«كما لو أن الحياة كانت تصفق» للشاعر المغربي محمد بوجبيري : تفاعل الذات والمطلق

 
« في البدء»، عنوان يمكن أن يصطلح عليه مقدمة استدلالية، للديوان الأخير للشاعر المغربي محمد بوجبيري. مقدمة كُتبت بطريقة خاصة، اختيرت فيها الكلمات بدقة لتشي جهرا بمحمول النصوص، تحذر، وترجو الانتباه، لتلك الأسئلة المؤرقة التي حثت على البوح، وكانت محركا أساسيا دفع إلى الكتابة. يقول الشاعر في مقدمة الديوان بالصفحة الخامسة: « الكون بدأ شعرا، ولا شكّ أنّ أسلافنا في القدم البائدِ عندما نظروا أول مرة إلى السماء العالقة بلا عماد، والأفلاك السابحة بحساب، والجبال الراسية بثبات، وما إلى ذلك من عجائب المخلوقات، كانوا مستغرقين في ما يبصرون حدّ الإدهاش. لاريب أن ما استشعروا من أحاسيس ومواجد تنتسب للشعر، لأن تلك اللحظة الأنطولوجية الفريدة كانت أول تماس رهيب بين الإنسان والمطلق. هذا التماس الذي ولّد، ولا يزال ما لا يٌحصى من أسئلة عالقة وقلقة تُسائلُ جوهرا واحدا هو: من نحن ؟». فقرة تدل على النهج الذي سلكه الشاعر في كتابته للنصوص الشعرية، ليجعلها تنتشر بروائح مختلفة. وتُوضّح البعد الفلسفي والقلق الوجودي اللذان طغيا على الفضاء السردي، وأعطيا للنثر في البناء حيزا مهما، لطبيعة ونوعية القصائد التي تُؤثث الديوان. تلك النفحات الآسرة التي تفوح من الديوان، تعكس التعالق الحاصل بين الفلسفة والشعر، وتجلي الحمولة الثقيلة التي حُمّل بها الكلام المرصوص داخل المضمومة الشعرية. بشكل يوحي بعلو كعب، وبذوق باذخ يُوزع الكلمات والجمل التي تصطف وتتجاور بخطة موضوعة بتفكير مسبق، يبتعد عن النمطية والعشوائية والحشو الزائد، وتُراعي محمولا فكريا فلسفيا وقلقا وجوديا. اختار للتعبير عنه مواضيع وتيمات قد تبدو عادية أو متداولة لكن، بطونها حبلى بالمعاني الهادفة، وبخطابات مدسوسة تنفتح على تأويلات متعددة ومختلفة.
اعتمد الشاعر على لغة قوية ولدت بألم ووجع. وجع يشبه الولادة الحقيقية، التي تأتي في عمر متأخر، بعد أن يكون انتظار الولد قد سيطر على كل الأحاسيس، واستحوذ على التفكير، وغدا الهم الوحيد والأوحد، هو التفكير في كيف سيكون شكل المولود الجديد وهو يخرج للوجود ؟ تلك الصرخة الأولى التي تعلن عن ميلاد الحياة، وذلك الرنين الذي تحدثه الكلمات و هي تقدم نفسها، يزفان بعد أن ترتاح الجمل في أماكنها المختارة بعناية، عن ميلاد القصيدة داخل الديوان. فالشاعر لا يرضى بخروج النصوص بدون ألم. كل كلمة تقضم من معجمها تعرض للمضغ وللاجترار، قبل أن تُضاف إلى المعنى الذي خلقت من أجله معان أُخر جديدة، تفهم من خلال السياق، ووفق الغرض التي شُكلت من أجله. قد تصبح تعني عكس ما خلقت له، حين تضاف إليها أجنحة تحلق بها بعيدا عن النصوص، عبر الانزياح والإيحاء اللذين اعتمد عليهما الشاعر بشكل مكثف في تشكيل النصوص، بالإضافة إلى المحسنات البلاغية التي أضافت بدورها إلى المحتوى الدّسَم ليغري بالمتابعة.
«كما لو أن الحياة كانت تصفق» عنوان يجنح نحو الغرابة، كما هو الحال مع باقي عناوين الديوان بشكل عام، لكن ليست الغرابة بمفهومها السلبي، بل بالمعنى الذي يجاور الفضول، ويحرض على النبش من أجل الفهم وإدراك الغايات ومرامي النصوص. اخْتارها لغاية وقصد، لتشير إلى الاتجاه الذي يجب أن يسلكه القارئ في تعقبه للمعاني المستهدفة، والتي نصيغها بشكل يشي بما تنضح وتخفي، مع المحافظة على ترتيبها الداخلي:
داخل الأضمومة يؤكد الشاعر على أنه «في البدء»1، بدأ الكون شعرا. أسلافنا كانوا مستغرقين حد الاندهاش في ما يبصرون، السماء عالقة، والأفلاك سابحة، والجبال راسية. «وَهْمُ الطريق»2 حثهم على السير، ولم يسألوا عن النهاية. بحثوا عن «النبع»3، لفهم الحمى الصاعدة من أتون الأعماق.
كانت أحيانا «تربة المعاني»4 تهمس له شعرا : لا تستبق الخطى ، تأكد، من السحابة وأنت الصاعد النازل فجّ الأعماق، أهي سحابة فيض أم فقط سحابة صيف، وإن غدت الأيام بلا أيام كن «ما لم يتعين لكِن تَبدّى»5. «تعلّم»6 وأنت المسافر أن تلتفت في الوقت المناسب حين يباغتك القاحلُ، فقد «يحدث»7 أن تسكنك هواجسك في الفج البعيد. فلا تكن كمن «يُصرُّ ولا يلتفت» 8 فالأيام قِناع لما لم يدرك، عقاربها ناموس أعمى. لا تعش «كما لو أن السماء كانت تصفق» 9 ، فمن ركبوا الجاهز في الطريق، غدوا تباعا يتصدرون لائحة المتفوقين في المهاوي، فأدركوا أن المعطل في الفهم كامن في الطريق لا يمشي.
واصل القول : – «جسدي ليس لي»10، وإن فيه أحيا وأموت به. وآن «أوان»11 الإعلان عن «أعطاب»ه12، أو هي بقايا «سراب اليقظات»13، أو حبر باهت دوّن عثرات الجسد وبشاعة الأيام، و»صحبةٍ»14، ركبت الحيرة، وكي لا تغرق في البحر أسلمت للريح الشراع. لا تدعي «طُمأنينة 15وتدعو النرجس للوليمة، في ليلٍ المتعبين فيه سائلون اليقين عن أزل الأنين. لأن الذين لم يرثوا غير أسفار من أنين سيعلنون ال»عِصْيان»16، وإن كان المكان «أَراض خفيضة»17، والوقت «ظَهيرَة 18، وال»طريق»19 ممتدة حد ال» بَصيرَة»20 .
– بي «بعض من عمى»21 لأني اعتقدت أن كل شيء يسير. أدركت ذلك حين سمعت هاتفا يقول: توقف. لاحظ. فالطريق من دونك يسير والمشي أُفقان، واحد في الحذاء والآخر في النوايا، وما بينهما تاه الطريق. لا تدنو من التيه «دنوّ»22 الفراشة من الضوء، فيرْكبك «أرق»23 الواقف في وجه السؤال، يطلب الوسادة في آخر الليل. اعلم أن «الريح»24 التي لا ترى بالتعاقب تعري ال»أيقونات»25 الجانحة نحو عبور الزمن، حيث يستمد الشعر امتداده.
«كما لو أن الحياة كانت تصفق»، عنوان يستحق الوقوف، والترجل عن الأحكام الجاهزة لفهم ما يختزل من معان تم تكديسها بشكل مكثف داخل النص. التصفيق، أو فعل التصفيق، له دلالات متعددة ومواقف متباينة، قد يكون للتشجيع أو للتحذير، كما قد يكون للإعجاب أو للاستهزاء. فإلى ماذا يمكنه أن يشير إذا أسند للسماء ؟
النص الذي يحمل هذا العنوان المثير، يحتمل التضاد الدلالي، وينفتح على الموروث الحضاري العالمي. يعترف بعباقرة أعادوا كتابة التاريخ الإنساني من جديد، على أسس مختلفة ثارت على القديم رغم أنها لم تلغه. قرأ الشاعر أسماءهم في لوائح الخراب، حيث كانوا متفوقين بامتياز. ضربوا بعرض الحائط المألوف، وتحرروا من الرتيب، فتصدرت تباعا أسماؤهم لائحة المتفوقين في المهاوي. سهروا ليال طوالا، وكفّنوا شموع المعتاد لينطلقوا كالريح ساعة يقظتها. عربدوا جمالا واجتاحهم عنفوان المجيء إلى فهم يضيء. جنحوا إلى المقيم في الشغاف، وانهمروا في الأعماق رذاذا يخصب عطش السنين، نهروا المُعطل في عقارب الأيام فأضاؤوا المعتم الذي في الصدور. كانوا جبالا شاهقة من أمثال: نتشه، وشار، وبيرس، وميلر، وهسه، وبوزاتي، والقائمة طويلة.
النص في حد ذاته، احتفاء بالذين تمردوا على الجاهز والمتداول، فأعادوا طرح الأسئلة الصحيحة الفلسفية، التي تطمح إلى تحيين المعرفة، والخروج من نفق العتمة المسطر سلفا بنوايا تشد إلى الأرض وتمنع التفكير من التحليق، لأن وحده الفكر السليم الذي يحلق بعيدا عن الذات المفبركة مَنْ يستطع تحدّي المدهش، والغريب، وركوب المغامرة لاكتشاف الأكوان البعيدة. استطاعت اللغة التي شكل ورسم بها الشاعر القصيدة، التي اعتمد في بنائها على الصور الشعرية والمحسنات البلاغية، أن تعطي للكلمات والجمل أبعادا وتأويلات تُؤهلها لتكون المكوك الذي يسافر بالمعنى في اتجاهات مختلفة، واللباس الراقي الذي يضيف إليها جمالا يفتح لها القلوب. فاستطاع بذلك الشاعر أن يجمع بين جمالية النص وأبعاده الدلالية ليعطي للقصيدة النثرية المكان التي تستحق.
إخلاصا لإيمانه بالدهشة التي يحدثها الشعر، تحول الشاعر إلى فيلسوف في جل النصوص، فنثر بذور الحكمة، التي أنتجت لنا ثمارا تنضح بمعاني وحكم قيمة، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر :       « أعطاب حياة واحدة لا تكفي لكل هذا الفهم « / « بين الذي كان والذي صار تاهت النوايا، إذن.. ما يفيد إدراك المسافر لون الغياب ؟ « / «السر في البذرة، والفاكهة نكهة عابرة» / « ليس وراء جدار الزمن غير الزمن ذاته، لكن من غير نفس» / «الطريق إلى  الآخرين كثيرا ما تصاب بالأعطاب»، «كم من فهم لا يتم إلا بعد اجتياز وادي الحواس» / «صاحب نفسك، أنت الآخرون حين تكون مفردا، وأنت المتعدد حين لا أحد» / «دائما و أنت ترى تذكر أن أكثر العين بياض».
في نص «سراب اليقظات» وكذلك نص»جسدي ليس لي» سار على نفس المنوال ، بطرحه لإشكاليات فلسفية، وعالجها بلغة شعرية قوية، فبدت كمن عجنته الحياة، ودربته على احتواء كل المطبات التي تعترض طريقه، عليه فقط القيام بالخطوة الأولى لتتوالى الخطوات بانتظام وثبات .
في نص «سراب اليقظات» يخبرنا الشاعر أن الطريق تظل هي نفسها عناد الصعود والنزول، هي الاستواء، والانكسار، والمنعرج، والحافة، ولو سمح الزمن بالعودة إلى نقطة البداية واستعادت القدم نضارتها وعادت سليمة من أي خدش، ستبدأ الخطى بذات الأخطاء والعثرات وهي تعبر العالم.
وفي قصيدة «جسدي ليس لي» طرح إشكالية الذات وعلاقتها بالهوية، ويمكن اعتبارها دراسة سيكولوجية للشخصية، التي تشكل جوهر الهوية الفردية. فالإنسان بطبعه يتأمل ذاته باستمرار، ويفكر في سلوكياته في طبيعتها و في مصادرها، من أجل بنائها والتحكم فيها، ليتمكن من تطوعيها فيسهل عليه التعامل والتفاعل مع الآخرين داخل المجتمع الذي ينتمي الذي ينتمي إليه. يتضح ذلك في ما يلي: – جسدي ليس لي./احتمالا مشرعا على الحماقات أحمله./ ليس لي،/وإن فيه أحيا وأموت./ليس لي،/وإن فيه قبلتي/ وقُبلتي/ وكفني،/…/ أعانق../أناوش،/ وألطف الأهواء،/أربت على كتف،/وأهم بواد ما. أرمم كُسور ارتطام،/وأباغت المراد حين يستعصي/أوحين يريد،/أخدش،م وقرحا أملي:/إنه ليس لي.
الشاعر محمد بوجبيري بطبعه مستمع جيد، يلوذ بالصمت من أجل الاستمتاع بكلام الطبيعة الممتنع، لينصت إلى معزوفاتها الخالدة، التي لا يفقهها إلا من لديهم نفس حب التواصل مع الذات، وما تخفيه من أسرار، عبر تسخير عناصر الطبيعة الأربعة للاستمتاع بها، وبالأثر الذي تحدثه عبر تفاعلها مع الذات. اعتبر الصمت والتفكير العميق عبادة دأب على القيام بجميع مناسكها، التي مكنته من الإبداع في جو يسمح له بسبر أغوار المضامين التي تشغل تفكيره. يجلو ذلك نفسه بنص «أيقونات»، بالجزء الثاني الموسوم  ب «غابة» (ص 128 )
غابة.
ذَات خريفٍ توسلتْ للريح غابة:
رجاءً أيتها الرفيقةُ اللا مرئيّةُ..
رجاءً
قصقصي أغصاني الميتة،
واعْصفي أعنف ما يكون،
أُريدُ لأحشائي أن تتجدّد.
تأسيسا على ما قيل يمكن القول أن الشاعر لم يستطع التخلص من الحبل السُّري الذي يربطه بالطبيعة، فظل مخلصا لها متفاعلا معها مستمدا منها جمالها ووفيا للإنصات إلى معزوفاتها، فولدت لديه أحاسيس ومواجد انتسبت للشعر وشكلت ذلك التماس بينه وبين المطلق، فانعكس ذلك على انشغالات وخلق لديه قلق دفعه إلى احتراف مهنة الشعر.
عمد إلى خلق التعدد داخل القصيدة النثرية، وقسمها إلى أجزاء مستقلة لكنها تتشارك في المشارب وتصب في نفس الاتجاه، مما جعلها قصائد متشظية، بصياغات مقطعية تختلف من حيث المضمون، لكنها تتخذ شكل الشذرة لميوله للفكر الفلسفي. واعتمد أيضا على مقصدية تجعل إنتاج الدلالة يستوجب تتبع الإيحاءات وربط العلامات الدلالية ببعضها، لإدراكه أن نصوص الديوان تشكل نسيجا متكاملا مترابطا،  وتصب في نفس المصب. وكذلك على لغة قوية تعتمد على الاقتصاد والتكثيف، تستمد قوتها في تطورها السنكروني، لأنها تمتد في التاريخ وتصلح لكل زمان ومكان.


الكاتب : عبد العالي أناني

  

بتاريخ : 06/03/2020