نقلهم موضوع جدل حول الاختصاص، وظروف الاستقبال، الإيواء، الموارد البشرية والأدوية.. أعطاب تعمق الجراح : المرضى النفسانيون والعقليون «لهب» تتقاذف «كرته» المصالح المختصة «تملّصا» من المسؤولية

مشهد المختلين عقليا، في ملتقيات الشوارع والناصيات وفي مختلف الطرقات، لم يعد استثنائيا، وتواجدهم فيها ليس بالحدث العابر أو الظرفي، لدرجة أنهم باتوا يشكلون جزءا من الفضاء العام المشترك في العديد من المناطق، وبلغت موجة «التطبيع» مع حضورهم مستويات عالية، حتى أن البعض بات يمرّ بمحاذاتهم دون توجّس أو وجل مما قد يترتب عن أية ردة فعل مباغثة، قد يكون لها ما بعدها؟
مصابون بأمراض نفسية وعقلية، بعضهم معروفة أوساطه الأسرية وهوّيته، في المناطق «الضيّقة» والبعض الآخر يُجهل من يكون ومن أين أتى. منهم المألوفة وجوههم، ومنهم الذين يستفيقون صبيحة يوم وقد اختلت موازين عقولهم، أو أصاب العطب نفسيتهم، في غفلة من الجميع، قد يقدمون نتيجة لذلك على محاولة انتحار أو يعرّضون الغير للأذى، أو قد يدخلون في موجة من الهيجان والصراخ الهستيري، بشكل يصعب التحكم فيه، وهو ما يفرض نقلهم صوب مؤسسة صحية مختصة من أجل تلقي العلاج، الذي قد يكون ظرفيا وقد يتطلب استشفاء ومتابعة، الأمر الذي لا يكون متوفرا لجميع المرضى وأسرهم، بسبب جملة من الإكراهات، هاته الأخيرة التي تظل مجرد مصطلحات وعبارات، وتبقى بدون معنى لأنها لن تفيد أمام طبيعة الحالة المرضية، المفتوحة على أسوأ العواقب والاحتمالات…

 

سبق للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، أن قدّم تقريرا قاتما سنة 2012، حول واقع الصحة العقلية في المغرب ووضعية المؤسسات الاستشفائية المكلفة بالوقاية منها ومعالجتها، والذي حمل عنوان «الصحة العقلية وحقوق الإنسان: الحاجة الملحة لسياسة جديدة»، وذلك بالتأسيس على ما وثقه فريق العمل المكلّف برصد انتهاكات حقوق الإنسان وحمايتها الذي أنيطت به مهمة البحث والتقصي حول واقع الصحة العقلية في المغرب، حيث تم القيام بزيارات ميدانية لـ 20 مؤسسة/مصلحة للأمراض العقلية، مع دراسة القوانين ذات الصلة وتحليلها على مدى ستة أشهر. فما هي أبرز الاختلالات التي وقف عندها التقرير، وما الذي تغيّر اليوم، وهل أصبح المريض النفسي والعقلي في المغرب محتضنا في المؤسسات الاستشفائية العمومية وبات الولوج إليها بدون تعقيدات؟
أعطاب «حقوق الإنسان»
شكّل تقديم تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان آنذاك، فرصة لاكتشاف خبايا موضوع الصحة العقلية في المغرب، وكان رئيس المجلس حينها ادريس اليزمي، قد كشف على أن هناك مجموعة من الأعطاب المرتبطة بهذا الموضوع، ومنها تقادم مقتضيات الظهير الصادر في 30 أبريل 1959 المتعلق بالصحة العقلية، والحالة المزرية التي توجد عليها غالبية المؤسسات الاستشفائية، من حيث هندستها وبناياتها وتجهيزاتها ومرافقها الصحية، وعدم مراعاة شروط المراقبة والسلامة وضعف أو غياب الصيانة، والخصاص في الطاقة الإيوائية لهذه المؤسسات، وعدم تكافؤ توزيعها الجغرافي، والنقص المهول في عدد الأطباء والممرضين والممرضات، والافتقار إلى فئات مهنية مفيدة وضرورية في مجال الصحة العقلية، وضعف جودة الخدمات الطبية وغير الطبية المقدمة في غالبية مؤسسات ومرافق الصحة العقلية، وكذا غياب آليات المراقبة وعدم فاعليتها وعدم احترام المساطر، بالإضافة إلى تعرض المرضى العقليين للوصم والإقصاء وضعف التكفل الصحي بهم.
وكان التقرير الذي وقف عند جملة من الأعطاب، التي عمل على تسميتها بمسمّياتها، وفقا لكل حالة على حدة، بما في ذلك الفئات الهشة التي تحتاج إلى اهتمام خاص وعناية طبية تستجيب لظروفها وخصوصياتها، مثل النساء والأطفال والمسنين والمدمنين على المخدرات، قد قدّم عددا من التوصيات الهامة، من أجل تحسين ظروف عيش الأشخاص المصابين والنهوض بمجال الصحة العقلية بصفة عامة، من خلال جملة من التدابير، ومن بينها تغيير قانون «الوقاية من الأمراض العقلية ومعالجتها وحماية المرضى المصابين بها»، الذي لم يطرأ عليه أي تعديل منذ إصداره في 30 أبريل 1959، بشكل جذري ووفق مقاربة تشاركية واسعة، وسنّ نظام أساسي خاص بالممرضات والممرضين المختصين في الأمراض العقلية، ووضع سياسة شاملة ومتكاملة للصحة العقلية، تضمن انخراط جميع مكونات المجتمع والفاعلين والمعنيين والمهتمين في وضع خطوطها العريضة ورسم معالمها.

اختلالات نفسية
تؤكد نتائج البحث الوطني حول الصحة النفسية للسكان ( 2003 – 2006 )، أن 48.9 في المئة من الفئة التي تبلغ من العمر 15 سنة فما فوق، قد عرفت على الأقل اضطرابا نفسانيا في حياتها، وبأن الاكتئاب يصيب 26.5 في المئة من المغاربة، أي ما يعادل 5 ملايين و533 مغربيا، بينما يعاني 200 ألف من اضطراب انفصامي، ويشكو 3 في المئة من مرض نفسي نتيجة للإفراط في تناول المخدرات، و2.8 مصابون بالإدمان عليها، في حين أن 2 في المئة هم مرضى نفسيون بسبب شرب الكحول بشكل غير سوي، و1.4 في المئة مدمنون على الخمر، وهي العوامل التي تؤدي إلى رفع مؤشرات هاته الأمراض في أوساط المغاربة، والتي تتفاقم حدتها يوما عن يوم.
وكان بحث ميداني  قد أجري من طرف وزارة الصحة وأشرف عليه خبراء في مجال الصحة النفسية والعقلية، قد بيّن أن حوالي 48 في المئة من المغاربة يعانون من اضطرابات نفسية تتوزع ما بين الاكتئاب والفصام والإدمان. هذا البحث الذي همّ عينة من المواطنين من 15 سنة فما فوق، تحت إسم « ENPTM 2003  2006 «، حيث تصدّر الاكتئاب قائمة الأمراض النفسية التي أصابت المغاربة من الجنسين، الذي يعاني منه 26.5 في المئة من المصابين باضطرابات نفسية، بينما تراوحت نسبة الفصام ما بين 0.5 و 1 بالمئة من المواطنين، وهو ما يقارب حوالي 200 ألف مغربي ومغربية، الذين يبلغون من العمر 15 سنة فما فوق، هذا في الوقت الذي بينت نتائج نفس البحث أن 70 في المئة من هاته الحالات تتطلب قضاء فترة محددة للعلاج بالمستشفى، أي ما يعادل 140 ألف مواطن؟
أمراض نفسية وعقلية، ساهم في الرفع من حدتها ودرجات المراضة فيها، نمط العيش، الضغوط اليومية، وعدد من الممارسات غير الصحية من قبيل الإدمان على الكحول، حيث أوضح البحث أن هناك حوالي 300 ألف مغربي مدمن على الخمور، وحوالي 600 ألف مغربي مدمنون على المخدرات.

مشروع قانون معلّق
انتظر المهتمون بالشأن الصحي والفاعلون في مجال حقوق الإنسان، بعد التقرير القاتم للمجلس الوطني، أن يتم الانكباب على معالجة الاختلالات التي تمت الإشارة إليها، واستبشر الكلّ خيرا، بعد أن أقدمت وزارة الصحة على إعداد مذكرة حول تقديم مشروع قانون رقم 71.13، المتعلق بمكافحة الاضطرابات العقلية وبحماية حقوق الأشخاص المصابين بها، والتي جاءت استمرارا لمصادقة مجلس الحكومة، في 02 يوليوز 2015، على مشروع قانون في هذا الصدد، الذي تضمن مراجعة شاملة للظهير الشريف رقم 295-58-1 الصادر في 30 أبريل 1959، الذي حتّمت الضرورة مراجعته وإعداد قانون جديد بشكل يغطي جميع الأنشطة التي تقوم بها ويطوّر أجهزة و طرق تسييرها.
مشروع قانون تكوّن من 110 مواد موزعة على 7 أقسام، تضمّن القسم الثالث منها عددا من المستجدات، تتمثل في إحداث لجنة وطنية للصحة العقلية تحت اسم «اللجنة الوطنية»، تتولى المساهمة في إعداد السياسات والاستراتيجيات الوطنية المتعلقة بالصحة العقلية، وإعداد تقرير سنوي حول واقع وتطور الصحة العقلية وحول ظروف علاج المرضى، إضافة إلى إحداث لجنة جهوية للصحة العقلية بكل جهة من جهات المملكة، تتولى مراقبة شروط علاج المرضى، خاصة أثناء إقامتهم بالمؤسسات الاستشفائية للصحة العقلية، والبت في الطعون والشكايات الموجهة إليها من المرضى أو من أقاربهم، إلى جانب تقديم تقرير سنوي عن أعمالها للجنة الوطنية.
مستجدات شملت كذلك القسم الرابع المتعلق بمكافحة الاضطرابات العقلية، وكذا على مستوى أعمال الوقاية والتشخيص والعلاج وإعادة التأهيل وإعادة الإدماج، وهي المهام الموكولة إلى المؤسسات الاستشفائية للصحة العقلية، العيادات الخاصة للأمراض العقلية والمراكز العمومية أو الخاصة المتخصصة في التكفل بصنف من أصناف الاضطرابات العقلية، أو بفئة من فئات الأشخاص المصابين بها، ومؤسسات إعادة التأهيل وإعادة الإدماج الاجتماعي، إضافة إلى المراكز الصحية والوحدات الطبية المتحركة التابعة لشبكة مؤسسات الرعاية الصحية الأولية. أما على مستوى القسم الخامس، فقد تم تحديد الجوانب المتعلقة بأنماط التكفل بالأشخاص المصابين باضطرابات عقلية، وفق أربعة أنماط، هي نمط العلاجات الخارجية، الاستشفاء، التتبع الطبي الإجباري الخارجي، ونمط إعادة التأهيل وإعادة الإدماج الاجتماعي، كما تم التركيز على نمط الاستشفاء بالمؤسسات الاستشفائية للصحة العقلية الذي يكون إما استشفاء إراديا أو استشفاء لا إراديا وفق أحكام النص، في حين أنه بالنسبة للاستشفاء اللاإرادي، فيتطرق النص لأحكام قبول المريض ومقتضيات التتبع الطبي الإجباري الخارجي وسبل إعادة التأهيل، كما يضمن حقوق المرضى وشروط التكفل بهم، بينما جاء القسم السادس بمستجدات لضمان حقوق الأشخاص المصابين باضطرابات عقلية، إذ حدد الأشخاص المؤهلين للبحث عن المخالفات ومعاينتها، كما ضبط العقوبات الناتجة عن مخالفة أحكام هذا النص.
مشروع قانون ظل مجرد حبر على ورق، واختفى عن الأنظار والأسماع، خاصة حين تم تسليط الضوء على الرؤية الجنائية الواردة في المواد ما بين 83 و 107، ذات الحمولة التي طغت عليها نفحة العقاب الزجري، حتى في حالات الإغفال نتيجة لسهو ما، على اعتبار أن جميع الأخطاء/الهفوات أضحت جرائم.. وبالتالي تم الإجهاز على الأخطاء المهنية والتعامل معها على أساس أنها أفعال إجرامية يعاقب عليها بغرامات مادية وعقوبات سالبة للحرية.
مشروع أدى «اختفاؤه» إلى ترك المجال مفتوحا على مصراعيه في هذا المجال، وجعل الكثير من الأسئلة تتناسل بخصوص المغزى من القبول باستمرار الوضع الأليم لواقع الصحة النفسية والعقلية في المغرب بالكيفية الذي هو عليها اليوم؟
خصاص الموارد البشرية

يشكّل الخصاص الكبير في الموارد البشرية المختصة أحد أضلع أعطاب الصحة العقلية والنفسية في المغرب، سواء تعلّق الأمر بالموارد البشرية الطبية أو التمريضية أو الأخصائيين النفسيين، بالنظر إلى أن عدد الأطباء النفسانيين بالقطاعين العام والخاص، لا يتجاوز 290 طبيبا، أي بمعدل 0.85 طبيب لكل 100 ألف نسمة، وفقا لتصريح رسمي لوزير الصحة السابق، الذي أوضح أن عدد الأطباء النفسانيين المختصين في الأطفال، لا يتجاوزون 5 أطباء بالقطاع العام، أما الممرضون النفسانيون، فعددهم بالقطاع العام محدد في 1069 ممرضا بمعدل 3.36 ممرضا لكل 100 ألف نسمة.
معطيات رقمية رسمية لوزارة الصحة، ينضاف إليها ما هو مسجّل على أرض الواقع، حيث يتبيّن كذلك على أن عددا قليلا من المختصين النفسيين الذين يشتغلون بالمصالح الخاصة بالصحة النفسية في غياب تخصصات أخرى بهذه المستشفيات، كما هو الحال بالنسبة لـ Les psychoeducateurs ـ Les ergothérapeute ، والاقتصار على نهج المقاربة الدوائية فقط للمرض النفسي، عوض اعتماد مقاربة شمولية التي تخص المواكبة والمصاحبة النفسية والتأهيل الاجتماعي وإدماج المريض، في ظل وجود نموذجين اثنين لا غير، للمركز الطبي النفسي الاجتماعي، بكل من مديونة ومولاي رشيد، علما بأن المنظومة الصحية، وبحسب خبراء ومتخصصين، لا تساهم في تكوين وتشغيل المعالجين النفسيين psychologue ، ممّا يكرس نهج المقاربة الأحادية /الدوائية، التي أبانت عن قصورها وعدم نجاعتها.
بنيات متهالكة

واقع الصحة النفسية والعقلية في المغرب، يؤكد على أن تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وعلى أن ملاحظات المختصين، وشكايات الفاعلين والمهتمين، وآلام المرضى والمقرّبين، لم تجد آذانا صاغية لحدّ الساعة، ولم يتم تقديم أجوبة عنها بحجم الأسئلة المطروحة، وهو ما تعكسه البنيات الاستشفائية كذلك، خاصة بعد إغلاق «بويا عمر»، الذي م الترويج له على انه إنجاز، والحال أن التدابير المصاحبة والمواكبة لهذه الخطوة لم يتم تفعيلها، وفي هذا الصدد، رصدت «الاتحاد الاشتراكي»، بعض أوجه القصور في عدد من المؤسسات العمومية الخاصة بالصحة النفسية والعقلية، كما هو الحال بالنسبة لتطوان، فمستشفى الرازي وللسنة الرابعة على التوالي هو بدون مدير فعلي، ولا يتوفر إلا على طبيب واحد، وغرفة واحدة للعزل بمستعجلاته، علما بأنه يستقبل مرضى تطوان والمضيق والفنيدق ومرتيل وواد لاو، إضافة إلى وزان والشاون، ويتوفر على جناحين، الأول للنساء بطاقة سريرية تتراوح ما بين 18 و 20 سريريا، أخذا بعين الاعتبار أن هناك حوالي 7 نساء متخلى عنهن تقمن به منذ سنوات، في حين أن جناح الرجال يتوفر على طاقة استيعابية تصل إلى 50 مريضا، والحال أنه خلال فترة الصيف وعند كل زيارة ملكية، يصل عدد النزلاء فيه إلى حوالي 140 نزيلا؟
وفي مصلحة الأمراض النفسية والعقلية بالمستشفى الإقليمي مولاي اسماعيل في مكناس، هناك 53 سريرا، 16 للنساء في جناح يضم غرفتين للعزل، و 37 للرجال بجناح يحتضن 3 غرف للعزل، في حين تتوفر طبيبة واحدة، هذا في الوقت الذي ذهبت فيه الأخرى في عطلة للولادة متم شهر يناير الفارط، وهي المصلحة التي تستقبل 6 مرضى كمعدل يومي، ويأتيها المصابون بعلل نفسية وعقلية كذلك من إفران وأزرو وسيدي قاسم والحاجب وغيرها.
المصلحة 36

تعتبر مصلحة الأمراض النفسية والعقلية بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد من أشهر المصالح المختصة في هذا المجال، وتعرف إقبالا كبيرا عليها، وضغطا مكثفا، يجعلها لا تستطيع الإجابة عن كل الاحتياجات وتلبية كل الطلبات، إذ تشدد مصادر الجريدة على أن 60 في المئة من الحالات الواردة عليها يمكن التكفل بها في مستشفيات أخرى، لكن وبكل أسف يتم توجيهها صوبها، فتصطدم أسرة المريض بواقع الاكتظاظ، وتدخل في دوامة من التيه في طوافها بين المستشفيات، وقد لا تحقق مبتغاها وتعود أدراجها خائبة في نهاية المطاف.
تتوفر مستعجلات المصلحة على 4 غرف للعزل، مخصصة للرجال والنساء على حدّ سواء، للتعامل مع الحالات الصعبة التي تصل إلى المستشفى، الذي توجد به مصلحة للرجال مغلقة، تخصّ المرضى الذين يوجدون في درجة خطوة أقلّ ويتفاعلون مع الدواء لكن وضعيتهم تكون غير مستقرة، وتتوفر على 37 سريريا، في حين أن جناح الرجال المفتوح، الذي يحتضن المرضى الذين يوجدون في حالة استقرار صحي ويتمتعون بهامش أوسع من الحرية، فيتوفر على 38 سريرا، أما جناح النساء فطاقته السريرية تقدّر بـ 18 سريرا.
مصلحة تعيش ضغطا، ومهنيوها يعانون من عدد من التداعيات، على رأسها قلّة أعداد حرّاس الأمن الخاص، وحتمية التعامل مع حالات مرضية خطيرة جدا، والتعرض لإصابات وحوادث مختلفة أثناء القيام بالمهام، سواء في علاقة ببعض المرضى، أو التعامل الذي قد يصدر عن بعض الأسر، في بعض الحالات، علما بأن هذه المصلحة تستقبل معدّلا يوميا للمرضى يتراوح ما بين 30 و 50 مريضا، من الدارالبيضاء ونواحيها، رغم وجود مستشفى برشيد وتيط مليل، ومصالح بمستشفيات كمستشفى بوافي.

بني ملال .. لا جناح للنساء

إذا كان عدد الأسرّة في المصالح والمستشفيات الخاصة بأمراض الصحة النفسية والعقلية، هو أقلّ مقارنة بأسرّة الرجال، فإن بني ملال تشكل استثناء، لأن فيها تمييز سلبي، يرفع من درجة معاناة المريضات وأسرهن، بحكم عدم وجود جناح خاص بالنساء، فالمصلحة التي تم إحداثها في المستشفى الجهوي في 8 ماي 2008، تتوفر على جناحين اثنين، بطاقة استيعابية تقدر بـ 46 سريرا، جناح للرجال تحت إشراف ممرضين، وجناح ثان مخصص لنزلاء «بويا عمر» تحت إشراف ممرضات، بينما لا يتجاوز عدد الأطباء طبيبن اثنين، وما على النساء المريضات إلا البحث لهن عن سرير بخنيفرة أو برشيد أو مراكش؟
يتذكر سكان منطقة قصبة تادلة، واقعة محاولة إلقاء شابة لنفسها من «القنطرة الجديدة» في 2016، فتم نقل المريضة صوب المستشفى المحلي مولاي اسماعيل، ومن هناك نحو المستشفى الجهوي لبني ملال، لتمكينها من العلاج في جناح الأمراض العقلية، إلا أنه وأمام عدم تخصيص أسرّة للإناث، فقد تم تحويل الوجهة هذه المرّة صوب مراكش، لكن دون تحقيق الهدف المنشود، فتم إرجاعها مرّة أخرى إلى مستشفى مولاي اسماعيل، وهناك شدّد الطبيب الذي فحصها على أنه يجب إيوائها بمصلحة مختصة لمدة 3 أيام على الأقل، فتم نقلها مرة أخرى إلى مستشفى الرازي للطب النفسي في برشيد، وأمام هذا الوضع ونظرا لوضعية الاكتظاظ، قررت والدتها التكفل بها وتحمل مسؤولية رعايتها، والتزمت بالتقيد بالوصفة الطبية ومنح فلذة كبدها الأدوية في الأوقات وبالجرعات المنصوص عليها، فتمت إعادتها هذه المرة نحو بيت الأسرة!
نقل المرضى .. الداء الكبير

واقعة قصبة تادلة، ليست سوى حالة من مجموعة من الحالات الكثيرة، التي تؤدي إلى التخلي عن المرضى النفسانيين والعقليين في الشوارع، وتركهم يهيمون في أرض الله الواسعة، عرضة وغيرهم للأذى المحتمل في كل وقت وحين، لأن مسطرة نقلهم صوب المؤسسات الصحية المعنية، والحفاظ على سلامتهم وعلى الأمن العام، الذي هو من صميم مهام وأدوار السلطة المحلية والأمن والدرك، تعترضها العديد من العراقيل، القانونية والبشرية واللوجستيكية، في ظل غياب سيارات إسعاف خاصة بهذه الفئة من المرضى، ومتدخّلين مكونّين للتعامل مع الحالات المرضية، سواء التي تكون في وضعية هيجان وعنف أو «العادية»، والالتجاء إلى سيارات الجماعات الترابية، في المدن وخاصة في القرى، مع ضرورة تحمّل الأسر لكلفة التنقل، الذي يمتد لمئات الكيلومترات في المداشر والجبال، والذي قد يتطلّب الطواف بمجموعة من المؤسسات الصحية، والعودة بخفّي حنين، إذا لم تكن الإحالة مبنية على تعليمات النيابة العامة، التي تقضي بإجبارية استقبال المريض، والتكفل به، مما يفسح الباب للاجتهاد، في باب القبول أو الرفض.
مرضى قد تنقلهم بعض وحدات المساعدة الاجتماعية في مناطق، وهي تجربة معدودة على رؤوس الأصابع، بناء على تدخل من السلطات المحلية، أو قد تكون مبادرة من المصالح الأمنية كما في شمال المملكة، نتيجة لإزعاج عام وخطر محتمل، أو بتوجيه من النيابة العامة، بالنسبة لأشخاص قد يكونون موضوع متابعة، وحتى بالنسبة لغيرهم، وهناك حالات قد تظهر في بعض الرحلات فيتم جلبها من المطارات، أو عن طريق سيارات الإسعاف الخاصة بناء على تدخل من عائلاتهم، إلا أن عملية النقل، لا تتم دوما بالسلاسة، ولا تحقق الهدف المنشود منها في كل مرة؟
الوقاية المدنية .. الأمن .. الدرك …

يعاين الجميع كيف تجوب سيارات الوقاية المدنية شوارع المملكة، وتتدخل من أجل نقل المصابين في حوادث السير والغرق ومحاولات الانتحار والانهيارات وغيرها، فهل تتدخل لنقل المصابين بأمراض نفسية وعقلية، وإذا كان الجواب بالنفي فما الذي يجعلها لا تقوم بهذه المهمة، وهل هي من اختصاص جهة أخرى غيرها، رغم خطّ التماس مع الصحة وإنقاذ حياة المواطنين، الذي من المفروض أن يشكّل أحد رهاناتها؟
تشير إحدى الوثائق الرسمية التي تتوفر «الاتحاد الاشتراكي» على نسخة منها، المؤرخة في 16 أبريل 2001، الموقعة من مدير الوقاية المدنية بتفويض من وزير الداخلية، على أن المذكرة الوزارية عدد 3579 بتاريخ 25.12.1996، الموجهة إلى عمال العمالات والأقاليم، تشير إلى أن نقل المصابين والجرحى على إثر حوادث السير من مكان الحادث إلى أقرب مستشفى يتم عن طريق سيارة إسعاف الوقاية المدنية، أما نقل الموتى والجثث فهو من اختصاص البلديات داخل المدار الحضري، ووزارة الصحة خارج هذا المدار، نظرا لما تتوفر عليه هاتان المصلحتان، مكتب الصحة البلدي ومصلحة الإسعافات الإقليمية، من وسائل المراقبة الطبية لمختلف الحالات، ومعالجة سيارات نقل الجثث بالمبيدات الخاصة ضد الأمراض المعدية.
وشددت مراسلة الوقاية المدنية على أن ضبط ونقل المختلين عقليا، يوضحه الظهير الشريف رقم 1.58.295 بتاريخ 21 شوال 1378 الموافق لـ 30 أبريل 1959، الذي يشير فقط إلى وقاية ومعالجة الأشخاص المختلين عقليا وحمايتهم، كما هو الشأن بالنسبة للمذكرة المشتركة بين وزيري الداخلية والصحة عدد 259 بتاريخ 29 دجنبر 1986، مبرزة أنه اعتبارا لكون مرافق الإغاثة ومكافحة الحريق قبل نقلها إلى الدولة سنة 1984، كانت تابعة للجماعات المحلية، تم إسناد بعض المهام لرجال المطافئ التي لم تكن من اختصاصهم، ومن بينها نقل الأشخاص المختلين عقليا، وذلك نظرا لكون سيارات الإسعاف ونقل الأموات كانت تحت تصرفهم آنذاك، وهذا لا يعني أن مصالح الوقاية المدنية ملزمة بنقل هؤلاء «المختلين».
وأوضحت مراسلة مدير الوقاية المدنية آنذاك، أنه إذا اقتضت الضرورة تدخل رجال الوقاية المدنية لضبط شخص مختل فإن ذلك لا يتم إلا بإذن إداري وبمعية رجال الأمن، بالرغم مما ينتاب هذا التدخل من مخاطر يتعرضون فيها إلى أضرار على صعيد الأفراد والمعدات، نظرا لعدم توفرهم على تكوين في هذا المجال الذي لا علاقة له باختصاصهم، مبرزا أن مديرية الوقاية المدنية سجّلت إحصائيا، وفاة إطفائي وإصابة عشرة آخرين، أثناء قيامهم بعمليات ضبط ونقل الأشخاص المختلين عقليا، خلال الفترة الممتدة ما بين 1988 و 2000، فضلا عن الخسائر المادية في العتاد والآليات، مضيفا أنه تم اعتقال إطفائيين للمثول أمام القضاء بمحكمة وجدة بدعوى أنهما كانا سببا في وفاة شخص مختل عقليا، إثر نقله بسيارة الإسعاف بأمر من السلطات المحلية إلى المستشفى من مدينة جرادة إلى مدينة وجدة في 14.08.2000 ؟
إذا كانت للوقاية المدنية إكراهاتها ومبرراتها لعدم نقل المرضى الذين يعانون من أعطاب نفسية وعقلية، فإنه في بعض الحالات تتم الاستعانة ببعض عناصرها لنقل مرضى على متن سيارات تابعة للجماعات الترابية ولا تخصّ الوقاية المدنية، بالمقابل فإن عددا من المصالح الأمنية والدرك، هي الأخرى يقدّم عدد من المنتسبين إليها مبررات لتفادي نقل هذه الفئة من مرضى، بدعوى أنهم من حملة السلاح، الأمر الذي قد تترتب عنه خطورة وقوعه في يد المريض، بكيفية من الكيفيات وما قد يترتب عن ذلك، إلا أنه يتم بعد جهد جهيد وليس بالهيّن في عدد من الحالات، الاستعانة بهم دون أن يكونوا مصحوبين بسلاحهم الوظيفي. وعلى نفس المنوال يجتهد كذلك بعض عناصر القوات المساعدة، ليبقى في نهاية المطاف الأعوان من «مقدمين» و «شيوخ» في مواجهة الواقع، ومعهم رؤساء الملحقات الإدارية وممثلي السلطة المحلية، إما لتدبر حلول أو غضّ الطرف وترك الواقع على حاله؟

السلطة المحلية وثبوت المسؤولية

قيود تعترض نقل المرضى المصابين بأمراض نفسية وعقلية صوب المؤسسات الصحية بشكل سلس، مما يؤدي إلى تكاثر أعدادهم، الذي يرجع كذلك إلى ضعف بنية الاستقبال وهشاشتها، وإشكالية الموارد البشرية والأدوية وغيرها من العوامل الأخرى، مما يطرح سؤال المسؤولية والاختصاص، خاصة في ظل تسجيل حوادث قد تترتب عنها مضاعفات وخيمة، يمكن أن تصل إلى حدّ الوفاة، وهو ما يجعل عددا من الأسر وأمام هذا الوضع الشائك والمعقّد، تعمل على غلّ مرضاها وتقييدهم بالسلاسل أو حجزهم في غرف وفي فضاءات غير آدمية، وفي ظروف تمتهن فيها كرامتهم، أو تستلم لهذا الواقع وتتركهم يدبّون فوق الأرض؟
سؤال المسؤولية هذا، يحيلنا على بعض مضامين الظهير الشريف رقم 1.58.295 الصادر في الجريدة الرسمية، في فصله السابع عشر، الذي يشير إلى أن الباشا أو القائد يتخذ في حالة الخطر القريب الوقوع، الذي يثبته الطبيب في شهادة، أو يفشيه العموم، التدابير اللازمة، بشرط أن يخبر بذلك العامل في ظرف 24 ساعة، الذي يأمر في ظرف 48 ساعة بوضع المريض تلقائيا تحت الملاحظة الطبية.
بالمقابل هناك اجتهاد قضائي في ملف صدر الحكم بشأنه في 2 يونيو 2016 من المحكمة الإدارية بالدارالبيضاء، يعتبر أن السلطة المحلية مسؤولة عن إيداع المختلين عقليا بمؤسسات الأمراض العقلية، حفاظا على السكينة العامة، طبقا للظهير الظهير الشريف رقم 1.58.295 الصادر بتاريخ 10 أبريل 1959، مشيرا إلى أن ثبوت كون الضحية تعرض لاعتداء جسدي في الشارع العام من طرف أحد الأشخاص المختلين عقليا، يحمّل السلطة الإدارية مسؤولية الحادث بسبب إحجامها عن إيداع المتسبب في الضرر لمؤسسة الأمراض العقلية كما يفرض عليها القانون ذلك.
«علاج» بالدواء والشراكات

إذا كان وصول المريض إلى المصالح الصحية المختصة يعتبر إشكالا وتعترضه العديد من المصاعب، فإن الاستشفاء هو أيضا لا يتسم دوما بالسلاسة ويكون محاطا بجملة من الإكراهات، وحتى إذا ما تحقق، فإن المريض في أغلب المصالح المختصة يخضع للعلاج بالدواء فقط، في تغييب كلي لباقي المقاربات العلاجية، وكأن الهاجس الأساسي يكمن في تهدئة وضعه و «إخماد» عنفه فحسب، علما بأنه حتى الأدوية التي تستعمل تعرف انقطاعا لفترات طويلة وخصاصا مهولا، خاصة مضادات الذهان والتي تستعمل في علاج اضطرابات المزاج، إلى جانب ندرة الأدوية التي هي على شكل حقن، دون الحديث عن أدوية الجيل الجديد، مما يعقّد من العملية ككل ويسائل السياسة الدوائية كذلك؟
الوضعية المعتلة للصحة النفسية والعقلية في بلادنا، والخصاص في البنيات والموارد، لم يتم تداركه طيلة كل هذه السنوات، وبالمقابل لم يتم السعي لتفعيل شراكات مع القطاع الخاص، الذي يتوفر على عدد من الأطباء، وإن كان ليس كافيا لكنه يبقى مهما وأفضل من لا شيء، إلى جانب مؤسستين استشفائيتين والثالثة في الطريق، كما تم القيام به في الشق المتعلق بتصفية الكلي، نموذجا، ووضع هؤلاء الاختصاصيين رهن إشارة المرضى وتمكينهم من العلاج مجانا، وتجنيب المرضى وأسرهم وباقي المتدخلين عناء قطع عشرات ومئات الكيلومترات للوصول إلى المصلحة أو المستشفى العمومي، والحال أنه يمكن طرق العيادة أو المصحة، للتخفيف عن معاناة المرضى، علما بأن تجربة تم القيام بها في الدارالبيضاء وتحديدا في الحي الحسني، حين تمت الاستعانة بطبي اختصاصي في القطاع الخاص، الذي خصص زيارات لمركز صحي عمومي لفحص المرضى في أوقات معينة في الأسبوع بالمجان، وهي الخطوة التي ستكون مفيدة إذا ما تم تعميمها، خاصة وأن هؤلاء الأطباء يعرضون خدماتهم بكل أريحية. فهل يتم سيتم التدخل لإصلاح أعطاب الصحة النفسية والعقلية، وإيجاد حلول عملية للمرضى وأسرهم، ولباقي المعنيين بهذا الملف، في الصحة والداخلية وغيرهما، أم سيبقى الوضع على ما هو عليه، وستظل الشوارع والأزقة محتضنة للمرضى، إلى أن يتسببوا في أذى لأنفسهم وللغير؟

 

 


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 02/03/2020