حرب شديدة الارتفاع

لم يذهب إلى الحرب ليعود. كنا نراه يهز كتفيه بلامبالاة كلما أخطأته رصاصة. يكشف جزءه العلوي ويرخي بندقيته على أكياس الرمل ليدخن سيجارتين دفعة واحدة قبل أن يمسك قلم رصاص ليكتب. لم نكن نحبه، ولم يكن يأبه لذلك أو لأي أحد. نراقبه بنفاذ صبر، وكل واحد منا يعتقد أنه مجنون. كنا ننتظر أن يفقد السيطرة على نفسه في أي لحظة، ولكنه لا يفقدها أبدا، حتى حين يهرول تحت القصف. نحن نركض وهو يهرول ببطء، وينزلق بالبطء نفسه في الخندق.
حين تهوي شظية على مقربة منه يضحك ويعوي بصوت عال. يخفض سلاحه ويتكئ على ركبتيه ويتناول ورقة من جيب سترته. لا نعرف ما كان يكتبه، لكنه كان يغيب ويكمم كل شيء آخر فيه. يده فقط تعمل، كأنه يدور دورة كاملة حول نفسه ليصنع مصيره مع امرأة يطاردها. لماذا كنا نعتقد أن امرأة بعيدة تسرقه كل يوم؟
مرات كان يسحب نفسه بعيدا ويُخرج صورة امرأة ربما تحمل إليه الريح صرختها. لم نكن متأكدين تماما من أنها لامرأة. كان أحيانا ينظر إليها بحدة كأنها جمرة شيطانية، وغالبا كان يخرجها من جيبه ليضعها على الجانب الأيسر من صدره. يستلقي ويتشح بخفقة قلب واحدة.
دائما يعزل نفسه عنَّا. يصير غير مرئي. يشرب القهوة التي يعدها بنفسه وحيدا، ويأكل وحيدا، كأنه يتلمس طريقا للخروج مما نخاف نحن منه. كنا نسميه «الميت» لأنه لا يحرك ساكنا حين يبدأ الرصاص في الزعيق. يستلقي على ظهره خلف أكياس الرمل والحجارة، بينما كنا نتراص في الخندق بتحفز. يغلق عينيه ويرفع رأسه. الدخان يتجعد صاعدا فوق الرؤوس، وهو جاهز ليكون أول المصطدمين مع العدو. يأخذ سلاحه ويقف على قدميه، ولا ينظر إلى الخلف. يضغط على الزناد ويركض. ننتظر دائما أن يسقط، أن تنغرز رصاصة في عنقه الطويل، لكنه كان يسقط ويقف على قدميه المرة تلو الأخرى. يرج نفسه ويخبط فخذيه بذراعيه ويندفع باتجاه العدو. هل كان أكثرنا شجاعة أم أكثرنا يأسا؟
كنا نبتلع ريقنا ونحن نراقبه يخلع عنه كل ما يربطه بالحياة. يقفز فوق الجثث، ويتولد في عينيه توهج المصصمين على الانطفاء. لطالما كنا نراه يتعرَّق ويتسخّم لونه. يصير جزءا من هذا السواد الذي يتشح به المكان. نرى يده تهتز وتتمدد بتصميم رشيق على التلف. يضغط على الزناد ويقفز ويهرول ببطء، وأحيانا نراه يتقفَّى شيئا لا يراه سواه. يُبقي عينيه عليه ويسرح. قال لنا جندي إنه سمعه يُكلمها، يلوي عنقه ويكلمها كأنها تمشي معه جنبا إلى جنب. ربما كانت امرأة الصورة. من يدري؟.. وقال آخر إنه رآه والدموع تتفجَّر من عينيه وأنفه. كان يبطئ حركته حتى تلحق به. ربما كان يريد أن يحفظ حرارتها في ذاكرته وهو يعبر تلك الجثث. ربما كان يستعد للوثب من تلك الحرب الشديدة الارتفاع ليرشف قبلته من شفتيها. كان يمضي إليها لتمضي إليه، وكان يعود دائما إلى مكانه في الخندق، يستلقي ويكتب..
في ذلك الصباح، تَفَقَّدْناه ولم نجده. عثرنا على زيه العسكري معلقا بين عارضتين طويلتين تمتدان على جانبي الخندق. افتقدنا بسرعة ذلك الوجه الخشن، وتلك النظرة الحادة.. انتظرنا أن يعود، لكنه كان يخبرنا دائما أنه لم يأت إلى هنا ليعود. لا بد أنه عاد، لأنه لم يعد هنا. تبخر وتلاشى.. وحده ذلك المغلف الكبير الذي استحوذ عليه القائد ظل يثيرنا كما لو كان عظاما بشرية متروكة بين ممرات الجبال.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 29/01/2020

أخبار مرتبطة

  تشكل القراءة التاريخية لتجارب بعض الأعلام المؤسسة للفعل السياسي و الدبلوماسي في المغرب المستقل، لحظة فكرية يتم من خلالها

لحظة شعرية بمسيم كوني، احتضنها فضاء بيت المعتمد بن عباد بأغمات، ضمن احتفاء دار الشعر بمراكش بمرور سبع سنوات على

يقول بورخيس: “إن الفرق بين المؤلف والقارئ هو أن الكاتب يكتب ما يستطيع كتابته، بينما يقرأ القارئ ما يشاء”. فالكتابة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *