«قالت أمي للسجان» ليوسف الطاهري أو الكتابة بالدم … مأساة الذات والذاكرة

على سبيل التقديم:
ما الألم؟ أهو تشنج أم وجع؟ أهو أعراض وعُسر أم ضغط وعجز؟ أهو وضع غير مريح و مشاكلُ أم شَدٌّ تعصب ومقاومة؟ … قد يكون الألم كل ذلك، وقد يكون غيره. قد يتشكل كطاقة – بنوعيها الايجابي والسلبي – تحيط بالهدف لتُرْديهِ في الأخير صريعَ التوتر، سريع التفاعل. لكن الألم في جميع هذه الحالات عنصر مؤثر على الذات و فيها و عليها.
والألم؛ بما هو معاناة، محرك للكتابة والابداع عموما. وعبر التاريخ الأدبي، ارتبط الفن بالألم أو الكتابة بالمعاناة، بل ربما تم اعتبار أفضل النصوص ( رواية، شعرا، تشكيلا، رسما و موسيقى ) تلك التي خلَّدت للمآسي والفواجع الإنسانية. نذكر في الرواية مثلا : شرق المتوسط لعبد الرحمان منيف، الحرب والسلم لليون تولستوي، البؤساء لفيكتور هوجو … وفي الشعر لنا ما دونه شعراء القضية الفلسطينية كنموذج أو آخرين مثل الملاحم الكبرى أو نصوص كيوم أبولينير وبروست … وفي الرسم نمثل بلوحة: الصرخة لإيدفار مونك، أو كرنيكا لبابلو بيكاسو … وفي التأليف الموسيقي هناك سمفونيات موزار وباخ وغيرهما ، هذا يعني، أننا بصدد تصدير آلام المبدعين الداخلية نحو الآخرين، « ليس لكسب التنويه « ، كما اعترف بذلك الروائي الروسي دوستويفسكي.
عتبات نصية
في خدمة الألم:
في هذا الصدد، يأتي العمل الروائي، السيرذاتي « قالت أمي للسجان « ليوسف الطاهري، في طبعته الأولى عن مطبعة نجمة الشرق ببركان 2019. هو محكي ذاتي، بكل سهولة نستطيع تصنيفه ضمن أدب السجون، أو أدب الاعتقال السياسي. إذ نجدنا أمام عناصر متعددة داعمة للطرح. بداية بالعنوان، حيث ورود لفظ « السجان « بكل حمولتَيْهِ المادية والمعنوية، مرورا بلوحة الغلاف للفنان التشكيلي محمد سعود، والتي بإطلالة عليها، تبسط أمامنا طَيْفَ شخصين على الأقل ( ذكر وأنثى )،يعلوهما ضوءٌ قَمري، بين خطوط مُتعامِدة، وقضبانٍ سجنية، مع اعتماد ألوان غامقة، متداخلة في ما بين الساخنِ ( الأحمر والأزرق والأصفر ، وهي ألوان النار كما تُنعت ! ) والباردِ ( حيث الارتباطُ بعمق مياه البحر وسُدول الليل ). فاللوحة إذا، و باعتماد نظرية « إيروين بانوفسكي « في قراءتها تشكيليا، سنبحث عن إجابات حول: الأشخاص، اللباس، الألوان، الخطوط و الأشكال، زوايا الضوء، مساحة الظلال، الجزئيات الملغومة، الألغاز المبثوثة، المعاني الأولى و الثانوية و الصريحة ، وستتبين المقاصدُ، وتتضح الرؤى، حيث التلاقي المباشر مع مضامين الرواية.

المضامين وكتابة الفاجعة:
بعد العنوان ولوحة الغلاف، يأتي المضمون زاخرا بمعاني الفواجع و الآلام. ونحس منذ البدء شعورَ الراوي بالحسرة على مغادرة الوطن، و يعني ذلك، فِرارا من واقع مرير وهروبا من ذكريات مؤلمة، ومحاولةً لتغيير وضعٍ مسيء بآخرَ مُريح، بعد أن تم الاعتراف بالعجز عن تحقيق الجميل والأبهى والأفضل في أرض الوطن !!
نحن إزاء بحث عن هوية مفتقدة بفعل فاعل، واستنجادٍ بمحطة جديدة لدفن ومُواراة جحيم سابق. لكن هذا الفَقْدَ سيضطرب هو الآخر عندما يصطدم الحلم بجدار واقع عنيد آخر، وسيتضاعف الألم حين محاولة الانتحار، قصد تحقيق « الخلاص « النهائي !! هي مأساة الذات و الذاكرة إذا، و هو مَحْوُ الْمَحْو في النهاية .
يقول « ميلان كونديرا « : « إن كل رواية لا تكشف جزءا من الوجود لا يزال مجهولا، هي رواية لا أخلاقية. « (3) ، ماذا يعني ذلك ؟
إن كتابة الغامض والمُبهم فينا، هي تعبير عن سُمو ورِفعة، واستخلاص لميولٍ ولنزعة معينين. ويكاد يُجمع الفلاسفة ( أرسطو، كانط و روسو على الأقل ) على أن الأخلاق أفعال ناتجة عن العقل من أجل الخير الأسمى، يعني فعلا واعيا و مميزا. بالتالي، فحين يعمد الكاتب إلى تَذْويتِ سُرُودِه الأليمة، فهو لا يكشف عن ضعف، بقدر ما ينحو باتجاه نور يلهث وراءه، عله يعثر على فضاء أرقى وأسمى، فتغدو هذه الكتابة بالتالي، « تملك روحا تعكس وجود الإنسان وفلسفتَه وغايته ومخاوفَه. « . ولعل ذاك ما ارْتضاه يوسف الطاهري لنفسه، إذ الحَكِيُّ في روايته مقرون بفضح عَوْراته دون خجل، وبهذه الممارسة، كما لو أنه يسعى إلى « تطهير « ذاته من شوائبَ عالقةٍ بها: التيه الداخلي، الاغتراب الذاتي، صرخة الآلام الدفينة ( انظر الصفحتين 35 ؛ 36؛ و ما بعدهما نموذجا ) ، طرح الأسئلة الوجودية الحارقة ( نماذج ص 43؛44؛45…) ، محاورة « الأنا « الفاشلة … و غير ذلك من التقنيات العلاجية إن صح التعبير.
والذات هنا، غير ذات يوسف الطاهري، بل هي « مضاعفة «، نقَّلَها بين: أنا، أنت، هو. فنجد السارد تارة يقول: يخطو، يغادر، يتكئ، يصل … ( بصيغة ضمير الغائب )، وتارة يقول: التقيتُ، صادفتُ، استجمعْتُ قِواي … ( بصيغة المتكلم ) ، وأخرى يقول: بدأْتَ تَشْعُر أنكَ تَلج ، رُحْتَ مقبلا، تساءلْتَ عن حالك … ( بصيغة المخاطب ). إن التناوب في هذا التشكيل السردي للذات، دليل على « لا طمأنينة ٍ» وعلى قلق و» لا استقرارٍ « !!
ومن حقنا أن نتساءل استنكاريا: – كيف يحس بالأمان من جَلَدَهُ وطَنُهُ ؟ – كيف يشعر بسلام روحي من تَهَدَّدَ سِلْمُهُ الداخلي بأُمٍّ مكلومة أو فجيعةِ أبٍ مُختنق، أو حيرة إخوة ؟!
ما مورس من تعذيب نفسي في حق المعتقلين كفيل بمحو لفظة « السماح « من قاموسهم ككل ! هنا نقول، إن الكاتب استطاع أن يرسم لنا « حدود الوحش والإنسان داخل الجلاد « كما عبر عن ذلك الباحث السيميائي الدكتور سعيد بنكراد. أو بتعبير أدق، ما خلَّده الشاعر السوري: ممدوح عدوان إذ قال: « إن عالم القمع المنظم منه و العشوائي، لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على حَيْوَنَةِ الإنسان أو تَحْوينِ الإنسان. «
إن الشعور بافتقاد الحرية أمر فظيع للغاية، و ما سرده يوسف الطاهري على مدى صفحات روايته، هو تمجيد و ترتيل قداسي لذلك الاحساس الذي لا يكاد يُضاهَى. وثمة في النص تعبير أخاله أبلغَتصوير عن قيمة الحرية. فقد أورد الكاتب على لسان صديقه السجين ( نون ) ، حينما أخبره أنه محكوم بثلاثة أعوام نافذة، قال ( نون ) : « أما أنا فمحكوم بثلاثة أشهر نافذة، قضيت منها شهرا ونصفا، ومع ذلك أشعر أني لن أتبول يوما فوق الربيع ! « .
المغزى هنا، أن قيمة الاحساس بتعاقب فصول السنة، وبتفاعل عناصر الطبيعة معها، لا تُضاهى، ف « حرمان السجين من التمتع بالطبيعة ، عقاب وتأديب له. « أو كما عبر عنه الكاتب نفسه حين قال في الرواية: « السجن غير قابل للوصف. « ( انظر الصفحة رقم 189 )

المحكي السجني وسبل المقاومة:
أشار الأستاذ محمد رمسيس، أحد المهتمين بما يسميه: « المحكي السجني « أو « المتخيل السجني « إلى أن « السجن مكون فاعل في تطور الوقائع والأحداث و كينونة المعتقل، بل ومخيال المتلقي نفسه، إنه فضاء يحيل على جانب كبير من التعقيد الدرامي. « و في موضع آخر : « رِوائيَّةُ العمل تتأسس على الأحداث و الوقائع المركبة التي تنمو وتكبر وتتعقد. « .
أوردنا الإحالتين هنا لبيان المؤثرات الخارجية على الفعل السردي في الرواية، ما بين « الموضوعي « و « الحقيقي « و حضور « العين الشاهدة «؛ بتعبير سعيد بنكراد . ويبدو أن الأسلوب السردي – هنا- قد اتخذ « شكل حَكِيٍّ عَفْوي يروي وقائع التجربة « ؛ بعيدا عن قوانين … « الكون السردي، المشيد عبر : التأجيل، و التعجيل و الصمت واللاتحديد والقصدية الضمنية. « .
وفي ذات السياق تبرز العلاقة داخل فضاء المعتقل بالمكان و الزمان، و كيف تم تدبيرها. وشخصيا أحبذ النظر إلى الأمر من زاوية « المقاومة «؛ أي ، كيف تم نسج الرابط مع اللحظة السجنية ؟
ثمة إشاراتٌ ثلاثُ في الرواية، تحدد المسألة: علاقة الكاتب بالأبواب، علاقته بالذاكرة، وأخيرا علاقته بالأحلام.
– ففي الأولى، تبرز قيمة الباب كمنفذ أو كمدخل/مخرج. و قد أوْردَ يوسف الطاهري ذلك في موضعين: باب الزنزانة كمصدر للنور (ص 149)؛ ثم باب المصحة كمصدر لتلقي و الأخبار و تداولها، و لتبادل الأحوال والمعطيات ( المجهولة قبلا = الجهل بها !! ) مع أخته المعتقلة أيضا في جناح النساء ( ص 171) ، وهي بالتالي علاقة انفراج وسبيل إلى المعرفة والاطلاع. بمعنى أوضح، أن الباب عنصر مؤثر إيجابيا، بكونه يمد المعتقل بخيوط ضوء وأمل، غالبا ما تشكل أحد الممنوعات.
– و في الثانية ، فإن استدعاء الذاكرة كان بمثابة الخلاص من عذاب مسترسل وإن بشكل من الأشكال. يقول الكاتب: « الذاكرة مرتعُ ومصدرُ العذاب عندما تتواطأ مع الليل أو مع لحظات الاختلاء بالنفس. « ، فبالرغم من أن المعاناة تتفاقم لحظتئذ، إلا أنها انعتاقٌ ونُزوع نحو التحرر والبوح الذاتي، بالنظر إلى قيمة « التفريغ « عن طواعية و بدافعية شخصية. ما يعنيه أن الذاكرةَ و استدعاءَ أجزاءٍ من الحياة خارج الأسوار السجنية، هو بمثابة الجسر أو المعبر !! لكن هذا العنصر غالبا ما اصطدم بأسوار معنوية أخرى : لحظات الحسم في قرار الفِرار أو مواجهة الآلة القمعية بتقديم النفس طواعية للشرطة، و تحمل كامل التبعات، لحظات الاستنطاق البوليسية، لحظات الزيارات العائلية، لحظات الفرح والشغب بمعية الإخوة بالبيت، اللحظات البطولية للاضراب عن الطعام …. وهذا ما جعل الكاتب يرى في الذاكرة مصدرا للعذاب.
– أما عن الثالثة، فإن تحقيق الذات عبر الأحلام، و عبر الهروب من فظاعة اليومي السجني، مسألة تتأتى دون رغبة شخصية. ومن منظورنا، فإن ارتباط « الحلم « بحقوله المتنوعة في الرواية: الليل، الحكايات، العتمة، النوم … كان مطية فقط لعنصر أهم ، هو « الأُم « . فهذه الشخصية وإن كانت ذاتا للآلام بامتياز، فإنها شكلتْ بؤرة داعمة لتحقيق الحرية، وفعلا محفزا على المقاومة.
حضرت الأم في كل مراحل الحَكِيِّ، بل إن عنوان الرواية ككل مرتبط بها، فهي من سيخاطب السجان ببأس وقوة، وهي من سيصرخ في وجه الجلاد، وهي من سيكتوي باعتقال فردين اثنين من أبنائها، وهي من سيُفردُ لها الكاتب قبل هذه الرواية بسنوات خلتْ عنوانَ ديوانه الشعري الزجلي الأول: « يا ما غدا العيد « . أقصد أن الأم شخصية استطاعت تحقيق حلم الحرية المعتقل، بفعلٍ مُجسَّدٍ، يضاهي المقاومة في نوعيْها الآخريْن الوارديْن سابقا. ثم إن الكاتب يحتفي بقيمة الأم هنا، مثلما احتفى ماكسيم كوركي في روايته « الأم «؛ بالشخصية التي ستتبنى فكر ابنها المعتقل، بل والتي ستحمل راية تصوراته الثورية بعد استشهاده وهو بين ذراعيها.

على سبيل الختم:
عرَّف الروائي القاص « مصطفى لغتيري « أدب السجون بأنه « كتابات حاولت ملامسة تجربة الاعتقال السياسي إبداعيا، أي أنها اتخذت من الكتابة وسيلة لتصفية الحساب مع تجربة إنسانية ووجودية ونفسية مريرة. «(16) . فلا شك إذا أن الكتابة عن الألم أمر غاية في الصعوبة؛ حيث تُرسِّخ هذه اللحظةُ في وُجودية الكائن/الكاتب/المعتقل وفي ذهنيته هوامشَ و صُوراً وجزئيات يغفلها الآخر/القارئ/المتلقي، أو قد لا يُعيرها اهتماما. وخوضُ فِعْلَيْ: التذكر والتدوين، حتما لن يمُر سَلِسا، سيُجدد الأوجاع و سيُحْيي الآلام وسيُعيد المعاناة. بالتالي، فأدب التخييل السجني هو كتابةٌ بالدم، ليس إلا !! بل هو « أدب مقاومة و ممانعة « حسب تعبير لخضر منير.
و قد ذهب إلى اعتباره الباحث محمد رمسيس « رأسمالا رمزيا لكل المغاربة، يمْكِنهم الاطلالةُ من شرفته على تقرحات الوطن و أوجاعه. «
من حقنا أن نطرح السؤال / الإشكال التالي، بعد كل هذا و ذاك : « – كيف لكتابةٍ تُمجد الألَمَ أن تكون مُمتعة ً؟؟!! « ( … هو سؤال، سيبقى مفتوحا عالقا في جميع الحالات.


الكاتب : جواد المومني

  

بتاريخ : 18/10/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *