فيرناند بروديل، على نسف مشروع الهيمنة الذي كانت تتوق إليه السوسيولوجيا، وصد هجومات الأنثربولوجيا البنيوية من خلال ابتكاره لـ»مفهوم الزمن الطويل»15، حيث استخدمه كعصا سحرية، في معاركه من أجل الزعامة والتربع على كرسي العلوم الاجتماعية.
في هذا الكتاب، ينتقي الطيب بياض من سياقات المنجز الحولياتي الفرنسي، بعض القواعد المؤسسة لاهتمامات التاريخ بالزمن الراهن، وبالصحافة والإعلام، إذ يركز بشكل بارز على جذور ارتداء المؤرخ لزي مهنة الصحافي، وتقمص الصحافي لصنعة المؤرخ. ففي مشهد التدافع من أجل السيطرة على السلطة الرابعة، على وسائل الإعلام والصحافة، استطاع مؤرخون عديدون كتابة مواد متنوعة في الصحف، إلى جانب الإدارة أو المشاركة في قنوات تليفزيونية، لاسيما مع منعطف الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، إذ تزايد الطلب على التاريخ بعد الأحداث الفرنسية المشهورة «بمايو 1968»، كما أن المؤرخين لم يلجوا دوائر الصحافة والإعلام لسواد عيونها، بل قصد تسويق ونشر خطاباتهم بين عموم المتتبعين، القراء والمستمعين والمشاهدين، ولما لا التأثير على مجريات الأحداث نفسها16.
نقرأ عند المؤرخ محمد حبيدة حول إشكالية هذا المصنف مايلي: «يطرح الكتاب على نحو صريح، ذلك السؤال الأبدي: «ما جدوى التاريخ؟» ويجب على نفس النحو، بالتنبيه إلى أن التاريخ في كنهه وشكله، وعلى الرغم من تعدد التعريفات والمقاربات، يبقى حوارا مستمرا بين الحاضر والماضي، يبقى جسرا بين رهانات الحاضر وأسئلة الماضي»17. لقد أصبح مختصو الزمن -يشرح الطيب بياض- يشاركون في تشخيص وتقييم الأحداث الراهنة بنظرة عميقة، بحس تاريخي لا يقتصر على الظرفي، بل ينطلق منه للكشف عن البنيوي، في صورة إضاءات تكاد تبدو صحافية سطحية وفورية. لكنها ليست كذلك بالقياس إلى تحليلاتها العميقة التي تستحضر البعد الزمني. فمن الزمن القريب والآني يغوص المؤرخ في البنية ضمن إطار جدلي، فوق نار هادئة، يتحول معها الحدث الظرفي إلى بنية عميقة، كلما اتسعت دائرة الإشكاليات والأسئلة والفرضيات18. إنها مسارات منهجية تؤطر السجالات الإبستمولوجية القائمة حاليا، بين المهتمين بالزمن الراهن والمنشغلين بالزمن الماضي. بين الهاجس الآني بالنسبة للصحافي والحس الزمني بالنسبة للمؤرخ.
تجدر الإشارة، إلى أنه لا يستقيم الحديث عن جذور التاريخ الراهن، دون استحضار تجربة مارك بلوك في كتابه «الهزيمة العجيبة». هزيمة الفرنسيين أمام الألمان في الطور الأول من الحرب العالمية الثانية سنة 1940. ففي هذا المؤلف الذي يقر فيه صاحبه، أنه بمثابة شهادات فورية دونها كمجند وليست تاريخا، تصل الزمن الحاضر بالماضي، إذ ينطلق من الهزيمة باعتبارها حدثا يكشف عن البنية، التي لم تكن نتيجة سوء تقدير عسكري، بل ترتبت عن عوامل مركبة تعود إلى فترات سابقة19. ونظرا لأهمية هذا المنجز، الذي يلامس ورشي الذاكرة والتاريخ، باعتباره شهادات سياسية تلونت بخبرات المؤرخ، فقد حضى منذ أول طبعة سنة 1946 بطبعات عديدة20.

للتاريخ إضاءة: عمود صحافي بقلم المؤرخ

أثث الطيب بياض القسم الثاني التطبيقي والعملي، بباقة من مقالاته الصحافية، كنموذج تجريبي عمل من خلاله على أجرأة بعض أدبيات تاريخ الزمن الراهن من جهة، وكتابة مواده من طرف المؤرخ في الصحف من جهة ثانية، الذي شرع نافذته على قضايا ومجالات متنوعة: اقتصادية، سياسية، اجتماعية، ثقافية. إنها عبارة عن إضاءات وتفاعلات راكمها كاتبها في العمود الصحافي: «للتاريخ إضاءة»، ضمن مجلة زمان المهتمة بالمعرفة التاريخية في نسختها العربية، منذ منتصف شهر أكتوبر 2013. كانت هذه التجربة تسعى إلى الغوص في أحداث وظرفيات الزمن الراهن المغربي، من خلال البنية المفسرة لها، مادامت شرعية التاريخ على حد تعبير مارك بلوك، تتجاوز الشغف المعرفي والعلمي، إذ من واجب المؤرخ أن يلتحف لباس المواطنة ويستبطن المبادئ الأخلاقية والضمير المهني، قصد المشاركة في تشخيص أعطاب المجتمع وتفسيرها وبلورة إستراتجيات تحد منها21. إن الاهتمام بحقل الحاضر «يمنح إمكانية عريضة لملاحظة آثار ما هو صدفوي على ما هو بنيوي ومنسق ومنظم ومتوقع ومصمم»22.
يفضي البحث في علاقة الصحافة بالتاريخ، إلى ضرورة استحضار قضية انبعاث أو عودة الحدث التاريخي، الذي ظل على الهامش منذ ميلاد الحوليات الفرنسية، غير أنه بعدما استشعر مؤرخو «التاريخ الجديد» أزمة الكتابة التاريخية، عاد بعضهم إلى الانشغال بثلاثي الحدث والزمن الراهن والتاريخ السياسي. فأجاز جاك لوغوف زعيم الجيل الثالث من الحوليات، جيل «التاريخ الجديد»، الاشتغال على الحدث والزمن القصير، لكن شريطة «الانطلاق من الحدث واعتباره بمثابة ما طاف من جبل جليد عائم، ودراسته كمؤشر عن البنى ومبلور لها»23.
إن الحدث يكشف البنية ويؤسس لها، بل يحصل هو الآخر على صفة البنية، متى استطاع المؤرخ صياغة إشكاليات، وبناء فرضيات، وطرح أسئلة، تساعد على إثراء قراءة المصادر واستثمار ركامها، «من الوقائع والإشارات التي يقلي بها أحيانا في سلة المهمة»، على حد تعبير المؤرخ عبد الأحد السبتي24. في هذا السياق، ينتقي الأستاذ الطيب بياض «ما يستحق التشريح في مختبر التاريخ»، إذ أن واقع الحال يفصح عن «متغيرات عدة، تستدعي إضاءة تاريخية لفهم العطب الذي يعتور البنية، ويجهض طموحات الظرفية»25. إن أصول الأدواء والأعطاب في زمن البؤس السياسي، والانحباس الثقافي، والتبعية الاقتصادية، والهشاشة الاجتماعية، يعود إلى ما هو ثقافي بامتياز. لذلك تكمن الوصفة في التعليم والمعرفة. لكن «أي تعليم نريد؟» إنه تعليم حديث، منفتح، مستقل، يضع صوب أعينه تأهيل العنصر البشري وتشجيع البحث العلمي والتقني، للوقاية والمداواة من أوجاع التخلف والتبعية.
وبما أن تاريخ الزمن الراهن «ينهل من ثلاثة روافد: الصحافة والتاريخ والسوسيولوجيا»26، فقد فضل الباحث الطيب بياض قبل الخوض في تجربته بمجلة زمان، أن يلقي الضوء على محاولات للوصل بين الصحافة والتاريخ بالمغرب، بدءا بأوراش محمد العربي المساري الصحافي المؤرخ. ودروب جامع بيضا المؤرخ الباحث في الصحافة. وزكي مبارك في مجلته «ملفات من تاريخ المغرب»، والأستاذ المصطفى بوعزيز مع مجلة «لوجرنال»، وتجربة زمان في نسختها بالفرنسية ثم العربية، وصولا إلى برنامج «في رحاب التاريخ»، الذي كانت تعده الصحافية سمية المغراوي على القناة المغربية الثانية، بعد الاستشارة العلمية مع المؤرخ عثمان المنصوري، رئيس الجمعية المغربية للبحث التاريخي. دون أن ننسى طبعا ما خلفته مجلة «وجهة نظر»، التي أسسها الأستاذ عبد اللطيف حسني، من ملفات همت الحياة السياسية والاجتماعية للمغرب في الأزمنة الراهنة والتاريخية.
يتضمن القسم الثاني العديد من العناوين. فمن «الاقتصاد والسيادة»، مرورا بـ»ثقافة الاحتجاج»، «الجوار»، «الإصلاح الضريبي»، «الفلاحة والأسئلة المعلقة»، «ما تستحقه المرأة المغربية»، وصولا إلى «ورش الإصلاح»، و»من البوعزيزي إلى داعش»، وغيرها من المقالات، حاول الباحث بياض المساهمة في بناء ورش جديد يجمع بين الصحافة والتاريخ. إنها مقالات نشرت ضمن مجلة زمان باستثناء مقاله الأخير، الذي نشر سنة 2018 بمجلة النهضة، حول أسباب انزياح ربيع البلدان الجنوبية عن مسار الديمقراطية، وارتمائه في أحضان الأصولية الدينية. لكن ألا يمكن أن نتساءل مع القارئ والمتتبع عن خلفيات توقف تجربة الأستاذ بياض، عن الظروف الموضوعية والذاتية التي أدت إلى انقطاعها. فكما أن «الكتابة سلوك بشري واع ومفكر فيه لا تأتي اعتباطيا»27، فكذلك التوقف عنها سلوك بشري مفعم بوعي وتفكر وشروط. والمحاولة هذه يظهر أنها مستحسنة من كاتبها، تستحق الاستمرار والتطوير بيد أنها لم تعمر طويلا.
قد تبدو عناوين هذا القسم غير منسجمة، تخوض في موضوعات مختلفة، لكن قراءتها بتأن وتدبر يظهر ترابطها على مستويين بشكل عام. فمنهجيا، تلتزم برؤية البنية شارحة للظرفية، البنية تضيء الحدث، والحدث يكشف عن البنية. أما معرفيا، فتفكك وتركب في الآن ذاته بعض قضايا المجتمع المغربي الراهن، حيث كلما استجد حدث معين وطغى على السطح، التقطه المؤرخ الطيب بياض وحجزه في مختبر التاريخ، لمدة قد تطول أو تقصر حسب إشكالية الموضوع، قبل أن يحرره ليعبر عن نفسه بأزياء الدراسات الصحافية، بعدما تم تخصيبه بحقنات تاريخية مصدرية ومرجعية. يقول: «كانت العملية تنطلق من الصحافة وتعود إليها؛ تتم قراءة خبر حديث أغلب المنابر الإعلامية الصادرة بحر ذلك الأسبوع، ثم يجري تأمل الموضوع، عبر البحث عن الخيط الناظم بين الواقع والحدث من جهة، والسياق والبنية من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يتطلب بعض الوقت بكل تأكيد، وقد يستدعي العودة للمراجع لتدقيق الفهم، قبل إنضاج الإضاءة التاريخية الشهرية في المجلة»28. إن ما يقدمه الطيب بياض من درس في هذا الحيز، «هو أن المؤرخ في نهاية المطاف ينتمي إلى الحاضر، مهما كانت درجة غرقه في الماضي»، على حد تعبير الأستاذ محمد حبيدة.
لقد أفرد المؤلف مساحة كبيرة للقضايا الاقتصادية في تاريخ المغرب. خصص أول إضاءة تاريخية لـلاقتصاد والسيادة. فهو الباحث المتخصص في التاريخ الاقتصادي، يرى بعيون المؤرخ أن ملامح الاقتصاد المغربي الراهن تعود جذورها إلى منتصف القرن التاسع عشر، الذي شهد مسلسلات من الاتفاقيات التجارية غير المتكافئة مع البلدان الأوروبية، بل زاد الأمر تعقيدا في بداية القرن العشرين، حيث أقبل المخزن المغربي على نهج سياسة الاقتراض، التي اتسعت دائرة استفحالها أكثر بعد إلغاء معاهدة الحماية.
عموما، يستخلص بياض أنه «بين وصفتي دراموند هاي سنة 1856 وكرستين لاغارد 2013 لإصلاح الاقتصاد المغربي، استمر مسلسل التبعية والإملاء الخارجي، ضمن سياق تراكم شارح للكيفية التي انتهت بها اللجنة التابعة لصندوق النقد الدولي، المكلفة بتقييم الاقتصاد المغربي، والذهاب إلى حد التهديد بتجميد القروض في حالة عدم أخذ المبادرة»، إذ منذ برنامج التقويم الهيكلي إبان الثمانينيات من القرن العشرين، «بدأ تآكل السيادة يسير بوتيرة سريعة، بالتزامن مع تزايد تدخل المؤسسات المالية المانحة في توجيه الاقتصاد المغربي، فيما يشبه علاقة الأستاذ بالتلميذ». على ضوء هذا يمكن فهم السياسة التقشفية التفقيرية التي تنهجها الحكومة المغربية، بدءا بإلغاء الدعم على المواد الأساسية، وتجميد الأجور، مرورا بمراجعة أنظمة التقاعد، وصولا إلى التوظيف بالتعاقد، وغيرها. لذلك، يرى بياض أن «أوراش الإصلاح الحقيقي يجب أن تنبع من الداخل حتى لا يعاد سيناريو مغرب ما قبل الاستعمار، حيث قاد إصلاح على المقاس الأجنبي إلى السقوط في مستنقع الاقتراض، ضاعت معه سيادة البلاد»29.

في المحصلة:
امتدادات وآفاق

يثير موضوع تاريخ الزمن الراهن إمكانيات للوصل بين التاريخ والصحافة، بيد أنه يبقى خطاب المؤرخ على حد اعتقادنا عميقا، مبنيا منهجيا، إذا تجاوز الوصف والتشخيص، وتبنى الفهم والتفسير والنظر العميق المبني على مرجعية تاريخية. أما خطاب الصحافي، فهو إخباري يتميز بالإثارة والسطحية والتيه المنهجي، والانصياع لقيود السلطة السياسية، خدمة لأهداف تتوارى وراء الستار، تسعى إلى التحكم في الرأي العام وتوجيه الذهنيات الجماعية والفردية، بفعل عدم استقلالية المؤسسات والسلط. هذا الحكم نسبي، لا ينسحب على كل الأقلام الصحافية، كما أنه يمكن أن يعتري الكتابات التاريخية التمجيدية الرسمية. لذلك يرى السوسيولوجي الفرنسي بيرنار بايار، أن «تعميق البحث الصحفي يستلزم في الواقع تجاوز مهنة الصحافة. وبعبارة أخرى، الانفتاح على التاريخ والسوسيولوجيا»30.
في زمن التيه السياسي والثقافي، في زمن الانحطاط الأخلاقي والمعرفي، أصبح الأمر ملحا لاستدعاء المؤرخين إلى موائد النقاش العمومي وزوايا انشغالات المجتمع، قصد تقديم قراءاتهم وإضاءاتهم حول أحداث الزمن الحاضر والقريب. لكن من المؤكد أن سلطة الصحافي، في المجتمع المغربي الراهن تتجاوز سلطة المؤرخ. فالأول، أصبح قريبا من عموم القراء، نظرا لاعتماده على وسائل تواصلية حديثة، في الوقت الذي تختفي فيه سلطة خطاب المؤرخ بين صفحات الكتب والمجلات المتخصصة، المتراكمة على رفوف مكتبات عامة وخاصة، قلما تروق متتبعي المواد الصحافية المختصرة والبسيطة، لاسيما في ظل العزوف الإرادي واللإرادي عن القراءة، وموجة الانتقال من الورقي إلى الرقمي، نتيجة التطورات التكنولوجية الجارفة في محيطنا المتحول، ما يتطلب من المؤرخين اقتحام تلك الأدوات، وتوظيفها في نشر المعرفة التاريخية في المجتمع، سواء المتعلقة بالأزمنة القريبة أو البعيدة.
ونشير في هذا الأفق التحديثي والتجريبي، إلى مشروع المؤرخ نبيل ملين في «أول تاريخ افتراضي للمغرب»، بالقناة التاريخية الإلكترونية، تحت عنوان: «يقال إن»، الذي يستعرض جوانب مفصلية في تاريخ المغرب عبر ثلاثين حلقة، تذاع على رأس كل شهر. إنها محاولة تعتمد على رسوم ووثائق ومصادر ومراجع متنوعة، تتم غربلتها وتركيبها على شكل لقطات من «مسلسل واقعي»، لا يتجاوز عشر دقائق في كل حلقة، مفتوح أمام الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي. فخصص الحلقة الأولى يوم 31 يناير 2019، لـ»الريف: الحراك الآخر (1958-1959)». هو مشروع لا يصبو حسب صاحبه، إلى «فرض سردية كبرى على الجمهور، والتي ستكون بالضرورة سطحية وخطية وإقصائية، بل تزويده بتاريخ علمي يظهر بطريقة غير مقيدة، تنوع المشارب وتعقيدات الوقائع»31. فإلى أي حد إذن، يمكن اعتباره مشروعا يرقى لانتظارات رواد الزمن المغربي الراهن، والمهتمين بالوصل بين الصحافة والتاريخ؟

* باحث في التاريخ الاجتماعي كلية الآداب والعلوم الإنسانية-القنيطرة

[1]  يتعلق الأمر بقراءة في كتاب: الطيب بياض، الصحافة والتاريخ. إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن، الرباط، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2018.

[1]  الطيب بياض، المخزن والضريبة والاستعمار. ضريبة الترتيب 1880-1915، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2011.

[1] الطيب بياض، رحالة مغاربة في أوربا بين القرنين السابع عشر والعشرين. تمثلات ومواقف، الدرا البيضاء، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية-عين الشق، 2016. الطيب بياض، “تمثل الأنا والآخر في رحلتي الحجوي والسايح”، ضمن: الذاكرة والهوية, الدار البيضاء, منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية-بنمسيك, 2013، ص 284-249.

[1]  الطيب بياض، الصحافة والتاريخ، م س، ص 12.

[1]  محمد حبيدة، كتابة التاريخ. قراءات وتأويلات، الرباط، دار أبي رقراق، 2013، ص 10.

[1]  محمد حبيدة، المدارس التاريخية: برلين، السوربون، استراسبورغ. من المنهج إلى التناهج، الرباط، دار الأمان، 2018، ص 134.

[1]  الطيب بياض، الصحافة والتاريخ، م س، ص 11.

[1]  انظر الهامش رقم (7) ضمن كتاب: عبد الأحد السبتي، التاريخ والذاكرة، م س، ص 213-214.

François Hartog, Régimes d’historicité. Présentisme et expérience du temps, Paris, Seuil, 2003.

[1] بيرنار بايار، “التاريخ الفوري”، ترجمة محمد حبيدة، ضمن: الكتابة التاريخية. التاريخ والعلوم الاجتماعية- التاريخ والذاكرة- تاريخ العقليات، الدار البيضاء، أفريقيا الشرق، 2015، ص 121.

[1]  بيرنار بايار، ن م، ص 122.

[1]  الطيب بياض، الصحافة والتاريخ، م س، ص 13.

[1] Marc Bloch, Apologie pour l’histoire ou Métier d’historien, Paris, Armand colin, 1949.

[1]  ibid.

[1] Lucien Febvre, Combats pour l’histoire, (1952), Paris, Armand Colin, 1992.

[1] Fernand Braudel, “Histoire et Sciences sociales : La longue durée”, Annales. Economies, sociétés, civilisations. 13ᵉ année, N. 4, 1958. pp. 725-753.

[1]  بيرنار بايار، ن م، ص 123.

[1]  انظر خلفية هذا الكتاب موضوع القراءة.

[1]  عبد الأحد السبتي، “قضايا منهجية”، ضمن، التاريخ والذاكرة. أوراش في تاريخ المغرب، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2012، ص 116-120.

[1] Marc Bloch, L’étrange défaite, témoignage écrit en 1940,  Paris, Gallimard, 1990.

[1] Dominique Damamme, “Un cas d’expertise, l’étrange défaite de Marc Bloch”, Sociétés contemporaines, N. 39, 2000, pp. 95-116.

[1]  من بين انشغالات الطيب بياض كذلك، قضايا الزمن الراهن وحقوق الإنسان. يمكن العودة مثلا إلى مقاله: “المركزيات النقابية والفعل الاحتجاجي في المغرب. نموذج أحداث 1981-1990″، ضمن: تقاطعات التاريخ والأنثربولوجيا والدراسات الأدبية. أعمال مهداة إلى عبد الأحد السبتي، الرباط، دار أبي رقراق، 2018، ص 159-173.

[1]  بيرنار بايار، ن م، ص 125.

[1]  جاك لوغوف، التاريخ الجديد، ترجمة محمد الطاهر المنصوري، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 46.

[1]  عبد الأحد السبتي، ن م، ص 118-120.

[1]  الطيب بياض، الصحافة والتاريخ، م س، ص 139.

[1]  بيرنار بايار، ن م، ص 122.

[1]  الطيب بياض، الصحافة والتاريخ، م س، ص 92.

[1]  نفسه، 65.

[1]  نفسه، ص 130-131.

[1]  بيرنار بايار، ن م، ص 122.

[1]  يمكن الإطلاع على بيان هذا المشروع، وأول حلقة منه على الرابط: lakome2.com/culture/101250، اطلع عليه بتاريخ 13-02-2019.


الكاتب : محمد أبرهموش*

  

بتاريخ : 06/09/2019