نحن وكهف أفـلاطون

1 ـ الأنفس الميتة والفراغ الأنفورغي

تعتورنا شكوك ميكروبية شرسة، هي ربما نتاح التجرد من الإحساس بالروح المتخلقة من قيمنا المنزوعة الرحمة.
من الغوارم المنذورة لهذه الشكوك، أننا أسرجنا الريح للمخاطرة بكائنيتنا المفقودة، كأننا نعيش مع صورها المثيلة، من الكائنات المعلوماتية المصطنعة، منزوعين من فردانيتنا، تماما، كالأنفورغات، المضبوطة على إيقاع الطاعة والانضباط العبودي، أو هي بنية تقاطع محددة بين أنساق متعددة من سلعة ما، يمكن أن تعرض في أي لحظة ضمن سوق الإعلانات لتباع وتشترى.
إن هذا النظام البشري المعولم، المتعالي عن الجدارة الائتمانية، وعن التدافع الحيوي للوجود، بما هو عقل وأخلاقية واعتبار تفكري في الآن والمآل، ينظر إليه راهنا، على أنه قيد أو نذير وهم، يقود حتما إلى الانهيار والتلاشي، مثل قيمة (الأنفس الميتة)؛ وهي تباهي عنجهيتها المقيتة، كما يصفها نيكولاي غوغول، دون أن تخفي حاجتها المستلذة من حافظة النقود، حيث إن الحقيقة المعتمدة، لتكريس وجودنا الاعتباري، موقوفة بداية ونهاية، من تمثل قدرتنا الشرائية على الصمود في وجه العصف والعسف، كأعضاء متحمسين في طابور العملاء.
إن بورصة القيم هنا، لا توازيها الوفرة اللقيطة التي نجمعها بالتسول، على حائط المبكى الواجم المنصهر في لعب الأدوار المحددة في السيناريو المعد سالفا، بل، من قدراتنا المحجوبة، على ميازيب السقط من المتاع، والخداع الملفوف بنفايات ( الأنفس الميتة)، ومن الذي يرغب في شرائها، وتوريتها عن الانفورغ ؟ ومن يحميها من التداول المحنط، والتجرد من سؤال القيمة.
ولهذا نحن نحاول تزكية وجودنا بصدمات نفسية، أقرب إلى خيارات الترفيه والاحتواء الزائغ.
أليس التجسيد الرقمي، لهذه النفس الجديدة، الموبوءة بببراديغمات مناكفة للعوالم الخلفية، هي نفسها مستدركاتنا من المرئيات الشفيفة للهوية الذاتية، المقنعة والمهصورة بفعل ( التجسيد أو الافاتار ) !؟
لست متشائما، حتما إنه تأويل حذر، ينعي حقنا في أن نجتزئ شيئا ما من خصوصياتنا المفقودة، مثلما يؤمن الكبير لوتشيانو فلوريدي من أننا «نستخدم معلومات عن أنفسنا، للتقليل من كوننا، معلوماتيا، مجهولي الاسم، ولا يمكن تمييزنا».
لقد أهدرنا فعلا، ومن حيث لا ندري، معرفتنا بالوجود، كعين ثالثة، ترى من الداخل ما يحجب عنها صلة الزمن، وبواعثه الموقوفة، تحت قهرية التدافع والتمييع الممارس عليه، وانجراره نحو مخاطر الفرز والتمايز.
أليس حقيقا بهذا العالم المعولم المخصي، بنيران الفوبيا، والاندثار الأخلاقي، والتآمر الحضاري، ذي الأقطاب المتعددة، أن يحتمي قليلا بما تم اختزاله عند أفلاطون ب( أسطورة الكهف)؟.
إذ يقدم أفلاطون الأسطورة من خلال كتابه الشاهق، (الجمهورية )، على أن بعض البشر يقضون معظم أوقاتهم مقيدين بالسلاسل، إلى جدار كهف، في مواجهة جدار ينظرون على سطحه ظلالا لأشياء، كائنات تمر أمام نار وضعت خلفهم.
فنحن، في الخلفية المبطنة لهذا الواقع، المأسور بفعل الإدراك، المتداعي برمزية التواري؟
لكن أيضا، يمكن أن يكون أفلاطون على حق وهو يستدرجنا لمنطق الأنا الفلسفية، التي يشبهها بالسجينة، الهاربة من الكهف، المدركة لقسوة الظلال، وهي تستتر كمونها الواثق على الجدار، حيث الحقيقة مغيبة وثاوية.
الأنا الفلسفية، الرامزة إلى كل الأشكال المناشدة لسمو الحقيقة، كما هي موصولة ومتواصلة بالواقع، تعود إلى داخل الكهف الأفلاطوني لمجابهة الاستبداد والظلم والثورة لأجل مناصرة السجناء؟

2 ـ نفسه ثاناتوس في ميثولوجيا
الكورونا يخدع إلــه الموت

المـــشهــد الصـــفر
مواطن أربعيني من مدن الهامش، يموت جوعا، أمام ملحقة إدارية تابعة لوزارة الداخلية، بعد انتظار معونة لم تأت.
المشهد الدراماتيكي الفجائعي، ليس سوى صورة مصغرة عن مئات الحتوف المخلة بأدنى الكرامة البشرية، تحدث كل لحظة، في الدقائق الأخيرة من نهاية أعمار تحمل أحزانها على أكف الإهانة والتقصير وسوء تدبير الأزمة.
الحلقة المفقودة في المشهد إياه، هو الوسادة التي يلتحفها الرجل، تحت إبط الإسمنت، ونيران أعين المتلصصين ممن يلتقطون صور المغدور، وهو يئن تحت رحمة آلام القصور الكلوي، الذي يعانيه..
وبين أقدام مخازنية الملحقة الإدارية، وثقل المصيبة التي هزت الرأي العام الوطني، والتي خلخلت جزءا من المسكوت عنه، في رحلة المصير المجهول، لعديد من أسر الهشاشة والضياع الاجتماعي، ينتفض فينا سؤال الاحتراق والتسويغ المر، وكتابة الفراغ :
من يتأسف على من؟ ومن يحاذر من؟ ومن يتوجع على من؟
وإلى أين المسير؟

المشـــهــد الأقــــنومــي
عشرات المواطنين يرابطون أمام بئر شحيحة في أقصى بلدة غرب الموغادور، ينتظرون أدوارهم لملء ما تجود به صنابير مطمورة واجمة، قليلة الفرشة.
يجرون بهائمهم التي يملؤون على ظهور جرارها، ما يتزودون به يوما أو بعض يوم.
عندما يسأل القوم، عن جائحة كورونا، أو طوارئها المعلقة بقوانين الإلزام والضرورة، لا تكاد كلمات الصمت تبلغ المدى، حتى تتصدع بهمهمات اليائسين من حول قطيع الحمير والأغنام المأسورة برثاء قيلولة حارة وسخيمة.
الناس هناك يبحثون عن الماء، ولا يفهمون رغبة الوباء في قطع رؤوسهم، إذا ما انزاحت الأنوف والأفواه عن استراق كمامات الوقاية من الفيروس الفتاك؟
العطش يرخي باستبداديته المهيبة، أكثر من سراب الأمل الجارف الذي يفلق القلوب والعقول.
عندما تتهجى، أو لا تكاد، تسمع أنين أطفال دوار أكشتام الواقع في نقطة مجهولة من خريطة الصويرة، في إحدى جماعاتها القروية النائية (امرامر)، وهم يستصرخونك، لأجل وَعْث من ماء مرجى، أو كلمة تسبق القرارات الرسمية العجفاء، تسمع من به صمم الضمير، فإنك لا محالة، تكتشف الميز الظاهر بالعين المجردة، بين ما تطلقه أبواق التفاهة، وما يقع على الأرض؟

المشــهــد الســـيزيفـي
ليس هناك أخطر من إله الموت الراهن، إله الغضب، الذي فجر الحقد الاجتماعي بين ثنايا الخداع، نفسه ثاناتوس في الميثولوجيا الإغريقية، الذي استطاع خداع إله الموت ذاك، فعاقبه بحمل الصخرة العظيمة، التي تنفعل بصوارم العقل الإنساني عديم الفائدة.
هي نفسها صخرة سيزيف الأبدية التي ظلت تتدحرج تحت خطى سياسة التجويع، الممارسة على فئات عريضة من الناس.
ستظل الفئات تلك، تحمل صخور مآسيها، في راهن كورونا وما بعدها. صخورا تتدحرج إلى أسفل الأحذية، وتعود لتنتشلها من الخرس، إلى قمة العذاب الأبدي ..
هكذا سنظل، نكتب عنها، دون أن نترفع يوما عن ملامسة حقيقة ضياعنا السيزيفي الأليم؟


الكاتب : د. مصطـفى غلمـان

  

بتاريخ : 21/05/2020