البعد الأمبيريقي في أعمال الأديب المغربي العربي بنجلون

استضاف منتدى الروافد للثقافة والفنون، الكاتب المغربي العربي بنجلون، في ندوة
أطرها نقاد في الأدب، غير أن حضور الطفل القارئ كان طاغيا؛ ذلك أن صيت الضيف في مجال الكتابة للطفل، كان قد سبقه.
انطلاقا من إحساسي بأن هذا ما سيحدث، بعد توصلي بالدعوة الكريمة من الدكتورة فاطمة الميموني، للمشاركة في هذا اللقاء، وبدافع الفضول المعرفي، ذهبت أبحث في المسار الإبداعي للرجل، وكانت النتيجة، هذه الورقة التي قد لا تكون قد استوفت حق كل ما استوقفني في قراءتي لمحطاته، ومجالات إبداعاته وبحوثه، غير أنها زاوية نظر بانورامية، وسعت الرؤيا حول مركزية المشروع المتكامل للأديب العربي بنجلون، والبعد الامبيريقي الذي يوجهه؛ والذي يقودنا إليه منهجه في التأليف، واختياره لقضايا بذاتها تخدم ” بناء الانسان”. إذ تعرف الامبيريقية لدى علم الاجتماع أنها ” منهج تجريبي ينتج معطيات اجتماعية وفردية بالملاحظة والمشاهدة والمشاركة”، ولعل دلالة هذا المصطلح، نجدها مفعلة كقيمة مهيمنة في أعمال الأديب العربي بنجلون كما سنرى.

 

العربي ينجلون اسم نحت وجوده الخاص في الانطولوجية التربوية المغربية.. اسم له بصمته في مبحث الأدب المغربي، وخصوصياته المعرفية والثقافية. اسم لرجل يعض بالنواجذعلى مرجعية القيم الدينية والوطنية المغربية. اسم لشخصية تمارس البحث الدائم في ما يهم مشروعه الثقافي/التربوي، فهوما فتئ يرصد تحولات الإبداع الأدبي المغربي، وتجليات الوعي في متونه، وهو السياق نفسه الذي كتب فيه عن أدب الطفل نقدا وإبداعا، مما يؤكد أن الرجل يحمل مشروعا تنويريا وتنمويا شغل كل مجالات اشتغاله، مهنة وإبداعا، وإعلاما..
ومما يدعم هذا التوجه في قراءة مسار هذه الشخصية المغربية الفاعلة، تعدد مجالات منتوجها من إبداع ونقد، وتأريخ للأدب المغربي، ومساهمة تأسيسية لصحافة الفكر للكبار، إلى جانب صحافة تربوية تثقيفية للصغار، وكذا إنجازه لأبحاث بهذا الخصوص نشرت بمجلات مغربية وعربية، واعتمدتها المنظومات التعليمية الأوروبية ضمن تطبيقها لأطروحة التعليم غير النظامي. كما أنه راصد للتحولات المعرفية، وإفرازاتها الرقمية، ووظائفها في خدمة الاعلام؛ حيث حاضر في هذا المجال داخل المغرب وخارجه، وهي كلها قدرات وإمكانات ستبوئه مناصب المسؤولية في الاعلام الدولي.
العربي بنجلون الطفولة الممتدة، هذا اللقب الذي عنون به أحد الصحافيين حواره معه، يكاد يكون سمة رسمية تم بها ختم منتوجه التأليفي، بينما القراءة في مساره العام، تجعلنا نكتشف أبعادا إنسانية عميقة الغور لأعماله، والرحلة في مسالكه تكشف عن مشروع كبير اشتغل عليه الرجل بمنهجية ورؤية مركزة على أهداف، وظف لهما الفكر والابداع، ووعي ويقظة بمراعاة تحولات العصر وأداته المؤثرة والنافذة.
إن القارئ في مسار الأديب المغربي العربي بنجلون، وأقول ” أديب ” بين مزدوجتين اختصارا، سيجد نفسه – لا محالة – يتقصى خطو فعل أمبيريقي..فعل تقودك إليه الاعمال الاستدلالية لصاحبها، التي تطلعك على مدى العوالم التي قد تبدو متباعدة لهذه الأعمال، في حين أنك عندما تلجها، تكتشف أنها تعود لتلتحم بلحمة الوحدة العضوية التي تضمها هذه الآثار، وهي ” الإنسان “.
ساعدني تقصي آثار سير الخطو الإبداعي للكاتب العربي بنجلون، في الوقوف على الحقول المعرفية والفكرية والابداعية التي اشتغل عليها، وبالتالي على حصرها في منطقة المشترك بينها.
سنقوم بقراءة البنية السطحية لعتبات العناوين لمؤلفاته. وتعرف البنية السطحية بأنها هيكل المتن ووحداته البادية للقراءة المباشرة، كتابا كان أو نصا لدراسة أو مقالة، أو قصيدة، أو عنوانا بصفته نصا موازيا ضمن نصوص موازية أخرى، يضمها متن ما.
يقابل البنية السطحية، مفهوم البنية العميقة التي بدورها عنصر أساس، لأية عملية استقراء للنصوص، وباستبطانها نصل إلى الدلالة.
وبما أن عتبات العناوين، هي المنارات التي ستضيء لنا الطريق للتعرف على حقول منتوج الأديب العربي بنجلون، فسنستأنس في تعريفها بما جاء في كتاب ” عتبات”، الصادر سنة 1987، للناقد الفرنسي جيرار جنيت.
يعتبر جنيت وغالبية منظري النقد الحديث عنوان النص ومقدمته من النصوص الموازية (Paratextes) الدالة .ويشكل العنوان سلطة النص وواجهته الإعلامية، كما أنه يعيِّن مجموعَ النص ويظهر معناه.
ولعل هذا النسق التعريفي لوظيفة العنوان، يصب في ما نسعى إليه من تقصٍّ لأنواع الحقول المعرفية والأدبية التي تناولتها متون مؤلفات الكاتب العربي بنجلون، في محاولة لاستقراء إيحاءات عناوينها، واستكناه بنياتها العميقة التي تمنحها هويتها الدلالية، من أجل إحصاء منطقي وممنهج لحقولها، ومن ثمة نبحث عن إمكانية بناء تصور عام للمشروع الفكري للكاتب موضوع هذه القراءة.
في البداية سأقسم البيبليوغرافية موضوع تصنيفنا إلى محاور موضوعاتية، استنادا إلى دلالات عناوينها.
✓قضايا موضوعاتية
-المرأة : دراسة عن تحريرالمرأة عند قاسم أمين
-سؤال الكتابة في الأدب المغربي
-أسئلة الطفولة
-التدريس ( معلم – أستاذ – ثم مدرس مادتي التربية وعلم النفس بمعهد المربيات)
-جريدة الشعب المغربية سنة1969
-إصدار جريدة للطفل ( سامي )
في البداية لا بد من الإشارة إلى دور مهنة التدريس في بلورة رؤيا الكاتب لمشروعه الإنساني/ الحضاري، وقد أشار إايها في مؤلفه :
-سيرتي التعليمية
وكذلك الاستفادة من حقول تجاربه في السفر والرحلات، وكذا قراءاته ومعارفه، التي أفرزتها مؤلفاته التالية:
-تيار الوعي في الأدب المغربي المعاصر – أدب الأطفال في المغرب
– أبعاد النص (قراءة في الادب المغربي) – النص المفتوح – كتاب الطفل بالمغرب – سجالات وحوارات – سفر في أنهار الذاكرة ( سير ذاتية – سوف تليها أجزاء أخرى) – تضاريس الكتابة في الادب المغربي – المعنى والمبنى في الرواية – هندسة الكتابة.
هذا المنعطف من رحلتنا في عتبات المؤلفات، يزكي رؤيتنا هذه كون جهده التأليفي يدورفي فلك الأسئلة المعرفية، وكذا الفعل الثقافي، وهي أسس بنائية يوظفها كمفاتيح لفتح أبواب الفعل الأمبيريقي لمشروعه، ابتداء من الأم المربية الأولى، والمعلمة الأولى، دون أن نغفل أنه وجدفي رحاب المدرسة مناخا مناسبا لزرع بذرته لبناء الانسان المغربي ابتداء من تكوين التلميذ، ذلك الطفل الذي كان يجد فيه نواة المجتمع المغربي القارئ والمبدع. وعلى هذين الأسين بنى مشروع “بناء الانسان من أجل بناء الوطن”، مادا خطوه نحو الإعلام كأداة مؤثرة وفاعلة وضرورية للتواصل والنشر. وفي هذا المنحى نجده استفاد من تجربة اشتغاله بالمجال الإعلامي، سواء في مجال الصحافة الورقية كما أسلفت الإشارة، أو تجربته مع الإعلام السمعي البصري في كل من هولندا وسويسرا.
هذا الغنى في التجارب، يَعِنُّ لنا ملمح المقصدية، الذي يمكن أن يقودنا إليه تفكيك دلالات العناوين، من أجل الوقوف على مجموع مقصديات المؤلف، التي تنبني عبرها المقصدية الكبرى أو المقصدية الأم التي تمت الإشارة إليها كمشروع فكري متكامل تهدف إليه مؤلفات هذه العناوين.
ويمكن أن نحصي هذه المقصديات كالتالي:
✓مقصدية مباشرة لتثقيف الطفل:
ونستنبطنها من العناوين التالية:
-ثقافة الطفل العربي (كتابة نظرية) – قصص تربوية للأطفال
-قصص من عالم الحيوان – قصص تربوية – قصص طريفة للأطفال
✓مقصدية فنية :
-أنغام الطفولة( شعر) – الممثل ( مسرحية) – الظل والشخصية( مسرحية )
✓مقصدية متخصصة في الكتابة للطفل( ذات الملمح النفسي):
-قصص الطفل السعيد – قصص الطفل النبيه – قصص الطفل الناجح
✓مقصدية تقديم المعرفة للطفل في صياغة قصصية
-قصص الطفل الفيلسوف – قصص الخيال العلمي – قصص التكنولوجيا للأطفال – قصة المحامي الصغير – قصة المحامي الكبير – حديقة اللغة ( مجموعة قصص للأطفال) – قصص العظماء – قصص المجال.
✓مقصدية العمل الممنهج
ويجليها هذا التصنيف الذي نحن بصدده، حيث يتبدى المنهج جليا في تجانس المقاصد في تآليف العربي بنجلون، أبحاثا كانت أو إبداعا.
✓مقصدية تفعيل الهدف
تطالعنا هذه المقصدية، واضحة المعالم في عتبة:
-أبني وطني يأتي مفهوم ” التفعيل “، في عنوان “أبني وطني”، عن طريق الجملة الفعلية التي تكون وحداته، من فعل وفاعل ومفعول به، وسمات الفعل المضارع في جملة “أبني”، التي توحي بالامتداد في زمن الفعل بالإضافة إلى دلالة آنية زمن الفعل وحضوره اللحظي؛ ثم تمييز هذا العنوان بتفرده بمجيئه كبنية فعلية، بخلاف باقي العناوين التي أتت برسم الجمل الاسمية.ثم ما يوحي به كل هذا في توضيح دلالة موضوعة ” الوطن “، التي تمثل بؤرة المقصديات في مؤلفات الكاتب، حيث مشروع بناء الوطن كما يراه -وهيالقضية الكبرى التي تبشر بها مؤلفاته – يبدأببناء الانسان.
مقصدية الانفتاح على الآخر( الترجمة )
-قصص عالمية للأطفال – قصص خيالية عن الفرنسية – قصص لكل الأطفال عن الفرنسية.
تكشف عتبات مؤلفات العربي بنجلون في بعدها الإنجازي، عن استراتيجية خطه التأليفي، ومرتكزات خطابه المتضمن لمقصدية ذات أهداف معرفية مؤثرة، وتربوية محفزة؛ ذلك لأن خطابه ينطلق من مسلمات يحكمها منطق؛ أن ما يبني الانسان، المخول لبناء الأوطان بما تمثله من حضارات ومساهمات تكسبه موقعه في العالم، وموقفه منه. وهي مسلمات خلاصاتها ملزمة، حسب قناعته؛ يقول في حوار له، في سياق خطابه هذا: “إذا أردتم أن تربوا شعوبكم على الأمن والسلم والعيش المشترك، وعلى حب الأرض والوطن، والعمل بجد. وإذا أردتم أن تحاربوا كل الأمراض الاجتماعية والسلوكية التي تنخر الجسد العربي، فعليكم بتشجيعه على القراءة، وتعميق رؤاهم في الثقافة الإنسانية”
من المنعطفات التي تستوقف الباحث في أعمال العربي بنجلون، تبنيه لموضوعة التربية غير النظامية، وتخصيصه لها حيزا من جهده التأليفي، أحرز على إعجاب دولي، واعتماده من قبل عدة دول أجنبية، ومن المؤلفات التي رصعت هذا المنعطف:
– صوت من ذهب في جزءين – يد الوسيط (مجموعة قصصية) – خذ بيدي- كأن شيئا لم يكن – ارفعي صوتك
يتكامل مشروع الاديب العربي بنجلون عبر استراتيجية، برمج لها ببناء متجانس الآليات تكمل بعضها البعض، تتمفصل وتتعالق.. تنبني عبرها ومن خلالها وحدات بناء “الانسان” فكرا وسلوكا وثقافة وفنا، يوجهه منهج امبيريقي، يبني الركائز للفعل، من أجل الوصول إلى النتائج.


الكاتب : الزهرة حمودان

  

بتاريخ : 27/12/2019