حوار في السياسة ومحيطها مع المفكر عبد الإله بلقزيز 08

هذه هي أسباب عدم نجاح الحركات القومية المشرقية في المغرب

 

بعد الحوار الذي أنجزناه مع المفكر والكاتب عبد الإله بلقزيز في صيف 2015 بجريدة الاتحاد الاشتراكي، وفي تقديمنا لهذا الحوار التزمنا مع المفكر وقراء الجريدة أن الحوار سيكون في ثلاثة محاور رئيسة: وهي الأدبي، والسياسي، والفكري. في صيف 2015 كان الحوار أدبياً وذاتياً. أما اليوم فإننا نطرق بوابة السياسي في إنتاج هذا المفرد بصيغة الجمع. انطلاقاً من كتاباته السياسية التي تدخل ضمن مشروعه النظري والفكري العام؛ حاولنا مشاكسته في بعض القضايا السياسية في راهننا العربي: فلسطين، العولمة، الديمقراطية، الدولة، المعارضة، ثم الخطاب القومي، والربيع العربي، وغيرها كثير.
كلما اقتربت من عبد الإله بلقزيز إلاّ وازداد حباً وتقديراً؛ فهو المبدئي الذي لا يفرط في مبادئه، مهما كان الثمن، يدافع عن مشروعه القومي باستماتة فارقة. فالمتتبع لأعماله سيصل، بالضرورة، الى هذه التقدمية، والحداثية في إنتاجه الفكري، وممارسته المهنية، وانخراطه في الجبهات المناهضة للعولمة والامبريالية… بل أكثر من ذلك فكتاباته السياسية تستشرف المستقبل، ليس لأنه يؤسس نظره على الفكر السياسي، والحداثي، والفلسفي، وإنما في انخراطه الكلي في قضايا العالم العربي. نفتح هذا الحوار لنتقرب من هذا الرجل أكثر؛ الرجل الذي يُحيط زائره بالحبّ والتقدير والكرم. نقول له شكرا لأننا اخترقنا عالمك، وفتحت لنا قلبك للحديث عن أوجاعنا، ومطبّاتنا، وأعطابنا السياسية والتاريخية.
وأقول شكراً للصديق محمد رزيق الذي شاركني في إنجاز هذا الحوار، والشكر موصول الى الاصدقاء الذين قاموا بتفريغ الحوار وكتابته (الإخوة محمد البوقيدي، محمد زكاري، إبراهيم وانزار). أملنا في أن يكون هذا الحوار إطلالة على الجوانب المهمة من فكر هذا الرجل.

 

مازال أمامنا وقت طويل لكي نَسْتَدْخِلَ إشكالية الدولة في صلب الخطاب القومي ونتوقف عن تكرار الحديث في مسألة الأمّة. وهذا يفترض منّا أن ننفتح على مصادر للفكر القومي أخرى في العالم غير الفكر القومي الألماني، بمعنى أن نخرج من إطار ما سميته بالمفهوم الأنثروبولوجي الثقافي للأمّة إلى مفهوم سياسي للأمّة،

في حديثكم عن مأزق الفكر القومي العربي، عزوتم مشكلته إلى فقره السياسي.

لا ليس هذا هو السبب الرئيس؛ السبب معرفي، ويكمن في أن الفكر القومي العربي، منذ نجيب عازوري مروراً بعبد الحميد الزهراوي، وساطع الحصري، ومحمد عزة دروزة، وزكي الأرسوزي، ومشيل عفلق، وقسطنيطين زريق، وعبد الله الريماوي، وعصمت سيف الدولة…إلخ، وصولاً إلى نديم البيطار، كان فكراً يدور في إشكالية الأمّة متأثراً بالفكر القومي الألماني؛ بكتابات هردر وفخته وغيرهم وبعض الفكر القومي الفرنسي، وخاصة كتابات إرنست رينان، لكنه وهو مسكون بفكرة الأمّة ومصادر تكوين الأمّة. ذهل عن القضية الأساس وهي الدولة. حينما تفكر في وحدة، فأنت تفكر في كيان سياسي؛ إذن، دع عنك المجتمع لا تفكر في الموارد الاجتماعية والثقافية للوحدة، وإنما فكر في شكلها السياسي والدستوري. هذا نقص فادح، وأنا في كتابي «نقد الخطاب القومي» وجهت نقداً لاذعاً لهذه الانتكاسة المعرفية في الخطاب القومي، لكنني في الوقت عينه أشرت إلى أن بداياتٍ للتفكير في مسألة الدولة حصلت مع نديم البيطار وخاصة في كتابه المرجعي «من التجزئة إلى الوحدة»، ولكنه لم يبْنِ عليها ولم تُسْتَكْمَل، ومازال أمامنا وقت طويل لكي نَسْتَدْخِلَ إشكالية الدولة في صلب الخطاب القومي ونتوقف عن تكرار الحديث في مسألة الأمّة. وهذا يفترض منّا أن ننفتح على مصادر للفكر القومي أخرى في العالم غير الفكر القومي الألماني، بمعنى أن نخرج من إطار ما سميته بالمفهوم الأنثروبولوجي الثقافي للأمّة إلى مفهوم سياسي للأمّة، وهذا هو الذي حاوله نديم البيطار ولكن لم يذهب فيه بعيداً كما أشرت.

لقد ساهم المسيحيون العرب في بناء الفكر القومي العربي وتطويره. أليس كذلك؟ أليس لأنهم تصوّروا أن الأمّة من منظور ديني غير مقبولة ولا ممكنة وأن الدين يضعهم في أزمة؟

كما قلت في جواب سابق لم يكن المسيحيون العرب وحدهم من بناة الفكرة القومية، كانوا شركاء. ولكن، صحيح أنهم كانوا أنشط لسبب معلوم هو أن المسيحيين العرب حين تمردوا على الرابطة العثمانية، وبعضهم كان جزءاً منها (وأنا أحيلك هنا على أسماء عديدة لمفكرين مسيحيين عرب كانوا في «حزب اللامركزية الإدارية العثماني» دافعوا عن ميلاد رابطة جديدة، رابطة قومية حديثة؛ لأن الرابطة العثمانية رابطة دينية، والمسيحيون طبعاً من مصلحتهم أن تكون الرابطة قومية لأنهم سيجدون أنفسهم داخل هذه الرابطة، أما إذا كانت الرابطة دينية فسيُتعامل معهم بوصفهم قلة أو أقلية، وتخرجهم هذه الرابطة من حياضها أو من ساحتها، ليس لأنهم علمانيون، ولكن حتى وهم غير علمانيين، حتى ولو كانوا مسيحيين متدينين، لن يجدوا أنفسهم إلا في رابطة عابرة للأديان هي الرابطة القومية العربية. ومع ذلك، دعني أقول إنّ مساهمة المسيحيين العرب في الفكر القومي العربي نوعية. من يملك أن يجحد ما قدمه نجيب عازوري ومشيل عفلق وقسطنطين زريق. إنّ منظومة قسطنطين زريق الفكرية، مثلاً، لا تعادلها في عصرها منظومة فكرية أخرى: قومية أو ليبرالية أو ماركسية عربية.
أما أن يكون الدين جوهر الأزمة، فالدين لم يكن يوماً سبباً لأزمة، إنما طريقة فهمه وتأويله واستثماره في المجتمع هو الذي ينتج الأزمة، وإلا إذا قلنا إن الدين مبعث أزمة، معناه أنّنا اختصرنا الدين في الأصولية، والحال إن الأمر ليس كذلك. مجتمعاتنا مؤمنة منذ مئات السنين، ولم تعش هذه الأزمات. وإسلاميو اليوم ينسون أن أبناء هذه المجتمعات مسلمون منذ ما يزيد عن 1400 عام، وهي لا تنتظرهم لكي ينشروا الدعوة. الأزمة أزمتهم هم وليست أزمة الدين؛ أزمة رؤيتهم إلى الدين وعلاقتهم بالدين، وأزعومتهم في أنهم هم الناطقون الرسميون باسم هذا الدين، وأن الآخرين على ضلال مبين، ويجب فيهم الفتح وتجب فيهم الهداية، وعليهم هم أن يدعوا إلى ذلك وأن يكونوا على رأس الحربة. الأزمة ليست في الدين، وإنما الأزمة في المتدينين؛ في نوع التدين السائد اليوم هذا التدين المنغلق، العصابي، الماضوي، المتطرف، هو الذي ينتج الأزمة، بينما نحن نعرف تماماً أن الدين مثلاً كان سلاحاً للحركة الوطنية في مجتمعاتنا. الحركة الوطنية المغربية قاعدتها الأساسية هي السلفية، والحركة الوطنية الجزائرية انطلقت من السلفية ومن «جمعية العلماء المسلمين»؛ في تونس مع الشيخ الثعالبي ومحمد الطاهر بن عاشور. الحركات الوطنية كلها خرجت من رحم العلم الديني. كنا نتحدث قبل قليل عن «حركة فتح»؛ هذه خرجت إما من «الإخوان المسلمين» أو من «حزب التحرير»، وهذا يعني أن الدين لا يشكل عائقا إن كان لديك مشروع اجتماعي أو وطني منفتح. بل قد يكون بالعكس؛ قد يكون طاقة مغذية. ولكن يصبح الدين مشكلة حينما تحوله إلى موضوع للنزاع الاجتماعي الداخلي. حينما يكون موضوعاً لوحدة شعب أو أمة في مواجهة المحتل، كما حصل في لبنان وفلسطين وغيرها، تكون طاقته إيجابية حينما يتحول إلى موضوع للصراعات الداخلية فإنه يفسد الدين ويفسد الدنيا معاً.

لقد كان الفكر القومي خصباً في المشرق العربي، بينما لا نجد نظيرَ ذلك في المغرب العربي. وينطبق ذلك حتى على التعبيرات السياسية الحزبية؛ ما السبب وراء ذلك؟

هذا طبيعي لأن التقاليد الفكرية القومية في المشرق قوية ولها تاريخ، بينما لم يكن الأمر كذلك هنا في المغرب العربي. هذه واحدة، الثانية أنّه لم تنجح الحركات القومية في أن تنغرس في المغرب العربي وخاصة في بلادنا، المغرب الأقصى، أمّا في الجزائر أو في تونس أو في ليبيا فقد نجحت الأحزاب القومية العربية في المشرق في أن توجِد لها فروعاً لأحزابها فيها خاصة «حزب البعث». علماً بأنّ التأثير الناصري كان غلاّباً في مجمل المغرب العربي سنوات الخمسينيات والستينيات. لكن هذه الحركات لم تكن لديها امتدادات هنا في المغرب، والسبب بسيط جداً؛ لأن الحركة الوطنية المغربية، ممثلة بأقطابها الثلاثة «حزب الاستقلال»، و»حزب الشورى» و»الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» كلها كانت تؤمن بالعروبة، والعروبة جزء من الوطنية المغربية. ولذلك لم نكن في حاجة إلى تأسيس أحزاب على فكرة العروبة على نحو ما كان عليه الأمر في بلاد المشرق العربي. وقد سبق لي أن درستُ هذه الظاهرة، قبل نحو ثلاثين عاماً، وانتهيت فيها إلى خلاصات في المسألة وفي جملتها:
أولا ليس لدينا مسيحيون في المغرب حتى يميل هؤلاء إلى الأحزاب العروبية كما مال المسيحيون العرب في المشرق إلى الأحزاب تلك. هذه واحدة ثم الثانية لأن العروبة والإسلام متلازمان في الوعي الجمعي، وفي وعي الحركة الوطنية؛ ولذلك كنت تجد في علال الفاسي المناضل السلفي والإسلامي والعربي في نفس الوقت، وتجد الأمر نفسه عند عبد الرحيم بوعبيد أو عبد الله إبراهيم أو المهدي بنبركة، حيث الجمع عندهم فذّ بين الالتزام الوطني والالتزام القومي، وقلّ ذلك عن محمد بلحسن الوزاني، والفقيه البصري، وعمر بن جلّون وعبد الكريم غلاب وسواهم. هذه ظاهرة فريدة، لذلك لم نعش نحن هذا الاستقطاب بين العروبة والإسلام في المغرب؛ فكانت أحزابنا الوطنية أحزاباً وطنية وأحزاباً عروبية في الوقت عينه من دون تضادّ. هذا في ما أعتقد واحد من الأسباب التي تفسر عدم نجاح الحركات القومية في المشرق العربي في التغلغل. دعني أخبرك، في المعرض هذا، عن واقعة: مرة سألني عليه طارق عزيز في العراق رحمة الله في خريف سنة 1991 في مكتبه سؤالاً استفهامياً؛ لماذا لم تستطع الحركة القومية أن تخترق الساحة المغربية؟ فأجبته وأنا أمزح معه فقلت له يا أستاذ طارق، إذا فكرت في تأسيس فرع للحزب في المغرب فإنك تضيع وقتك؛ فكر في تأسيس شركة أو شركات في المغرب يستفيد منها المغاربة ويستفيد منها العراقيون، حينها تستطيع أن تنسج صلات قوية بين المغرب والعراق، أما أن تفتح فرعاً فلن تنجح لأن المغرب محصن ضد هذه الفكرة، والدليل على ذلك أن الحزب الشيوعي في المغرب لم يستطع في أي مرحلة من تاريخه، منذ مغربته، أن يبدو وكأنه فرع لأممية خارجية، فلقد ذاب في المحيط المغربي وتحول إلى حزب وطني.

إلى أي هاجس ينتمي كتاب «نقد الخطاب القومي»؟

ينتمي كتابي هذا إلى هاجسين متلازمين: هاجس إيديولوجي، ولا أخجل من أن أصفه بأنه إيديولوجي، لأنني في كتابي، حاولت أن ألقي الضوء على مفهوم الإيديولوجيا، وعلى الوظائف التي تنهض بها في ميدان المصالح الاجتماعية، والقومية، والطبقية. لا أخجل بأن أسميه هاجساً إيديولوجيا لأنه يتعلق بمصلحة، أشعر، كما يشعر غيري، بالحاجة إلى تحقيقها، وهي وحدة الأمة. لكن الكتاب، ليس كتابا دعوياً إلى الفكرة القومية، وإنما هو كتاب نقدي، بمعنى أنه يحاول أن يراجع جملة اليقينيات التي تكونت في تاريخ الفكر القومي العربي منذ عشرينيات القرن العشرين، وأن يصوّب بعض عثرات ذلك الخطاب في النظر إلى قضاياه. والهدف، وهنا الجانب الإيديولوجي في الكتاب، هو بعث الحياة من جديد في المشروع القومي، وفي الخطاب الفكري المعبر عنه.
ولكنه ينتمي إلى هاجس فكري أيضا، وهو ربما ينسجم مع انحيازات فكرية، وهو مراجعة المنظومة المفاهمية التي اشتغل بها الفكر القومي، وإعادة تصويب النظر إلى بعض المفاهيم من زاوية الحاجة إلى تكييفيها مع متغيرات التاريخ، والواقع، والمعرفة. وفي هذا النطاق، إذا، ركزت على المفاهيم الكبرى الأساسية المؤسسة للخطاب القومي: مفهوم الأمّة، مفهوم الدولة، مفهوم الهوية، مفهوم العروبة، مفهوم الثقافة القومية… الخ.
بعض من استحسنوه، لم يروا فيه إلا هذا الجانب المعرفي، وبعض من استهجنوه لم يروا فيه إلا ذلك الجانب الإيديولوجي، والحال إن الكتابة في موضوعات من هذا النوع لا تستطيع فيها الحياد؛ لأنها ليست كتابة في موضوعات برانية عمّن يكتب فيها، ليست ممكنة تلك الكتابة المحايدة الباردة المتعجرفة في عليائها، لأن الموضوع موضوع تاريخي، واجتماعي، وسياسي، وبالتالي فلا مجال للحديث فيه بموضوعية حيادية. هذه واحدة، الثانية، كنت دائما أستهجن، وما أزال، وسأظل أستهجن، كل كتابة تبشيرية لأنها ليست من الفكر، لأنها فعل دعوي فج، وقد يصلح في التعبئة الإيديولوجية، والسياسية، والتجييش الاجتماعي. ولكنه لا يصلح لمخاطبة العقل. ولذلك، كما قلت، النص ترجح بين مقاربة معرفية مبناها على أدوات التحليل العلمي للخطاب، وهدف إيديولوجي، الغاية من الكتابة هو الوصول إلى تحقيقه. ولا أخفيك أن كتاب، “نقد الخطاب القومي”، وإن كان استكمالاً لما كتبته سابقاً في كتاب “من العروبة إلى العروبة”، والذي تناولت فيه تجربة الحركة القومية الحديثة والمعاصرة بالتحليل والنقد، وكانت الحاجة ماسة إلى النظر في معمارها الفكري، أيضا، وليس فقط في معمارها السياسي والتنظيمي، على الرغم من أنه هكذا: أي استكمالاً ل”من العروبة إلى العروبة”، إلا أنه يندرج ضمن مشروع علمي، كنت قد وضعته، ولم أستطع إنجاز إلا الجزء الأول منه، وهو مشروع نقد الخطاب العربي في أربعة أجزاء: الخطاب القومي، الخطاب الإسلامي، والخطاب الماركسي العربي، والخطاب الليبرالي العربي. لم أستطع، حتى الآن، إنجاز إلا هذا الجزء الأول منه. وما أقوله عن نقد الخطاب القومي، يصدق على الخطابات الأخرى. إنْ قُيِّض لي أن أكتب عنها في أجزاء أخرى. بمعنى، أنها، هي أيضا، من نوع الخطابات التي لا يمكنك أن تتخذ منها موقفاً شديد الحياد. أنا لا أكتب هنا عن الخطاب الفلسفي العربي، أنا أكتب عن خطاب كان منغمساً في السياسة، وفي الصراعات، ولذلك من الصعب، تماما، أن أتحدث عنه بحياد بالغ. وكلها أفكار كبرى غمرت عالمنا الحديث والمعاصر في الوطن العربي، وغمرت حياة شعوبنا وأمم أخرى غيرنا. العبرة ليست في هذا، وإنما العبرة في كيفية مقاربة المسائل الفكرية التي تطرحها، أو يطرحها الإنتاج الفكري العربي، أو سواه، معبراً عن نفسه، إما من خلال مقالة قومية، أو مقالة يسارية، أو دينية، أو ليبرالية. هذا كل ما في الأمر.


الكاتب : حاوره: حسن إغلان

  

بتاريخ : 05/06/2017