الشاعر والروائي والمترجم إدريس الملياني ضيف «مدارات»:

يؤلمني إقصاء تجارب الشعراء الرواد المغاربة من الترجمة
لست محترف ترجمة، وفي الترجمة يضيع ماء كثير أو قليل

 

استضافت حلقة برنامج «مدارات» الذي يبث على أمواج الإذاعة الوطنية يومي الثلاثاء والسبت، والذي يعده الزميل عبد الإله التهاني، اسما من أهم رواد القصيدة المغربية الحديثة، الشاعر والمترجم والروائي المغربي إدريس الملياني.
المتمرد الأحمر، أو الشاعر الذي نقل شعره من السياسي والاجتماعي الى الإنساني، لا يعترف في الإبداع بالتحقيبات الجيلية ولا بالتقسيمات الجندرية في الكتابة ، بل يعتبر الإبداع تجربة إنسانية تسمو على كل التصنيفات ..هو الذي ينفتح على كل الحساسيات والأجيال، وإن ظلت في نفسه غصة من إهمال طال ويطال جيل الرواد والمؤسسين لحداثة الشعر المغربي.

 

راكم الشاعر إدريس الملياني تجربة شعرية ثرة على امتداد أكثر من أربعة عقود في الشعر الذي نذكر من بين إنتاجه «أشعار للناس الطيبين»، «في ضيافة الحريق»، «زهرة الثلج»، «أعراس الميادين»، « نشيد السمندل»، «بملء الصوت»… ثم في الرواية بـ «كازانفا»، «ماتريوشكات: عرائس روسية»، «محكيات فتاة الثلج»، «الدار الحمرا»، كما عرف بترجماته لعمالقة الأدب الروسي «مذكرات من البيت الميت»، «حلم رجل مضحك»، «الليالي البيضاء» لفيودور دوستويفسكي، «التراجيديات الصغرى» لبوشكين، «العمق الرمادي» سيرة يوفتنشكو ثم»رسم السيرة» لبوريس باسترناك.

رثاء، فغزل ثم ديوان

بالعودة إلى النبع الأول، لا تختلف بداية الشاعر إدريس الملياني عن غيرها من بدايات الشعراء من جيله في الستينات أمثال محمد الميموني، محمد السرغيني، عبد الكريم الطبال. حقبة يعتبرها الملياني كانت خصبة بالعناء والغناء والعطاء، مؤكدا أن الستينات كانت البداية التأسيسية والمولد الحقيقي الجديد لكل أنواع الإبداع الأدبي.
كانت البداية في 1962 حيث يتذكر إدريس الملياني أول نص وكان رثاء للجدة، أما لنص الثاني فكاد يكلفه الكثير إذ كان غزلا عفيفا في مدرسة الإنجليزية بالثانوية.
رحلة النشر بدأت في المجلات الحائطية بإعدادية عبد الكريم لحلو ثم بمعهد الأزهر في 1965 قبل أن ينتقل الى إصدار وطباعة أول ديوان مشترك مع الشاعرين أحمد هناوي والمسكيني الصغير، وهي التجربة التي كتب عنها باعتزاز كونها من «المنازل الأولى «التي احتضنت شعره بين دفتي كتاب، والتي رعتها جمعية «رواد القلم» التي كان من بين مؤسسيها في 1963 سنة بعد تأسيس اتحاد كتاب المغرب والتي أخذت على عاتقها مهمة ومحنة نشر الشعر في وقت كانت الدواوين المنشورة تعد على رؤوس الأصابع، ولم يكن لاتحاد كتاب المغرب إصدار وقتها، سوى مجلة «آفاق».
للديوان الأول «أشعار للناس الطيبين» في 1967 نوستالجيا خاصة عند الشاعر إدريس الملياني، كونه طبع في مكتبة شعبية وبطريقة يدوية، وقد تلت تجربته في الطبع تجارب مشتركة في النشر جمعت الشعراء محمد علي الرباوي وحسن الأمراني والطاهر دحاني في ديوان «البريد يصل غدا»، ثم ديوان الحسين قمري»ألف باء» وهي التجارب التي احتضنتها دائما جمعية «رواد القلم».

في الترجمة يضيع
ماء كثير أو قليل

عن علاقته باللغة الروسية والترجمة عن الأدب الروسي، لا ينفي الشاعر والمترجم الملياني أن دافعه لتعلم الروسية والاطلاع على الأدب الروسي كان بهاجس أدبي وآخر سياسي بسبب تكوينه وانتمائه اليساري، مشيرا إلى أن كثيرا من شعراء ونقاد وكتاب الستينات ومن مؤسسي الحداثة الشعرية بالمغرب كانوا معربين وعصاميين في جانب اكتساب اللغات الأخرى، كما أن اطلاعه على الأدبيات الروسية المترجمة الى العربية، والتي كانت تعرف انتشارا كبيرا بالمغرب، بالإضافة إلى توزيع بعض الصحف كالبرافدا وإلفستيا الروسيتين بالمغرب، عززا رغبته في تعلم اللغة الروسية فكان أن التحق بالمركز الثقافي للاتحاد السوفياتي بالرباط لتنطلق رحلته مع الترجمة عن هذه اللغة ثم الدراسة بروسيا لمدة ثلاث سنوات لينجز بعدها رسالته الجامعية عن «التراجيديات الصغيرة لبوشكين».
أولى الترجمات عن اللغة الروسية كانت «العمق الرمادي» في 2005 رغم أن الملياني يعترف بكونه «ليس محترف ترجمة» بل هو مجرد عاشق للترجمة الأدبية، مشيرا إلى أن بعض الترجمات التي قام بها كانت بطلب من دور نشر، ورغبة منه في إنصاف بعض الأعمال الروسية التي ظُلمت بفعل الترجمات الرديئة التي أنجزت سابقا، ذلك أن معظم الترجمات التي تمت من الروسية كانت تتم بلغات وسيطة كالفرنسية والإنجليزية، وتحتاج إلى تدقيق ومراجعة ولأن أغلب مقدماتها جاءت متحاملة على الاتحاد السوفياتي ومست بعضها بالأصل. الأصل الذي يرى الملياني أن الترجمة لا يجب أن تحيد عنه بل عليها أن تلتزم بالأمانة، رغم يقينه بأنه في الترجمة يضيع ماء قليل أو كثير كما يحدث عند نقل ماء من إناء إلى إناء. لكن الأهم بالنسبة له في الترجمة هو سلامة اللغة وبلاغة الأسلوب التي كثيرا ما تجعل الترجمة تتفوق على الأصل.

المدارس الشعرية مدارس إنسانية قبل كل شيء

لا يفاضل صاحب «الدار الحمرا» بين مدرسة شعرية وأخرى، مؤكدا أنه يحترم جميع المدارس ، كلاسيكية أو حديثة، ويتعلم ويسترفد منها ولا يرى أية منازلة أو صراع بينها، كما لا يفاضل بين الحساسيات والأجناس الأدبية والأجيال باعتبارها مدارس إنسانية قبل كل شيء، رغم انتصاره في تجربته الشعرية لتيار الواقعية الاشتراكية، هو الذي كان شغوفا بشاعر تونس أبي القاسم الشابي وخاصة ديوانه « «أغاني الحياة»، والشاعر السوري سليمان العيسي وتأثره بشعراء من مدرسة أبولو وحركة الشعراء الرواد.
النقلة الشعرية التي حدثت في مسار الملياني كانت بعد انتقاله إلى دمشق للدراسة، حيث تعمقت هناك علاقته وصداقته الشعرية برواد الشعر الحديث، فهجر القصيدة العمودية واتجه الى قصيدة الشعر الحر وانفتح على الشعر العالمي ورؤاه الجمالية والنضالية والإنسانية.
رغم مساره الشعري الطويل الذي يمتد لخمسة عقود وب12 مجموعة شعرية، يحس الشاعر إدريس الملياني بالحسرة على وضعه ووضع الشعراء من جيله ومنهم الشعراء المكرسون للحداثة الشعرية بالمغرب، وهي الحسرة النابعة من إقبال المترجمين على ترجمة أشعار الجيل الجديد من الشعراء رغم استحقاقها لذلك، في مقابل إقصاء وإهمال تجارب رواد القصيدة الحديثة، مضيفا أن ما ترجم له قليل.

النقد :بين العشق النصي والشخصي

رغم اهتمامه بالكتابة النقدية لحركة الشعر المغربي الحديث، لا يعتبر الملياني نفسه ناقدا بالمعنى الأكاديمي العلمي، مصنفا نفسه في خانة الناقد القارئ/ العاشق حيث في كل ما يكتبه نقديا، يجمع بين العشق النصي والشخصي أي علاقته بصاحب النص. كما أنه ينظر إلى ما كتبه في هذا الباب « سراج العين»،»هناك في الأعالي»، «من ثمار براري النثر وبحار الشعر»،»سنديانة الشعراء»، «متى نخرج من مقدمة ابن خلدون؟ كونها شهادات عاشقة لا تخلو من رؤى نقدية ودية وندية، مؤكدا أن هذا النوع من النقد هو ما يمنح للنص حياة ثانية أكثر ما يمنحه النقد العالِم الذي يبقى أسيرا للمفاهيم النقدية، والتي قد تضيق الخناق على الإبداع. النقد كما يراه صاحب «أعراس الميادين» هو أن تحب الكاتب والمكتوب.

موسم الهجرة
إلى الرواية

رغم أن الشاعر إدريس الملياني يعتبر أن الترحال الأدبي ما هو إلا وجه واحد في مرايا عديدة، إلا أنه يعترف بأن اتجاهه إلى كتابة الرواية، كان بهاجس التحدي والندية، وساق في نفس السياق أسبابا أخرى تنضاف إلى ما سبق والتي أجملها في كتابه «متى نخرج من مقدمة ابن خلدون» وهي تحدي الذات والآخر، ثم الركض في مضمار نيل المال وحيازة الجائزة « وهي أسباب قد تفسر هذه الهجرة من طرف الكثير من الشعراء، إلا أنها تبقى أسبابا ظاهرية فقط حسب الملياني الذي يرى أن الترحال الأدبي أعمق كونه تواصلا بين الأجناس ، مشيرا الى أنه في مجال الكتابة لا وجود لمجال خاص، فقد تتسع الرؤية وتضيق العبارة عن استيعاب هذا الجنس الأدبي أو ذاك، ما يدفع الكاتب إلى البحث عن مسارب أخرى لإبداعه وتعمل على إيصاله بشكل أفضل وأعمق. هذا الإبداع هو الذي يختار الشكل الفني والزي الذي سيتزيى به أمام قارئه.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 09/05/2020