الوجه المزدوج للعالم الافتراضي

 

على الرغم من أن تاريخ الإنترنيت وما صاحبه من تقنيات تواصل وإعلام حديث العهد في استعماله الشعبي في ربع القرن الأخير، فإننا نلمس بأن هذا التاريخ ينقسم إلى حقبة “الانبهار الجماهيري” به وكل ما يسمح به على كل مستويات الحياة الفردية والجماعية. تلته حقبة اكتشف المرء فيها الجوانب السلبية، ومنها ما هو خطير جدا على الأفراد والمجتمعات، وأصبح سلوك الناس اتجاه العالم الرقمي/الإفتراضي يتسم بالتجاذب: فهو محبوب ومنبوذ في نفس الوقت، ولربما يعتبر هذا الأمر من أخطر مشاكله على الإطلاق؛ لأنه بقدر ما يجذب فإنه أيضا يُنفِّر، وهذا ما يُشكل عموما ما يمكن تسميته مجازا بـ”تمزيق الإنسان”، وهو تمزُّق يقبع وراء كل مظاهر الإدمان على العالم الافتراضي، التي لا تقل أهمية عن إدمان مخدر ما، وهو ما يُصطلح عليه الإدمان دون مادة معينة.
كثرت الدراسات حول الإنترنيت والتقنيات الحديثة للتواصل في العقد الأخير بكثافة وفي كل ربوع المعمورة تقريبا، لم تستثن الدول العربية، حتى وإن كانت دراسات وبحوث في مهدها، لم ترق بعد إلى مستوى دراسات أكاديمية بكل معايير المفهوم. وإلى جانب هذه الدراسات الموثقة في كتب ومراجع، هناك دراسات أخرى تُنشر نتائجها بانتظام في مجلات متخصصة أو مقالات، وهي أيضا على المستوى العالمي، بما في ذلك العالم العربي الإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الدراسات هي بمثابة أحكام “قاسية” على النتائج السلبية للإنترنيت وكل ما نما من حواليه من تقنيات إلكترونية. وتكفي نظرة خاطفة على عناوين بعض الدراسات للبرهنة على قولنا هذا: “الجانب المظلم لوسائل التواصل الاجتماعي: كيف تؤثر على الأفراد وعلى حياتنا الخاصة”، “الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي والتأثير السلبي على اللغة”، “منصات التواصل الاجتماعي تؤثر سلبًا على العلاقات الرومانسية”، “باراك أوباما يشن هجوما على تكنولوجيا العصر”، “وسائل التواصل الاجتماعي تعرض الأطفال والمراهقين للتنمر”، “صناعة التفاهة :الميديقراطية القذرة”، “أسوأ ما تُسببه لنا السوشيال ميديا”، “الإمارات تستعد لافتتاح أول عيادة لعلاج إدمان الألعاب الإلكترونية”.
لكن لماذا كل هذا “الحقد” على الإنترنيت والعوالم الافتراضية؟ أهو استيقاظ وعي البشرية وملاحظتها بأن الوقت لربما فات لترميم ما أفسدته الرقمنة؟ ففلانير، مثلا، الذي يُعتبر بحق أب “الواقع الافتراضي” ومعلوماتي محترف عبر عن هيبته من تقدم الذكاء الاصطناعي، لأسباب لا حصر لها، ومنها بالخصوص إضعاف مفهوم الإنسانية، بسبب إفقار الميدان الثقافي، والقضاء على الطبقة المتوسطة في الغرب وإحلال التفرقة. بعبارة أوضح، إنه يؤكد على أن قيمة الإنسان كإنسان وكذات عاقلة ووجدانية تقل أكثر وأكثر بالمقارنة مع جهاز الحاسوب، ويتم ذلك بتشبيهنا للآلة الذكية بالإنسان، ولربما العكس هو الصحيح حاليا: يُقال في أحاديثنا العامة عن فلان بأنه كحاسوب، وبهذا يُصبح هذا الأخير فوق الإنسان. أوصل زمن انقلاب الأمور وأصبح الإنسان في خدمة ما يخترعه من تقنيات وأدوات سيطرة عوض أن يكون العكس؟ وبكل هذه الأسئلة، ألا نعطي العالم الإفتراضي وتقنيات التواصل الاجتماعي والتقنيات الناتجة عن الرقمنة أكبر مما تستحقه من جهة ونُشَيطِنها من جهة أخرى؟ قد يكون هذا صحيح، أو يتضمن بعض الصحة، لكن ما لا جدال فيه هو أن المرء بَوَأَ التقنية والإنترنيت وكل ما له صله بهما مركزا قد نسميه مكانة “الصنم”. فقد أصبحا صنما مزدوجا أو بوجهين، واحد منهما خَيِّر والآخر كله شر على الإنسان. يُعبدان بطريقة لاواعية، ويؤمن المرء بقدراتهما “الخارقة”، سواء خيرا أو شرا، ويعتقد بأن الآتي أعظم. ما هو أكيد أيضا، إذا استمر الأمر على هذا الحال، هو أن الإنسان سيخضع إلى ديكتاتورية تقنية لم يسبق لها مثيل في تاريخه، قوامها آلات وتقنيات وبرامج ولوغاريتمات إلخ. وإذا كان من الصعب بمكان حاليا المقاومة ضد بعض المظاهر السلبية للعالم الإفتراضي والإنترنيت، فما بالك عندما يصبح الديكتاتور آلة تُسير الإنسان؟
صدر عام 2011 بمدينة ميونيخ الألمانية كتاب “الإنسان اللامحدود” لصاحبه راينر فونك، وهو ليس تقييما لا ماديا ولا معنويا لهذين الوجهين المختلفين للحاسوب وتقنياته والإنترنيت وعالمها، ولا صرخة استغاثة لإيجاد حلول لمشاكل العصر الرقمي وإنقاذ الإنسانية من خطر فنائها، بل هو في المقام الأول بحث سيكولوجي، بمنهج التحليل النفسي، للآثار النفسية للتقنية الرقمية والعوالم الإفتراضية على الإنسان. والبحث مستوحى من الواقع الفعلي لأناس من لحم ودم، كانوا يُعالجون لمدة طويلة في عيادة فونك نفسه بمدينة توبينغن الألمانية. بمعنى أنه عبارة عن تأمل لحالات من الواقع الميداني للمؤلف. كما أنه ربط بين تحليلاته وبعض الدراسات السوسيولوجية في الميدان، وهذا ما أعطى الكتاب نكهة سيكو-اجتماعية أيضا، تعتبر قيمة مضافة له.
يمكن القول بصفة عامة بأن موضوع الكتاب هو التحليل النفسي-الاجتماعي للإنسان الافتراضي في أكثر تجلياته وتمظهراته الواعية واللاواعية. وهو إلى ذلك في استنتاجاته مصباح يساعد على فهم الإنسان المعاصر في جانبه المعرفي والوجداني وسلوكه الاجتماعي وعيشه مع الآخرين. لا يُشير راينر فونك بالأصبع إلى أي كان ويحمله مسؤولية ما، بل يركز على تبيان و”تشريح” نفس الإنسان الحالي، ليتسنى للأفراد والجماعات والمجموعات البشرية تحمل مسؤوليتها بنفسها في تقرير مصيرها في الكون ومكانها فيه. وتعتبر دراسة فونك هذه، بهذه الطريقة -بالمنهج التحليل النفسي- فريدة من نوعها حاليا. فحسب علمنا، لم يسبق أي باحث آخر لمثل هذا البحث.
سيكون جميلا لو تم إشعال فتيل الوعي عند كل من يتكلم لغة الضاد في وقتنا الحاضر، لتأمل الوضع الراهن لما وصل إليه الإستغلال الفاحش للتقنيات الرقمية لاستتبات الديكتاتوريات السياسية والترويج للإيديولوجيات الدينية المتناقضة، الراكبة على الإسلام كحصان حرب، وفهم ما وصل إليه المواطن العربي من تشرذم ذاتي وسقوطه في مستنقعات وجودية لا حصر لها، تُبعده يوميا عن نفسه وعن بني قومه، وتأثير كل هذا على حياتنا في بيئة لغوية وعقائدية وأخلاقية مشتركة. كباقي المنتوجات التقنية الأخرى، نستهلك في العالم العربي المنتوجات الافتراضية “المصنوعة” في “معامل افتراضية” بمساعدة حاسوب وتقنيات رقمية لا حصر لها، دون تمييز بين الغث والثمين لما نستهلكه، ودون المساهمة في هذه الصناعة. بل نتوغل أكثر وأكثر في إدماننا على عوالم رقمية تبعدنا عن الواقع الفعلي، نقوم بثوراتنا من خلف شاشات أجهزتنا الرقمية، ونهاجم بعضنا البعض بسبب ودون سبب، نشتغل على تضخيم أَنَانَا وحشوه بكل ما لا يمت بصلة لهويتنا الذاتية، نخلق عوالم خيالية بكاميرات هواتفنا ونلعب دور كاتب السيناريو والمخرج والكاميرامان وتقني التركيب والناقد، و”نتمرغد” في تراب أَنَانِيَتَنا حتى النخاع الشوكي، وإذا حصل أن انتبهنا مرة، نجد خزائن خيراتنا قد نهبت وحقوقنا هُضمت وهويتنا سلبت ونحن في “دار غفلون”. فعيش الثورة والتغيير افتراضيا في ركن من أركان البيت، أهون وأسهل وأعذب من ممارستها في الشارع العام مع آخرين، لأن ذلك لا يقود لا لزنازن ولا معتقلات ولا قطع الأرقاب.

هامش:

1على سبيل المثال لا الحصر: سامي عبد الرؤوف، الإنترنت في العالم العربي: دراسة ميدانية على عينة من الشباب العربي، المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، عدد 4، 2000. معتصم زكي، الشاشة الصغيرة وأثرها في سلوكيات الأطفال، مجلة التربية، العدد 154، السنة الرابعة والثلاثون، اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم، قطر، 2005. المشكلات الاجتماعية داخل المجتمع العربي (السلوك المدرسي- الزواج العرفي- الطلاق- الانحراف الجنسي- إدمان الإنترنت)، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، الطبعة 1، 2013. محمد بن صالح الخليفي، تأثير الإنترنت في المجتمع: دراسة ميدانية»، عالم الكتب، المجلد 22، العددان 5 و 6، ص469- 502. حلمي ساري، ثقافة الإنترنت دراسة في التواصل
الاجتماعي، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2005. شعاع اليوسف، التقنيات الحديثة فوائد وأضرار دراسة التأثيرات السلبية على صحة الفرد، كتاب الأمة- قطر، العدد 112، السنة السادسة والعشرون، الطبعة الأولى، 2006. د. بهاء الدين محمد مزيد، «المجتمعات الافتراضية بديلاً للمجتمعات الواقعية/ كتاب الوجوه نموذجاً»، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2012.
2- بؤس الإنسانية الرقمي والحكمة العمياء – ترجمة: رقية الكمالي.


الكاتب : د. حميد لشهب(النمسا)

  

بتاريخ : 07/02/2020