ذهبنا إلى الصين، وعدنا ……من المستقبل! (2)

من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.

 

من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.
وهذا شعور لست الوحيد الذي ملأ به أعماقه، بل الوفد الذي زاره لمدة 12 يوما، وزار فيه العاصمة بيجين، والعاصمة شنغهاي، وشيامن، تشوانتشو ودجيجيان، في مقاطعة فوجان. من السور الذي ضربته سلالات الحكام الأوائل، والذي يقطع الأنفاس، إلى السور الإلكتروني الحديث، الذي يذهل العقل، ثمة سر واحد: العمل والجدية والإخلاص للبلاد!
هي المرة الرابعة التي أزور فيها الصين، بقبعات مخالفة يغلب عليها الطابع المهني، وعلى عكس ما يمكن أن يخالج التفكير، زادت ألغاز الصين وزادت الدهشة في جوارها..
من التفاصيل التي تعيش في الهواء اليومي إلى طرق الحضارة السيارة…سيارات بدون سائق، روبوات تتكلم وتعمل كالنادل، وناطحات السحاب، على طول نهر زانتسي.

****
من لم يكتئب بعْدَ الصين، فهو لا يحب بلاده…

****

– 2 –

تقترب‭ ‬المضيفة‭ ‬حنان‭ ‬من‭ ‬مقعدي،‭ ‬وتسألني‭ ‬عن‭ ‬الوجبة‭ ‬التي‭ ‬أفضل‭ ‬الآن،‭ ‬على‭ ‬علو‭ ‬شاهق‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬تبدأ‭ ‬بسرد‭ ‬اللائحة ‭‬وتبدأ‭ ‬من‭ ‬الحريرة،‭ ‬نضحك‭ ‬سويا ‬عندما‭ ‬أعلق‭: ‬الحريرة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتركها‭ ‬للشعوب‭ ‬الأخرى‭ ‬معنا‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬مذاقها‭ ‬يتغير‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العلو‭ ‬الشاهق،‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬تيزي‭ ‬وزو‭.‬
عندما أنتهي، أقرأ في كتاب معلوف عن قصة «الرفيق فهد»، وكنت أعرفها من قبل، ودار الزمان وتباعدت تفاصيلها عني، وخلاصتها في السياق العراقي الجديد لها دلالة كبرى، تستحق قصته أن تُروى لمن يريد معرفة العراق الحالي، هو يوسف سلمان يوسف، عرف غالباً باسمه الحركي “فهد”، هو أحد أول الناشطين السياسيين في العراق، كما يعتبر من المؤسسين للحزب الشيوعي فيه…
يوسف من عائلة مسيحية سريانية، وفي 1947 تم اعتقاله، وكان فهد قد اضطر في تلك الأيام إلى أن يتخلى عن تشدده المعتاد في التحرك السري والتردد على بيوت عديدة، وذلك من أجل تدارك الأوضاع التي تعرضت لها الحركة الوطنية .
أخذ فهد ورفاقه أولا، إلى المقر الرئيسي لمديرية الاستخبارات في مركز بغداد، وبعد فشل سلسلة من التحقيقات، عمدت إلى نقلهم إلى سجن “أبي غريب” الشهير في احتلال العراق، وهناك حول فهد السجن إلى مدرسة أو معهد ثقافي ثوري، وكان يقود الحزب وهو في السجن من خلال الرسائل التي كانت تكتب بماء البصل.

بعد أن أصبح نوري السعيد المعروف أعادت حكومته محاكمة فهد ورفاقه، وحكمت عليه المحكمة بالإعدام وتم تنفيذ الحكم قبل إعلانه، وذلك يوم 14 فبراير 1949 …
لماذا قصته مثيرة بالنسبة لمعلوف؟ لأنه كان من أقلية دينية واستطاع أن يصبح زعيما في بلاد فيها طوائف عديدة، وخلاصة واحدة من هذه الخلاصات تجعل الحزب الشيوعي حزبا لكل الطوائف، في حين أن العراق اليوم يجعل لكل طائفة حزبا خاصا بها، حزب للسنة وحزب للشيعة وحزب للأكراد…
ويستحيل وجود حزب وطني تلتقي فيه الدوائر الثلاث!
ونستخلص من هذه الجولة أنه: ليس العمال البروليتاريون وحدهم من وعدهم ماركس بالوحدة الفردوسية في الشرق العربي، بل الأقليات أيضا وعدها بالجنة..
لكن أين الصين؟ ما زالت بعيدة…
أنظر إلى شاشة الرحلة، وما تنقله إلينا من تفاصيل التحليق، أرى، ونحن نتجول مع أمين معلوف في صفحات كتابه: «”غرق الحضارات”»، الطائرة تتجول بنا من دولة مغاربية إلى أخرى قبل الوصول إلى سماء المتوسط وبحره…
في الطائرة تكتمل لحظات تعارفنا.
اكتشف عبد العزيز الرماني، الذي يعرفه الإعلام، أحد المشاركين في “ميدي1 تيفي” وفي “ديكريبتاج” لكازا “إم إيف إيم”.. كبك و الذي اشترك معه في معرفة صديق مشترك…
أزداد معرفة بيوسف شميرو الصديق الدائم، الذي لا نحتاج، لا هو ولا أنا، إلى كثير كلام لنتفاهم، ونضحك ملء أعماقنا من كل ما هو قابل للضحك….
يصبح التواصل أكثر قربا مع المهدي علابوش، الذي كنت أراه في أروقة “لاغازيت”في زمن سابق، وأتعرف فيه على شخص محبوب، مرح، عفويته تصنع المعجزات. …
مرية مكريم، مديرة موقع “فبراير كوم”، الصديقة القديمة والصحافية التي تعرفت عليها في العقد السابق من القرن العشرين، هي بدورها صديقة لا أحتاج معها إلى تأسيس تعارف…
عبد العزيز المسعودي، المناضل الطبقي على الطريقة الراديكالية، الذي سبق أن اعتقل بسبب انتمائه اليساري، الودود مع ذلك والمحب للحياة، جاء باسم “»شالينج”«، وسيطبع الرحلة بطابعه الخاص والسار……
بقية التعارف ستحصل رويدا رويدا!
كانت الرحلة أول لقاء لي مع مراد أولقاسم، نائب المدير العام لـ»”هيت راديو”«، الرياضي الصموت والودود… وينطلق مع انطلاقة الروح في المساء..
وكان معنا أيضا حاتم القسيمي صاحب البلاد الأخرى……

يتبع


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 16/12/2019