جنوب شرق آسيا: الأفق الجديد للدبلوماسية البرلمانية المغربية

 

في سياق دولي مطبوع بعدم الاستقرار سياسيا واقتصاديا وأمنيا، تنهض قوى إقليمية جديدة تحقق صعوداً لافتاً على المستوى الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. تلك حالة عدد من بلدان جنوب شرق آسيا إلى حيث يبدو أن مركز العالم أصبح يتحول تدريجيا.
وبعد اليابان عقب الحرب العالمية الثانية، انتقلت «عدوى» الصعود L’émergence الاقتصادي والتكنولوجي للنمور الأسيوية (كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وسنغافورة …)، اليوم، إلى غالبية بلدان جنوب شرق آسيا(فيتنام-تايلاند- أندونيسيا…) مع تفاوتات في الإنجاز، ولكن وفق نفس الأفق، ونفس الطموح بتحقيق نهوض اقتصادي وتكنولوجي يمكن إجمال أسبابه في :
القوة الديموغرافية، إذ نجحت هذه البلدان في تحويل «المعضلة» الديموغرافية إلى رافعة اقتدار وإنتاج وإبداع ودينامية اجتماعية، تقودها طبقات وسطى صاعدة ونسيج مقاولاتي محلي مبدع وباحث عن الأسواق،
قوتها التكنولوجية، إذ نجحت هذه البلدان في ما يمكن أن نسميه اختصار مسار التمرحل التاريخي الكلاسيكي (المرور بمرحلة الثورة الصناعية)، وتتموقع اليوم كقوى تكنولوجية بالاستثمار في التكنولوجيات الجديدة وبنسيج مقاولاتي هائل يشتغل في القطاعات الواعدة.
وبالنتيجة، فقد يسّر هذان العاملان الصعود الاقتصادي لهذه البلدان وجعلها قبلة للاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية من خارج القارة، (من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية)، مستغلة توفر يد عاملة رخيصة ومؤهلة وقوانين شغل مرنة.
أما العامل الرابع الحاسم في هذا الاقتدار الأسيوي فيتمثل في الثقافة، أي في اللامادي، ذلك أن قيم الانضباط وحب العمل، وثقافة الواجب واحترام التراتبية في الشغل واحترام الآخر، هي اليوم جزء من مرتكزات التقاليد الثقافية لشعوب المنطقة، التي عرفت كيف تنفتح على العالم وتنخرط في الحداثة دون التفريط في الإيجابي من ثقافتها وقيمها الأصلية، وهذا ما وفر لها مناخاً عاماً من الاعتدال والتسامح واحترام الآخر.

الثقافة عامل حاسم
في الاقتدار الأسيوي

لقد جعلت هذه العوامل وغيرها، من قبيل الدعم الغربي وخاصة الأمريكي في سياق ما كان يعرف بالحرب الباردة، وفي إطار منطق المصالح، من هذه المنطقة (جنوب وجنوب شرق آسيا) في موقع ريادة النمو العالمي اليوم، إذ يبلغ معدل النمو الإقليمي بها 7.1 في المئة برسم 2019-2020، وهي وتيرة مرشحة للاستمرار لسنوات. ولئن كان الطلب الداخلي هو المحرك الأساسي لهذه الدينامية فإن احتكار بلدان المنطقة (جنوب وجنوب شرق آسيا) لثلث (1/3) الصادرات العالمية وهيمنتها على السوق الدولية في عدة قطاعات (النسيج – الالكترونيك – المعلوميات – صناعة السيارات – الخدمات)، تجعل منها، ليس فقط قوة جيوسياسية، ولكن موضوع رهان دولي وقُوَةً تُسْتَجْدَى الشراكة معها.
وإذا كان هذا التحول الهائل الذي تشهده المنطقة يدخل في إطار ما يمكن تسميته دورة التاريخ في قيادة العالم التي قد تجعل من آسيا سيدة الاقتصاد العالمي خلال القرن الواحد والعشرين، وتتحكم في زمام المبادرة الاقتصادية الدولية بأسواقها ومهاراتها البشرية وتحكمها في التكنولوجيات الجديدة، فإن مناطق جيو-سياسية جديدة هي بصدد البروز والتشكل في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. فقد تمكنت القارتان من التخلص من عدم الاستقرار السياسي والنزاعات الداخلية والعابرة للحدود، ومن منطق الانقلابات العسكرية وباتت الانتخابات وسيلة للوصول إلى الحكم، وينهض المجتمع المدني رافعا شعار الشفافية والحكم الرشيد والديمقراطية، وأصبح للمؤسسات التشريعية أدوار بارزة في الحياة السياسية، وتأسست أحزاب بمشاريع مجتمعية مختلفة وصار الاهتمام بالعنصر البشري والثقافي رهانا مركزيا لدى الدولة والمجتمع، فيما تترسخ ثقافة المؤسسات والتداول على تدبير الشأن في عدد من البلدان.

ومن مؤشرات الصعود الإفريقي، مثلا، أن أكثر من بلد يحقق نسبة نمو برقمين في سياق دولي غير ملائم. وينضاف ذلك إلى المواد الأولية الاستراتيجية والأراضي القابلة للزراعة التي تتوفر عليها القارة ومواردها البشرية الشابة الهائلة.
وقد جعلت هذه المكانة والموارد والأسواق الواعدة للقارة، إفريقيا محور رهانات دولية وموضوع تنافس دولي، إذ تتعدد صيغ “الشراكة” وآليات العمل المشترك بين القارة والقوى الكبرى ( الولايات المتحدة – الاتحاد الأوروبي –اليابان- الصين- ألمانيا- فرنسا-تركيا- روسيا).
وتكريسا لانتمائه الجغرافي والحضاري، وترصيدا للتاريخ المشترك مع البلدان الإفريقية الشقيقة، كان المغرب سياسيا واستراتيجيا في قلب إفريقيا. ولم يثنه انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية عام 1984 إثر الخطأ الفادح الذي تعمدت إدارتها وقتها أن تورط فيه المنظمة، التي كان من مؤسسيها الرئيسيين، باعترافها بالبوليساريو كعضو في المنظمة، (لم يثنه) عن ترسيخ تعاونه الثنائي مع عدد من البلدان الإفريقية وفي الإطارات متعددة الأطراف الإفريقية. ويؤكد عدد الاتفاقيات التي أبرمها المغرب مع البلدان الإفريقية، منذ سنة 2000 فقط، حجم هذا التعاون إذ تجاوز الألف اتفاقية وبروتوكول تعاون. وشكلت عودة المغرب في يناير 2017 إلى الاتحاد الإفريقي منعطفا حاسما في علاقاته الإفريقية وفي الاندماج القاري وفي الترافع عن قضايا القارة وفي ضخ ثقافة جديدة في مؤسسات الاتحاد وفي تموقع المملكة كشريك صادق في الأسرة الإفريقية.
ومنذ مطلع الألفية الثالثة دشن المغرب سياسة انفتاح جديدة في أمريكا اللاتينية، وهو يقيم اليوم علاقات وطيدة أساسها الثقة مع أغلبية بلدان هذه المنطقة.
وقد أدركت الدبلوماسية البرلمانية المغربية الرهانات الجيوسياسية والاقتصادية والإنسانية للتعاون جنوب-جنوب، ومع هذه المناطق الجيو-سياسية: إفريقيا، وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

بناء دبلوماسية مجلس النواب على أسس الاستباق والمبادرة والمأسسة والتأطير القانوني والترصيد

وعلى أساس الصدقِ، والثقة المتبادلة، والقيم المشتركة، أسَّسَتْ دبلوماسية مجلس النواب، وهي بصدد، ترسيخ وتوسيع – علاقات المؤسسة التشريعية مع نظيراتها في هذه المناطق الجيوسياسية في الإطارات الثنائية والمتعددة الأطراف وفق منهجية الاستباق والمبادرة الممأسسة والتأطير القانوني (الاتفاقيات) والترصيد والاشتغال على قضايا تكتسي راهنية كبرى في السياقات الدولية والقارية والإقليمية.
وتتوخى هذه المنهجية ضمان استدامة علاقات الصداقة والتعاون والتنسيق في الإطارات متعددة الأطراف وخدمة القضايا الحيوية للشعوب وفي العمل على رفع التحديات المشتركة التي تواجهها وفي مقدمتها مكافحة الإرهاب والتطرف والعنف، والهجرات واللجوء والنزوح، وانعكاسات الاختلالات المناخية، والتعاون من أجل التنمية، وتملك التكنولوجيات الجديدة والحد من الفوارق في امتلاكها واستعمالاتها والطاقات المتجددة.
وتعد هذه المواضيع في قلب العمل المشترك الذي تنجزه دبلوماسية مجلس النواب من خلال المنتديات التي يبادر إلى تنظيمها واحتضانها، أو المشاركة فيها والتي تتوج باقتراحات وتوصيات هي اليوم رصيد هام في الترافع الدولي من أجل العدالة للقارات الثلاث في عدد من القضايا الحيوية الراهنة.
وبعد إفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث يتوفر مجلس النواب على حضور نوعي، فاعل وناجع ومستدام في المنتديات البرلمانية متعددة الأطراف، القارية والجهوية، حرص على التوجه إلى جنوب شرق آسيا، معززاً بالإصلاحات الكبرى المؤسساتية والسياسية المنجزة منذ تسعينيات القرن الماضي وبالإمكانيات الاقتصادية، وبموقعه الجغرافي، وأساساً بالثقة التي يحظى بها على الصعيد الجهوي القاري والدولي، والتي تترسخ بفضل دبلوماسية الاعتدال التي يقودها جلالة الملك محمد السادس الذي تنتج السياسة الإفريقية الجديدة التي يقودها، تموقعا جديداً للمملكة قارياً ودولياً.
في هذا السياق يسعى مجلس النواب إلى تطوير شراكات برلمانية مع بلدان جنوب شرق آسيا من خلال اتفاقيات ومذكرات تعاون، ومن خلال مأسسة الحوار والتنسيق عبر المنتديات كما هو الحال مع فيتنام وكوريا الجنوبية، ومن خلال تبادل الزيارات، ومجموعات الصداقة البرلمانية.
جنوب شرق آسيا: الأفق الجديد للدبلوماسية البرلمانية المغربية

وفي هذا السياق أيضا تأتي مبادرة مجلس النواب، بتشجيع من أصدقائه في المنطقة بشأن الانضمام إلى الجمعية البرلمانية لبلدان جنوب شرق آسيا (AIPA). وتجسيدا لذلك، وبدعوة من Chuan Leekpai  ، رئيس الجمعية الوطنية للتايلاند (مجلس النواب)، شارك الحبيب المالكي، رئيس مجلس النواب، في أشغال الدورة 40 بهذه الجمعية البرلمانية التي احتضنتها بانكوك خلال الفترة ما بين 25 و 30 غشت 2019 والتي تمحورت حول “تطوير الشراكة البرلمانية من أجل مجموعة مستدامة”.
وإلى جانب مشاركته في أشغال هذه الدورة بصفته ضيف شرف، أجرى الحبيب المالكي مباحثات مع نظيره التايلاندي وكبار المسؤولين التايلانديين ومع عدد من رؤساء البرلمانات الوطنية الأعضاء في الجمعية.
وتعكس مشاركة مجلس النواب في أشغال الجمعية البرلمانية لدول جنوب شرق آسيا، التي تأسست عام 1977 وتضم عشرة بلدان أعضاء دائمين واثني عشر عضوا ملاحظا، التقدير الذي تحظى به المملكة المغربية لدى بلدان المنطقة وحضور مجلس النواب في الدبلوماسية البرلمانية الثنائية والمتعددة الأطراف.
وقد كانت مشاركة رئيس مجلس النواب في هذه الدورة مناسبة لبحث سبل تعزيز العلاقات بين المغرب وبلدان هذه المنطقة الجيو-سياسية الهامة ولاستشراف إمكانيات التعاون معها، خاصة في ضوء ما يجمع مجلس النواب وعدد من البرلمانات الوطنية من بلدان جنوب شرق آسيا من إطارات للتعاون.
وبالتأكيد، فإن العلاقات التي نسجها مجلس النواب مع بلدان جنوب شرق آسيا والتي أنضجت فكرة انضمامه كعضو ملاحظ إلى جمعيتها البرلمانية (AIPA)، إذ تم الحسم في توفر المجلس على المعايير والشروط المطلوبة للنظر في الحصول على صفة عضو ملاحظ، (بالتأكيد) أن كل ذلك يوازي، ويعزز، ويمهد الطريق لانضمام المغرب إلى الحوار الحكومي المتعدد القطاعات بمجموعة بلدان جنوب شرق آسيا التي تترأسها حاليا مملكة التايلاند.
وتعد إمكانيات الاشتغال والتعاون مع هذه المجموعة هائلة إذ إن غالبيتها تتطلع إلى أن يكون المغرب قاعدتها وبوابتها للانطلاق نحو أوروبا وإفريقيا، وإلى أن تكون هي قاعدته نحو المنطقة. وما من شك في أن بلادنا تتوفر على العديد من الإمكانيات والرافعات لتحقيق هذا الهدف: التكامل مع عدد من البلدان في عدة قطاعات وفي مقدمتها الفلاحة ومستلزماتها من مخصبات وتقنيات، والسياحة والنقل البحري، والبعد الروحي (تكوين الأئمة من البلدان الإسلامية والبلدان حيث تعيش طوائف مسلمة، وتكوين طلبة في اللغات).
وفي المجمل، فإن أفقا جديداً للدبلوماسية البرلمانية المغربية ينفتح برهانات شراكة مربحة للجميع تتوخى الازدهار المشترك للشعوب في إطار الديمقراطية والتعايش والتسامح، وفي إطار عالم متعدد الأقطاب باعتباره هدفا مركزا للدبلوماسية البرلمانية اليوم.


بتاريخ : 09/09/2019