من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.
في بيته الرسمي والأنيق بتواضعه، استقبلنا السيد عزيز مكوار، الديبلوماسي المحنك وصاحب السرية الثرية، تدبيريا وديبلوماسيا وإداريا وماليا، بلباقته وحديثه الدمث، بصوت رطب منخفض لا يتكشف عن أي تعال أو رغبة في التأثير. حدثنا عن جزء من تدبير ملف الصحراء في دهاليز القوة الأمريكية العظمى، وعن الرسالة التي كتبها بوش الابن للملك الراحل عن موقف أمريكا المساند للحكم الذاتي، حتى قبل أن يصبح العرض الوحيد ذي المصداقية في الديبلوماسية الأممية..
كان عشاء مغربيا، تذوقناه بتلذذ بعد أن كنا انخرطنا في الذوق الصيني منذ مجيئنا طوال أربعة أيام..
حين دقت الساعة منتصف الليل كان علينا أن نغادر، بالرغم من إلحاحه، لأننا كنا على موعد صبيحة يوم الغد الخميس مع مغادرة بيكين .. باتجاه شيامينxiamen، وهي مدينة رئيسية في مقاطعة فوجيان جنوب شرق الصين، وتطل على مضيق تايوان.
وصلنا إلى المحطة الثالثة للمطار، المنذورة للربط الداخلي. ما يلفت الانتباه هو إسناد مسؤولية الحجز والشحن في ما يخص البضائع للراكب.. والآلة، أي أن التقنية والمواطن يقومان بتسجيل البضائع وشحنها، عوض الموظفين والموظفات في المطار. فأنت تضع الجواز في مكان محدد للآلة أمامك، ومنها تطلع تذاكر البضائع، التي تقوم بلصقها ثم تشحن وتدفع حقائبك بنفسك…
ككل مرة، يقول يوسف شميرو: لن ندرك قوة ما يحصل إلا عند عودتنا إلى المغرب!
ربما وقتها سيبدو لنا هذا مثل حلم تذكرناه..
طائرة الربط الداخلي عادية للغاية. وجدت نفسي بين راكبين صينيين، غارقين في هاتفيهما.. أعود إلى قراءة أمين معلوف بعد أن أنظر إلى الخارج ولا أرى سوى السحاب..احتفظ من القراءة بموقف عشنا بعض تفاصيله في المغرب وفي الجو، هناك من يعتقد بأن إظهار الكثير من الراديكالية يمكنها أن تغلب الراديكاليين أو تسكتهم، والذين يعتبرون أن مواجهة الشعبوية تقتضي تشجيع شعبوية مضادة، هم مخطئون، فليس بإظهار الراديكالية يمكن أن تسكت الراديكاليين..
لقد انتبه المسؤولون على الرحلة في الطائرة “ايرتشينا”، الخطوط الصينية، أنهم أمام مسافرين من ثقافة أخرى. وقد جاؤونا بطعام خاص، مغاير للطعام الذي قدموه للآخرين.
وبادروا إلى منحنا وجباتنا، حسب مقاعدنا.. ويبدو أنهم اتخذوا احتياطاتهم مع مرافقينا قبل صعودنا إلى الطائرة.
واحد من الراكبين بجانبي اعتقد بأن المضيفة نسته، وبدأ في المناداة عليها… إلى أن عادت وشرحت له، فصار ينتظر دوره…
وصلنا مطار مدينة شيامن، كان البرد أقل قسوة من بيكين، وكان… مطر. يركب معنا الحافلة مسؤول عن جمعية الصحافيين لعموم الصين، يبدأ في تقديم المدينة، التي تعد اليوم وجهة سياحية داخلية وخارجية، لأن مدينة شيامن من أكثر المدن الصينية حيوية، وتعمل على التجارة والسياحة بشكل متطور..
هي أحد أهم الموانئ التجارية في جنوب الصين، وأحد المراكز التجارية الاستراتيجية في المنطقة، وتعتبر سرعة عجلة التطور في شيامن هي الأسرع مقارنة بباقي مدن الصين.
من الجانب المهني، قال مخاطبنا إن بها قناتين مهمتين، وقرابة 5 آلاف صحفي … موقعها المتميز يجعلها استراتيجية، قبالتها تايوان، وشمالها هونغ كونغ، ولهذا يقول مرافقنا كانت قبلة دول “البريكس”، التي عقدت قمة مجموعتها هنا و“البريكس”، تضم الخمس دول ذات الاقتصاديات الأسرع نموا في العالم، وهي: “الهند والبرازيل والصين وروسيا وجنوب إفريقيا”.
المطر في الطريق يخيم برماديته، شيء ما يقول إننا متشابهان في هذا الطقس، لنا ما يجمعنا بالصين، مطر على النافذة، وسماء رمادية، تبعث دفئا مبهما، في الكآبة!…
على طول الطريق، خضرة يانعة، تبدو أنها سبقت قطرات المطر، النظارة عنوان هذه المدينة المقيمة على خط التماس مع شقيقتها المتمردة تايوان..تلك التي نشأت بعد الحرب الأهلية، بين الوطنيين والشيوعيين، مباشرة بعد القضاء على العدو الخارجي… فقد فر شيانغ كاي شيك وأفراد حكومته من نانجينغ إلى تايوان وأعلن “تايبيه” عاصمة مؤقتة للبلاد، وقام شيانغ بنقل احتياطيات جمهورية الصين من الذهب معه إلى تايوان كما تبعه قرابة 2 مليون لاجئ لينضموا إلى 6 ملايين آخرين من سكان تايوان. وفي هذه الأثناء قام ماو تسي تونغ بإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية على أراضي بر الصين الرئيسي وأعلن نفسه رئيسا للبلاد…
ذلك تاريخ ما زال يرخي بظلاله على المنطقة كلها…
نسير في الطريق إلى مطبعة سويسرا بشيامين، وتلفت نظرنا الرفاهية، لا من خلال الحدائق المعلقة والمبسطة ولا من حيث نوعية السيارات التي تملأ الطرقات. عند مدخل المطبعة، طاولة تعرض الكتب الماوية، وأجندات بكل الأشكال، بما فيها تلك التي تحمل المنجل والمطرقة..نتجول، فتعود إلي روائح دار النشر المغربية بعين السبع بالدار البيضاء.
تلك الروائح المضمخة بالحبر ومواد الطباعة والبرومورbromure، عندما بدأت أولى خطوات الصحافة في أسبوعية ليبراسيون، التي ستتحول إلى يومية.
تعود إلي وجوه كل الذين عاشرتهم وشاركتهم الضحك والتعب والقرف والمفاجآت، كانت تلك الفترة في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما غادرت الناظور بكل عنفوانها، وجئت إلى البيضاء، في أحضان أسرة كريمة هي أسرة ليبراسيون وبلعباس وعهيد …
تلك الأيام نداورها بين الناس..البوبينات نفسها، لكن لا وجود لمتحف المطبعات بنفس الثراء هنا ..
هنا تاريخ الطباعة منذ 1298قبل الميلاد.
هنا الطباعة على الخشب الدائري قبل مطبعة نوتنبورغ..
هنا تمثال بيكشنغ، الذي عاش الفترة ما بين 991/1050، في ستين سنة من عمره بنى شهرة الحرب الصينية..، المطبعة تدور برأسمال يبلغ 100 مليون يوان أي قرابة 10 ملايير سنتيم …
في البيت أيضا تاريخ الجريدة التي تأسست مع الثورة، ومن أجمل ما ترسخ في ذاكرتي، صورة لعيد القراءة! حيث يتم تنظيم مهرجان كبير في ذكرى التأسيس، ينتهي بجائزة اسمها جائزة القراءة، لقراء وطلبة وتلاميذ المدينة.. البالغ عدد سكانها 4 ملايين نسمة فقط!


