شعر .. جزيرة الموتى

لا تبدو الأشجار الحارسة واهيةً واهنةً،
بل خضراءَ ملفوفةً في دُكْنَتها المُخيفة.
وفي السماء السفلية تستريح الشمس
بعد أن أنهكها تجوال النهار
وهي تشهد فاغرة،
آثار وأهوال الخُطاة،
تغطس عميقا في بحيرة الجزيرة الهائلة
لتبترد قليلا،
وتعاود الظهور والتجلي المقدس
بعد إفطار سعيد.
وها هي ذي تُدْفيءُ عظامَ العدم.
نجوم باردات على شواهد القبور الموحشة،
تُرَفْرِف ُمُشَقْشِقَةً فرِحَة
بزيارة لقالق القدر كل يوم.
فرْحَى بمرأى الوطاويط تحمل
أعشاشها لوادي الملح المركوم
في أقراط الشجر الداكن الممشوق.
الريح تصقلنا..
الريح تصقل حتى القبورْ
فمن دهورْ،
تهب، وتنشج على ألواح المدائن
مُعَرَّاةً مجروحة بسهام الموج،
تبحث عن مَلاءٍ
وعن دُثورْ.
أيها الموتى :
أنتم لا تكبرون.
أنتم حيث كنتم ومِتُّمْ.
الزمن معكم،
ينتظر هُبوبَكُم ليستأنف المسير،
والساعةَ لِتُتَكْتِكَ،
والحياةَ لتغرد بين أيديكم.
يمر الزمان عليكم :
فهذا بحر يرتطم بأقدامكم دوما،
وملح يتخثر في تجاويف غُضْروف قبوركم،
وظلال تنتشر وتنحسر كثوب الأزل كل حين،
والزقزقات في آذانكم تُرَقِّصُ عظامكم.
الليل يلاحق النهار
قبل ومنذ، وبعد موتكم
وأنتم.. أنتم،
كُلٌّ في عمره الذي له
معه في رَمْسِهِ
لا يرتد ولا يتحرك،
لا ينام ولا يسأمُ،
ما علمتم.. وما لا أعلمُ.
لكنكم تسمعون العِطرَ والبياضَ،
وترون أغنياتِ الموج تَصْخَبُ وتهدأ
بحسبان المزاج البحري المتقلب،
ومعاصي الأنام،
عيونكم مغمضة لكنها لا تنام.
أيتها الجزيرة البيضاء السابحة
في اللجين والضباب،
والصحو والغبش.
أنت باردة، نعم،
رجلاك المرمريتان في الماء المالح الطهور،
منذ دهور،
لكنك دافئة تنعمين
بجمر الأمنيات التي كانت،
سواء أكنت تحضنين رُفاتَ
هُداة أو بُغاة.
زهرات عَنْخامْ
في منقار غراب يحط فوق
جُمَيْزَةٍ قَدَرِيَّة باسقة
تتغذى على أحلامكم السائلة،
تشرب هواءكم
إذا عز الهواء
وماءكم إذا نزحت بئر الآثام،
وتغني كل فجر للمراكب التي
تسير على غير هدى
في مدار البحر الظمآن.
أنا قادم،
أيتها الجزيرة الذهبية الصديقة،
يوما،
وأراني- منذ الآن- محمولا
على بَتْلاتٍ من زَهْر غُنْبازٍ
مُبْتل تُرْعِشُه بدلال،
نسائم الجهات،
وهتافات الخذلان،
يُعْوِلُ القصب الأثير،
وشجر الدفلى الوردي
في رئتي،
وَيصفر في تجاويف الأصداف
مَنْقوعا في الموج كمثل المجاديف
المهجورة المشبعة برغوة الأيام الخوالي،
ويتجمد كالأثير الأنيس في الشرايين
حيث يهمس، منطفئا، دمي
للطيات المريرة =
-هيَّا احْتَرقي لتتقدَّسي
في نَفَسي،
وفي إثر هبوب البنفسج الدامع،
وجمرات السّاتان،
وشميم عرار الجبلِ المقدس،
جبل سيدي «بلقاسم أزروالْ»
تؤرجحني ضفائر طفولتي
على أجنحة الحنين،
هاتفة، وربما باكية منفطرة
تعاند دمعها كأرملة الشهيد:
ــ وداعا، أيها الشقيُّ البائسُ
الذي مر كمثل طيف.
انتظرتَ طويلا
داعبتَ العبث
ثم رحلتَ
عاريا، منتوف الحلم والريش.
هكذا يَزْدَرِدُكَ الثقب الأسود
الهائل الإسفنجي القاتل بلا هوادة
حتى الذرة الأخيرة.
ـ وَداعاً..
يا محمـد !!

( فينيسيا ـ إيطاليا ـ في شتنبر2017)
*-النص مستلهم من لوحة الفنان أرنولد بوكلينARNOLD Böcklin، والتي حولها الموسيقار راشمنتوفRachmanitov إلى تحفة موسيقية (سمفونية) مهيبة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 29/11/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *