اللاهوت العربي‮ ‬الجديد: كورونا والدولة‮

عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr

فكرتان،‮ ‬أو كائنان‮ ‬يكادان‮ ‬يكونان ميتافيزيقيين في‮ ‬بعض بلاد شرق المتوسط وبعض من‮ ‬غربه‮، ‬الفيروس كورونا‮ ‬والدولة‮. قد‮ ‬يبدو العنوان بمثابة تمرين للملهاة على تكبيد المأساة‮ ‬غيرَ‮ ‬قليل من المفارقة‮. لِنَقل‮ ‬المعادلة بشكل آخر‮: هل السؤال الذي‮ ‬يطارد العالم ما بعد كورونا ‬يليق بالشرط العربي‮ ‬والعقل العربي‮ ‬في‮ ‬السلطة؟ هل الدولة‮ العربية،‮ ‬في‮ ‬مطلقِ‮ ‬افتراض وجودها أو نسبية فعلها وتحققها‮، ‬يمكنها أن تستقبل سؤال الما – بعد كورونا بعقلٍ‮ ‬يليق بالدولة؟
هذه المعادلة،‮ ‬في‮ ‬الجمع بين الفيروس والدولة، لا تقف عند عتبة المزاح التراجيدي‮ ‬العربي‮، ‬بل‮ ‬تطرحها كل شعوب العالم اليوم،‮ ‬ولا‮ ‬يخلو مقال أو حوار،‮ ‬مع فيلسوف أو باحث أو سوسيولوجي‮ ‬أو عالم أفكار‮ (‬من إدغار موران إلى‮ ‬يورغن‮ ‬هابرماس مرورا بفوكوياما وتوماس بيكيتي‮ ‬وهنري‮ ‬كيسنجر‮)،‮ ‬من تفكير جماعي‮ ‬حوله،‮ ‬إلا نحن، فنجد أننا مطالبون أولا بافتحاص التاريخ والمقولات السياسية الكبرى،‮ ‬مثل الدولة على قاعدة الواقع؟ قبل أن نسأل: هل نفهم الدولة وهل نفهم الفيروس نفسه،‮ ‬كما‮ ‬يفهمهما العالم،‮ ‬لكي‮ ‬نقيم معادلة سوية في‮ ‬فهم السؤال؟ بالنسبة للفيروس،‮ ‬ما زلنا ننتظر إلى حد الساعة تعريفه من الآخرين،‮ ‬ومثل كل كائن نستعطفه بفهم ميتافيزيقي،‮ ‬لكي‮ ‬نتعايش معه،‮ ‬في‮ ‬الحدود البشرية المعترف بها‮.‬
نحن لا رأي‮ ‬لنا بعدُ،‮ ‬في‮ ‬مصدره‮‬،‮ ‬ولا في‮ ‬شكله ولا تطوّراته،‮ ‬إلا ما جاء في‮ ‬كتابات الآخرين وإعلامهم‮.‬ نحن نبحث،‮ ‬في‮ ‬أحيان كثيرة، عن اللعنة في‮ ‬ما حلّ بالشعوب المسلمة،‮ ‬العربية منها خصوصا،‮ ‬تلك التي‮ ‬تعيش منذ قرون طويلة في‮ ‬انتظار سقوط‮ ‬السماء بفعل نية سيئة أو شهوة
عابرة في‮ ‬ركن مظلم‮.‬ نحن لا نعرفه،‮ ‬لأننا لا نملك وجهة نظر فيه،‮ ‬ولا نملك العلم ‬الذي‮ ‬أوصتنا كل تعاليمنا الروحية بأن نسلكه طريقا‮ ‬يقودنا إلى معنى الوجود والعقيدة نفسها‮؛ فهذا العلم،‮ ‬الطريق المختصر إلى المعرفة والحضارة،‮ ‬لا نملك مفاتيحه، ولا مختبراته، ولا ذهنيته بالأساس، ولا دارسيه ولا جماعاته. هذه العقيدة الرائعة‮ ‬حولناها إلى بؤس تاريخي‮ ‬بشري‮ ‬فينا،‮ ‬وإلى حاجز فعلي‮ ‬ضد العلم بالذات، وطوّرنا كل مجسّات الالتقاط الميتافيزيقي‮ ‬ونَدَهْنا العلم ليثبت تفوقنا في‮ ‬التحجر‮ ‬وتبريره‮!‬ وأضفنا إلى ذلك الإثارة والانفعال الجماعي‮..‬
لا بأس، قلنا كمواساة ساذجة‮: ‬لنا تاريخ، وربما لنا وجهة نظر في‮ ‬الدولة‮، ‬بيد أنه‮، ‬ربما‮، ‬آن الأوان كي‮ ‬نُقرَّ‮ ‬بأن ما نملكه من تصوّر أو معيش مع الدولة هو نوع من الميتافيزيقا التاريخية‮!‬
نعني‮ ‬بها وحدة‮ ‬قياس‮ ‬حقيقة تتجاوز التاريخ،‮ ‬حقيقة ما فوق تاريخية‮.‬ لهذا عندما تتحدّث الشعوب الآن عن الدولة والتاريخ‮ ‬ترفع صوتها وعقلها وفكرها، و‮‬تهتف‮، فرحةً، ‬بعودة الدولة‮، فنجد أنفسنا أننا‮ ‬غير معنيين،‮ ‬ونتابع بِحيرةٍ‮ ‬هذا العالم الجديد الذي‮ ‬يولد من تحت معطف فيروس‮ ‬متناهي‮ ‬الصغر‮.
‮كل شعوب العالم‮ ‬تفهم معنى‮ ‬تلاشي‮ ‬المراهم النيوليبرالية، وتتناقش في‮ ‬اعتناق‮ الدولة الحامية،‮ ‬تجسيدا لدولة الفصل الاجتماعي‮ ‬والحماية الصحية،‮ ‬دولة التعليم والعقلانية المشتركة،‮ ‬ودولة الاستراتيجيات الوجودية الكبرى،‮ ‬كفكرة هيغلية عن التاريخ المتحقق،‮ ‬هذه الدولة التي‮ ‬تعود
اليوم،‮ ‬ضد السوق وضد تذويب العولمة للأوطان، يفرح بها الجميع‮.
‮‬حتى ولو انتصرت الدولة الوليدة لقيم وتصوراتٍ كانت الليبرالية، المهيمنة‮ ‬غربا، والتي‮ ‬خرجت منتصرة من الحرب الباردة وحرب النفوذ الجيواستراتيجي‮، ‬ومن الثورة الرقمية،‮ ‬قد رمتها في‮ ‬سلة المتلاشيات الأيديولوجية‮‬،‮ ‬مثل قيم التأميم‮ وتصوراته (‬ولو مؤقتا‮)،‮ ومثل الدولة العاقلة،‮ ‬فنحن لم نساير العالم في‮ ‬فرحه،‮ ‬بل شدّنا سؤال ميتافيزيقي‮ ‬يليق بحيرتنا‮: ‬هل نفرح بعودة الدولة،‮ ‬أم نفرح أولا بإثبات وجودها؟‮ لننظر إلى حالتنا: نحن شعوب ودول اختفت،‮ ‬كما في‮ ‬الفيلم الشهير والجميل‮ «حلقة الشعراء المفقودين‮». نزيد في‮ ‬الميتافيزيقيات عندما نتعالى عمَّا ‬يشغل الناس،‮ ‬ولا نرى في‮ ‬الفيروس‮ سوى فيلق إلهي ‬يقتل الجميع،‮ ‬بمن فيهم الأشد تقوى وورعا وإيمانا من شعوب المليار ونصف مليار مسلم‮.‬ وتزيد‮ «‬ميتافيزيقانا» ‬عندما نعتبر الدولة سبةً في‮ ‬حق القبيلة والعشائر والدعائم القديمة لنظم الامتثال‮.
لهذا، فإن جزءا من أسئلة العالم‮: أي‮ ‬نموذج مجتمعي‮ ‬نود أن نعيش في‮ ‬ظلاله‮ بعد الجائحة؟ سؤال‮ ‬يبدو‮ ‬غريبا فعلا،‮ ‬لأن سؤال‮ «‬ما قبل‮» ‬و»ما بعد‮»‮ ‬مثلما‮ ‬يَعقِل العالم كله ذلك،‮ ‬هو بوابة لحسم في‮ ‬احتمالين‮: ‬التغيير أو استمرار الحال كما كان؟
‮‬وبالمعنى الفلسفي‮: هل سينتصر‮ ‬هيراقليس،‮ ‬فيلسوف الحركة، و»لن نستحم في‮ ‬النهر مرتين‮»‬،‮ ‬أم سينتصر بارمينديس‮ ‬الذي‮ ‬يقول إن‮ ‬الجمود هو الأصل و»الوجود الحقيقي‮ ‬هو الثابت الذي‮ ‬يكمن وراء الظاهر‮»‬؟ ونحن نفضل الجمود في‮ ‬الجوهر والتغيير في‮ ‬الظاهر إلى حد الساعة‮.‬
‮ووسط الاتهامات المتبادلة اليوم، حد الانتفاء‮‬،‮ بين الخارجين عن الدائرة الشرعية والداخلين
فيها‮‬،‮ ‬والاتهامات بين أصحاب القومية‮،‮ ‬أو من تبقوا منهم، وأصحاب الأممية الخضراء، وبين دعاة الحشر ودعاة الحجر، ربما قد نستشف أن البريء‮ ‬الوحيد فينا‮ ‬هو ‬الفيروس‮! كما كتب الفرنسي‮ ‬المثير للجدل، جان فرانسوا كان، مؤسس الأسبوعية اليسارية‮، ‬ماريان‮، ‬أو أن الـ»ما بعد» ‬سيكون أفظع ولا شك.
إدراج الواقع في‮ ‬خطاطة التفكير الخاص بنا‮ ‬يجعل من الصعب أن نشارك العالم قلقه‮:‬ نحن‮ شعوب اختفت منذ زمان، بقوة الأنظمة وتغولها،‮ ‬وزاد اختفاؤها بعد الفيروس،‮ ‬وزاد أن الأنظمة‮، ‬وهو الأقرب إلى توصيف الدولة عندنا‮، ‬اختفت بدورها‮، فصار اختفاؤنا مزدوجا،‮ ‬مضاعفا‮، شعوبا وأنظمة: لنلاحظ عندما صار للعالم‮ ‬شغل أكبر‮ ‬يشغله نسي‮ ‬كل حروبنا،‮ ‬وكل طوائفنا وكل احتجاجاتنا، ونسي‮ ‬حتى‮ ‬أسماء الرؤساء والكانتونات والوزراء‮، فالعالم‮ ‬ينشغل بنا عندما‮ ‬يكون في‮ ‬فسحة تأمين الاستهلاك، ونموذج الدولة التي‮ ‬تعيش رفاهيتها على حساب شعوب أخرى،‮ ‬العالم‮ ‬يتذكر الجيواستراتيجية الشرق أوسطية أو‮ الغرب أوسطية‮ عندما‮ ‬يكون في‮ ‬حاجةٍ إلى الأموال، وبيع الأسلحة، ووضع المتاريس حيث‮ ‬يجب.
أما العالم عندما‮ ‬يكون منشغلا بشيء جدّي، مثل الدولة ومثل كورونا،‮ ‬فإنه‮ ‬ينسانا، وينسى حتى أقدس مقدّساتنا وحروبنا وغزواتنا على بعضنا‮. وقد‮ ‬يكلف بنا مديرا إقليميا في‮ ‬الصليب الأحمر من أجل أن نظل أحياء، حتى‮ ‬يعود العالم إلى استهلاكياته السعيدة‮.‬
عن العربي‮ ‬الجديد

الكاتب : عبد الحميد جماهري hamidjmahri@yahoo.fr - بتاريخ : 23/04/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *