في تقرير توقعي لمركز الدراسات الإستراتيجية والتوقعية الفرنسي «فيتورإبيل»

البشرية بين حافة شفرة حلاقة وإصرار الإنتصار بالتعاون والتكامل

3 سيناريوهات محتملة في أفق 2022، واحد متوقع ، الآخر وارد، والأخير ضعيف

 

أصدرت في نهاية شهر مارس المنصرم مجلة الدراسات الإستراتيجية والتوقعية الفرنسية «فيتورإيبل» التي تأسست سنة 1967 (والإسم هو دمج لكلمتي «فيتور» التي تعني مستقبل و«بوسيبل» التي تعني ممكنات)، تقريرا توقعيا مفصلا من 41 صفحة حول مستقبل أروبا والعالم في أفق سنة 2022، بالتوازي مع تطور وباء كورونا. وهو التقرير الذي يتأسس على طرح ثلاث فرضيات كبرى مصنفة ضمن خانة «متوقع/ محتمل/ضعيف».

 

المجلة الصادرة عن المركز الحامل لنفس الإسم، تعتبر واحدة من إصداراته الأساسية الدورية، التي من ضمنها أيضا مجلة إلكترونية وموقع تفاعلي بين الأعضاء المنتمين والعاملين بمركز الدراسات الإستراتيجية ذاك من مختلف التخصصات ومن مختلف القارات والدول. ولقد ساهم في بلورة ومناقشة تقريرها التوقعي الجديد، الخاص بمآل الأمور صحيا واقتصاديا وتدبيريا وسياسيا على مستوى الدولة الفرنسية وفي باقي العالم، 10 خبراء فرنسيين، انتهوا إلى رسم خريطة تستند على الأبواب الآتية:
سيناريوهات عامة
ميكرو سيناريو
سيناريو كوفيد 19 (تحليل مورفولوجي).
ونظرا للأهمية العلمية للتقرير، وأسلوبه المنهجي الرصين، نقدم هنا للقارئ المغربي أهم فقراته، من خلال نص تركيبي يقدم خطاطة مفسرة ومحللة لما يجري ولما قد تذهب إليه الأمور في فرنسا وفي الإتحاد الأروبي (شريكنا الأول عالميا) وفي باقي جغرافيات العالم حيث يصنع القرار الدولي طبيا وأمنيا وسياسيا واقتصاديا.
ينطلق تقرير «فيتورابيل» من عرض مدقق لمسار بروز وباء كورونا الذي يعتبره مندرجا ضمن سلسلة من الأوبئة السابقة عليه، ظهرت جهويا وعالميا، خلال العقود الماضية. حيث يعتبر أنه فيروس جديد من حيث إنه أول تلاق بين بنيته التركيبية الجديدة والإنسان، حتى وإن كان يصنف ضمن خانة فيروس «سارس» لكنه نوع جديد منه. وأن ذلك ما يفسر غياب ما وصفه ب «مناعة جماعية» لمواجهته بالنسبة للبشرية بسبب ضعف المعرفة الوبائية الخاصة به. مضيفا:
«توجد أنواع من الكورونا فيروس عند عدد من الثدييات وليس عند الإنسان، وأنها كانت سببا، بسبب الإحتكاك المباشر معها في بروز حالات وبائية متلاحقة منها الأعراض التنفسية الصعبة التي أحدثها فيروس «سارس – كوف» المرتبط باستهلاك مأكولات مستخرجة من بعض الحشرات سنتي 2002- 2003 (خلفت 774 قتيلا بنسبة 10 بالمئة من الحالات المصابة). أو ما يوصف ب «متلازمة الأزمة التنفسية للشرق الأوسط» سنة 2012 (خلفت 450 قتيلا، بنسبة 35 بالمئة من مجموع الحالات المصابة). وكان مركز تلك الأوبئة دوما هو الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة، التي تهيأت بشكل أفضل لأي وباء مماثل قادم. وهذا أمر لم يتحقق مع باقي دول العالم التي تجاهلت مخاطر الوباء، رغم إثارته دوما في المنظمات الدولية للصحة وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية.
لكن، على خلاف أوبئة الكورونا فيروس السابقة، فإن سرعة انتشار فيروس «سارس – كوف 2» هذه المرة قد فضح عدم كفاءة المواجهة في بلدان الشمال بأروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فقد تسببت حدة عدواه في الإضطرار إلى اتخاد إجراءات استثنائية بعدد من الدول والجهات. ما جعل 3.38 مليار نسمة (إلى حدود يوم 29 مارس 2020) تحت الحجر الصحي أو الطوارئ الصحية، وهو أمر غير مسبوق أبدا في التاريخ. ومن الميزات الأساسية الكبرى للأزمة الحالية هي بروز أهمية اتباع سياسات صحية غير طبية من قبل الدول لكبح تصاعد العدوى وتجاوز الإزدحام على الخدمات الطبية. والنتائج لن تكون فقط صحية، بل أيضا اقتصادية، اجتماعية وسياسية.

هل ستكون الصدمات الناتجة عن هذه الأزمة ممتدة في الزمن؟.

كل مؤرخي الصحة قد وضعوا نظاما وبائيا جديدا منذ القرن 20، تتضح فيه الآثار الإقتصادية والإجتماعية للأوبئة بشكل أخف بكثير من الوباء الحالي. هكذا ففي دراسة له نشرت سنة 2012، يذكرنا المؤرخ والباحث باتريك زلبيرمان أن الأنفلوانزا الإسبانية لسنة 1918 المرتبطة جدا بنتائج الحرب العالمية الأولى قد خلفت آثارا اقتصادية امتدت حتى سنة 1921. فيما الأنفلوانزا الآسيوية لسنوات 1957/ 1958، التي تسببت في وفاة 2 مليون شخص قد أدت إلى فقدان 3.5 نقطة من مجموع الناتج الداخلي الخام الأمريكي. وفي سنة 2003 بلغ حجم كلفة مواجهة فيروس سارس 100 مليار دولار، لكن استعادة المبادرة الإقتصادية عاد بسرعة بعد التغلب عليه.
هل الأزمة الحالية، التي هي أشد عنفا أكيد، ستمر بسرعة، مما سيسمح بعودة الأمور إلى طبيعتها اقتصاديا ومؤسساتيا؟. أم إن الإجراءات الهائلة المتخدة اليوم لوقف مخاطر الموت ستؤدي إلى تغير غير مسبوق في الإقتصاد العالمي وكذا في النظم السياسية والإجتماعية؟.
إن السيناريوهات البعيدة المدى ترتبط كثيرا بدرجة ومدى الرجة الحالية وارتداداتها. وقبل أن نرسم خريطتها سيكون مفيدا جدا أن نرسم خريطة السيناريوهات القريبة حتى نتمكن من معرفة تطورات الأزمة في أفق 2021- 2022. وهو ما نشتغل عليه في هذا التقرير. علما أن عدم اليقين العلمي حول العدوى وحول مدى التطبيب والتحولات الممكنة لفيروس «سارس – كوفيد2»، المتسبب في مرض كوفيد 19، لا يزال كبيرا. هناك نعم معطيات، لكنها قطاعية ومنها نحاول استنباط خلاصات عامة. وتجميع المعطيات وتوالي الأبحاث يتم بتسارع كبير، لكننا جميعا (حكومات، شركات ومؤسسات وأفرادا) مضطرون لاتخاد قرارات أمام وضعية غير واضحة المعالم بالكامل.
غايتنا ليس استعراض أسباب الإلتباس والشك، بل تأطيرها عبر فرضيات ذات مصداقية. فالأمر يتعلق باقتراح شبكة قراءة للأحداث الجارية ولتلك المحتملة في أفق ربيع 2021، الذي هو السقف الزمني المفترض للتوصل إلى لقاح فعال على المستوى العالمي، الذي يبقى الرهان الأوحد للقضاء على هذه الأزمة الصحية».
هكذا فانطلاقا من سؤال: ما الذي يمكننا توقعه من تطورات صحية بالعالم على ضوء المعرفة المتوفرة حاليا؟ وما هي السيناريوهات الممكنة للحياة الإقتصادية والإجتماعية على المديين القصير والمتوسط (2021 – 2022)؟. يجيب التقرير من خلال خانة كبيرة أولى أسماها «سيناريوهات عامة»، ترتبط بفرنسا وبالإتحاد الأروبي عامة، كالآتي:
«(الأكثر احتمالا.. على حافة شفرة الحلاقة):

الوضعية الصحية..

هذا السيناريو يتوقع تحكما نسبيا في الوباء في معظم الدول حتى صيف 2020. ما دام أنه ليس هناك حتى الآن لقاح، وبفضل تقدم المعرفة الطبية بالفيروس ونجاح بعض أشكال التطبيب السريرية الأروبية (ديسكوفري)، فإنه يتوقع عودة متصاعدة للنشاط الإقتصادي والإجتماعي. وبعض جهات فرنسا ستعرف مراحل حجر إضافية رغم نهاية ماي 2020 كتاريخ لإنهاء الحجر الصحي الوطني الذي انطلق في مارس 2020. وتسمح تلك الإستراتيجية الموجهة (المعتمدة أيضا بالولايات المتحدة الأمريكية وأروبا) بالإحتياط من احتمالات عودة كبيرة للوباء، في أفق وضع لقاح في السوق مع حلول ربيع 2021، إذا كان فعالا. وإذا لم يكن متوفرا فإن استراتيجية لتعميم التحاليل السريعة ستسمح بإعادة تدوير للحجر الصحي اعتبارا من خريف 2020 جهويا. مع تسجيل أن الوفيات ستتقلص مقارنة ببداية الوباء، وستبقى محصورة في عدد من الحالات الصعبة.
الوضعية الإجتماعية – الإقتصادية..
رغم التحسن الذي سيسجل في الجانب الصحي، فإن إعادة انطلاق دورة الإقتصاد بفرنسا وأروبا سيكون جزئيا وضعيفا. فالديون الضريبية والإجتماعية وما بين الشركات كبيرة بعد شهرين من حالة الطوارئ الصحية والحجر الصحي. وستتواصل نسب إفلاس في القطاعات الأكثر تضررا. وستكون الدولة تحت الضغط وستكون ملزمة بزيادة الدعم أو الإبقاء على الحد الأدنى من التوازن المالي. وستكون نتلئج الصدمة واضحة على العائلات، مع زيادة في البطالة (زيادة 2 مليون عاطل في فرنسا وحدها، في نهاية 2020 مقارنة مع أول يناير 2020)، مما سيفرض تنفيذ سياسة تقشفية مع مطلع خريف 2020.
الحالة الأروبية..

على المستوى الإروبي، فإن إصدار سندات أروبية قد مكن من تقليص الخسائر، لكن الإتحاد الأروبي أصيب إصابة جدية. لقد انتهجت سياسة للتعاون والتدخل والإستثمار لكن فقط ضمن فضاء الأورو، ما جعل باقي البلدان بأروبا خارجه في ورطة.

الحالة الدولية..

على المستوى العالمي، فإن الدول الصاعدة (بعض الدول الإفريقية، الهند، دول أسيا الجنوبية، أمريكا الجنوبية…)، تضررت أكثر من الوباء. وبالنسبة لها، ستتواصل الأزمة الصحية حتى صيف 2021 على الأقل، عدا إذا ما تم إنتاج الكمية الكافية من اللقاح عالميا، وتصل إليها حصتها منه. فالإصابات في هذه البلدان عالية بسبب أخطاء نظمها السياسية وغياب الخدمات الصحية (اللازمة). علما أن ما يسجل أيضا هو توقف سلاسل الدعم الغذائي والمساعدات الدولية لها. ما جعل بعض الدول المنتجة للمزروعات (الأرز في بيرمانيا، والقمح في روسيا … إلخ)، توقف تصديرها. فيما الدول المتقدمة التي نجحت حتى الآن في تطويق الأزمة ستواصل خيار إغلاق حدودها لمنع عودة أية عدوى جديدة، عدا عن بعض المبادلات التجارية الحيوية بالنسبة لها. وعلى العموم فإنه في هذا السيناريو ستبقى الآثار السلبية جلية على مستوى التنقل، حيث سيصعب على الناس السفر بين الدول وداخل جهات البلدان دون التعرض للكشف الطبي والتحاليل على الدم». بعدها انتقل التقرير المطول إلى طرح السيناريو المتفائل والسيناريو الأقل توقعا وحدوثا. حيث ركز في الأول على أهمية وحيوية التعاون والتنسيق الدولي والتحكم في الوباء، من خلال حسن استعمال نظام أدوية فعال ومجرب يسمح به تعاون دولي ملموس وحقيقي، مما سيمكن من القضاء على الفيروس صيف هذه السنة (2020)، بداية في الدول المتقدمة وبعدها في باقي دول العالم مع مطلع الخريف. وأن التعاون بين الدول على المستوى الطبي والصحي سيخفف من العبء على الأطقم الصحية كثيرا. وأنه مع تعميم اللقاح في ربيع السنة القادمة سيتقلص عدد الوفيات إلى 1 بالمئة في العالم. وأنه على المستوى الإقتصادي ستعود العجلة للدوران مع نهاية شهر ماي 2020، وأن البطالة لن تزيد سوى ب 1 مليون عاطل في فرنسا، مقارنة مع يناير 2020. وأن القطاعات التي ستتطلب وقتا لإعادة انطلاق دورتها بقوة هي قطاعات السياحة والفندقة والمطاعم والنقل. فيما سيتعزز التعاون المالي الأروبي الداعم للأسر والشركات.
فيما ركز التقرير في توقعاته للسيناريو الأقل توقعا، على الشق السلبي الأسود، الذي يقول بانهيار تام للوضعية الصحية بالعالم، في حال تطور الفيروس أو عدم التوصل إلى إنتاج لقاح فعال، وأن نسبة الوفيات ستكون كارثية تقارب 1 بالمئة من ساكنة الكرة الأرضية. وهذا سيناريو مستبعد وقليل الإحتمال بالنسبة لهذا التقرير الإستراتيجي التوقعي الفرنسي. لأن قدر البشرية وكل الدول، خاصة المتقدمة منها والصاعدة هو أن لا تقف متفرجة على الوضعية التي تواججها الإنسانية ويواججها الإقتصاد العالمي، وأنها تملك ما يكفي من القدرات العلمية والإمكانيات المادية لعدم حدوث هذا السيناريو المرعب والخطير.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 08/04/2020