جائحة كورونا المستجد، و الصراعات الدولية المخفية، على مقعد القائد الجديد للعالم ما بعد كورونا

تمكن فيروس بسيط، بأصول غير معروفة، إلا أنه تميز بعدوانيته الشديدة، وبمجال للعدوى غير محدود، من النجاح
في هزيمة أقوى الدول العالمية، في مدة لا تتجاوز 3 أشهر.
بحلول شهر مارس الماضي، انضافت ساكنة الهند، إلى ما يزيد عن 3 مليارات نسمة، طبقت إجراء الحجر الصحي المنزلي، في ما يقرب من 175 بلدا على وجه المعمورة، أي نصف ساكنة الكرة الأرضية، أو 95 % من الناتج الداخلي الخام للعالم.
إننا الآن وليس كأي وقت مضى، لا نواجه «أزمة» فقط بل في صراع مع شيء ما، يمس دون استثناء القطاعات الأساسية لحياتنا اليومية، تمكن من شل نصف الكرة الأرضية الشمالي. إن احتمال انتشار عدوى كوفيد19،
في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، سيعيدنا إلى نفس السيناريوهات الصحية شكلا، لكنها ستختلف جذريا من حيث المضمون، إذ ستثير المخاوف من الناحيتين الإنسانية و الأمنية، بالرغم من آثارها الاقتصادية والمالية، الأقل حدة مقارنة بالشمال.
يتعايش العالم اليوم، بجميع مكوناته الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، مع كارثة دولية يعود أصلها إلى موجة من جائحة وبائية، ضربت بقوة مجموعة من البلدان القوية والغنية المعروفة، في سيناريو يبدو أشبه بحرب بيولوجية، تمت على المستوى السياسي-الإعلامي، بالرغم من كوننا لا نتواجه في «حرب» كلاسيكية مع عدو مرئي.
من جهة أخرى، ما الذي يمكننا أن نستنتجه، من نقاط وحصيلة مهمة من خلال قراءة الأحداث الحالية؟
في بادئ الأمر، أبهرتنا هذه الجائحة العالمية، بقدرتها على محو جميع خطوط الطول بالكوكب، وتجاوز الأسئلة حول حدود العولمة، كحجر الزاوية لتنظيم عوامل القوة على الصعيد العالمي. إن هذه الجائحة الوبائية، والتي يطلق عليها رموز العولمة لقب «سلسلة القيم»، يمكن لها ان تخطف العقول، طالما هنالك أسئلة محورية تحوم في الأفق، دون إجابة لدى شعوب العالم. لم يقتصر دور جائحة فيروس كورونا المستجد، على إظهار هشاشة الاعتماد المتبادل على «سلاسل الإمداد» (Supply Chain)، بل تجاوزه ليظهر مكامن الضعف في شبكات الاتصالات بين الدول، والتقلبات الشديدة للآليات المالية، التي تعيش من التخمينات أو المضاربات الافتراضية.
ومع ذلك، فإن فيروس كورونا البسيط، يوضح بأن توقف كل شيء، يعود لأسباب حيوية وأن هذه «اليوتوبيا» الموحدة، لن تكون نتيجتها سوى الفشل. في الحقيقة، فإن الكارثة الحقيقية المختفية وراء الجائحة الوبائية، لها علاقة بانفجار «الفقاعات المالية».
إن شعوبنا تدعو إلى التفكير، في الصلاحية على المدى الطويل لأساليب حياتنا، التي قد تنهار لاسيما بالنسبة للحكامة، لما تبديه من سطحية وبدون قوة في مواجهة مثل هذه الأحداث. ليس علينا التشبث بأحلامنا وكأنها واقعنا المعيش، بيد أن ممارسة الأزمات تدل على أن هنالك ميلا إلى نسيان أو تكرار نفس الأخطاء، التي تبين بأن الطبيعة البشرية والجشع، هما وجهان لعملة واحدة…
إن المسألة الثانية، تتعلق بتحركات دول العالم لتغيير أو إعادة رسم الحدود، كتوجه معاكس لما حلمت به بعض المنظمات الدولية، مستعينة بالسعي وراء «تعددية الأطراف» و«التعددية الثقافية»، إلا أن هذه المنظمات اختفت رفقة مساعيها مع انتشار جائحة كورونا. إن المنصات الحكومية الدولية، لم تعد فعالة ولا مسموعة، سواء أكانت «مجموعة السبع» أو «مجموعة العشرين»، «الاتحاد الأوروبي»، أو لسبب ما «منظمة الصحة العالمية». إن كل النقاشات السابقة، حول إشكالية التغير المناخي أو الطاقي، قد اندثرت بمرور الأسابيع.
إن الإجراءات المتبعة، من طرف الجيوش البيروقراطية، بغية تطبيع العلاقات الدولية، تم تجاوزها لحشد المواقف وتكييفها مع كل منطقة. في هذا الصدد، يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي، المنظمة الأكثر استهانة وتكاسلا، في التصدي للأزمة الوبائية المستعجلة، مؤدية إلى تفاقم الانقسامات بين الدول الأعضاء، والتشكيك في مصداقية الاتحاد وقوته. في الحقيقة، لقد شهدنا تراجعا شبه آني لجميع الدول، على مستوى حدودها التاريخية، وعودة ظهور مبادئ السيادة المرتبطة بخصوصيات كل شعب، فمنهم من طبق أو مارس الرفض و الإنكار، ليصطدم بسرعة مع حقيقة الواقع، وأبدى درجة من التعنت مع جيرانه في المناطق المحيطة. إن الملائكية الطفولية إلى حد ما، التي يؤمن بها أنصار «العولمة السعيدة»، تتعارض مع العودة المفاجئة لمسالة إغلاق الحدود، أو حتى بناء الجدران العازلة على بساطنا الاستراتيجي، على غرار الابتزاز و التهديد التركي، للاتحاد الأوروبي بالسماح لأفواج المهاجرين، بالانتقال إلى الجناح الشرقي من أوروبا.
لقد التزمت دول العالم، بمساعي منفردة لصناعة حكامتها الخاصة، مستندة إلى أساسياتها الثقافية والحضارية، ما بين آسيا والمشرق بغرض معالجة الأحداث. فعلى سبيل المثال، تعمل الصين بخلاف دول آسيا، التي تعيش أزمة كوفيد19، على تطبيق تدابير قسرية واستبدادية، تبدو ملامحها جلية وواضحة، عند مقارنتها بالحريات في الغرب، إلا أنها لا تمثل سوى الروح الآسيوية، التي تغلب صفة الجماعة على الفرد. إن إعادة قراءة مؤلف «إغواء الغرب» لاندريه مارلو، كفيلة بتكوين فكرة واضحة حول رمزية الجماعة لدى بعض ساكنة الصين، مواطني كوريا واليابان وسنغافورة، في مواجهة بعض الأحداث المهمة، حيث أن لأهمية الحياة معنى مختلف جدا، عن حال شواطئنا الغارقة في الإيمان التوحيدي.
إن هذا الحمل المبني على تعدد الثقافات، أكثر وضوحا في مواقفنا الأوروبية. في ألمانيا، كما الحال في سويسرا، أو في بلدان أوروبا الشمالية، تتم قيادة الأمور من على هضاب الجهات أو العمالات أو المدن، في لامركزية واضحة و مسؤولية ملقاة على الفرد، يعود السبب فيها إلى الثقافة البروتستانتية. تتميز الدول اللاتينية، بالفردية والكاثوليكية بالرغم من التناقض بينهما، نفس الحال يشهد لفرنسا وأسلوب العمل المستند إلى الدولة القومية المركزية ذات الرؤية السيادية، المحمية من قبل هيئات من الخبراء المعترف بهم.
من المثير للاهتمام أيضا، ملاحظة المنظمة الأمريكية الشمالية، الفريدة من نوعها من حيث القدرة على الصمود. لدى الأمريكيين أيضا، تمسك بثقافة المخاطر الحقيقية، مرتبطة بتطبيقهم للديمقراطية المدعومة بالمعتقد الإنجيلي، الذي لا يمكن الاستهانة به. إن للشعب الأمريكي، ذي الأصول المتفرعة من ثقافة الهجرة، قدرة لا يستهان بها، في تقدير حجم المخاطر الكبيرة. نفس الأمر، ينطبق على الشعب الروسي، الذي ورغم صلابته الكبيرة، يجسد رؤية «روما الثالثة»، تجسيد يمكنهم من تقبل مستويات عالية، من التضحية بالنفس والوطنية، قل ما نراها في شعوب الأرض. من جهة أخرى، يتبقى لدينا باقي شعوب العالم، أو نصف ساكنة الكوكب الأزرق، حيث تنصاع القيادة لشروط جماعية أو عشائرية أو عرقية أو حتى دينية، حيث تعرف الحكامة بنوع من الفساد المستشري. في هذه الاراضي، المتموقعة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي أو في مناطقنا الرمادية الخاصة، لم تعد تعتمد المقاربات العقلانية فيها على الوسائل الصحية المتطورة، بل على المرونة غير المندمجة، مع منطق حياة غير مستقر.
لا يمكننا من جهة أخرى، تجاوز الجانب الإيجابي، في نقل المعلومة من قبل وسائل الإعلام، مع كل المستجد الصحي. لقد تعايش التاريخ البشري، مع العديد من الجوائح والأوبئة بمستويات مختلفة من الأخلاقية، لم نكن على دراية منذ قرن من الزمان بها.
إن أبرز الأوبئة، في سجل العالم التاريخي، ارتبطت بموجات «الإنفلونزا الآسيوية» في 1957-1958 و في 1968-1970 مخلفة قرابة 1 مليون وفاة، ثم «الإنفلونزا الإسبانية» في 1918 بما يربو من 50 مليون وفاة، وفيروس «نقص المناعة المكتسبة» منذ 1980، الذي أزهق أرواح ما بين 25 إلى 35 مليون إنسان. لا يعلم الكثير من الأشخاص، مدى عمق أثر نسبة الوفيات في العالم، على الأسئلة الوبائية المتعلقة بالكثافة السكانية، خلال قرن كامل من التطور الطبي والعلمي.
ومع ذلك، فإن الأنماط التمثيلية، المتنقلة حاليا رفقة الملايين من ضحايا الوباء حول العالم، لها وقع شبه كارثي على الأشخاص و الأفراد، الذين لا يمتلكون ملكة التأني وروح النقد.
إن القدرة على التساؤل، حتى ولو بشكل خيالي اجتماعي، أساسية خلال فترات الأزمات أو في الأحداث المشابهة لما نعيشه حاليا، فكما يقول ميشيل مافيزولي، «لقد غادرنا عالم العقلانية لنلج لعالم ما بعد الحداثة»، حيث أصبحت المشاعر والآنية، هي الأدوات الأكثر استخداما لتقييم واقعنا المعيش، بيد أن جميع الأرقام المعلن عنها سواء من قبل العلماء أو السياسيين، تأتي ككناية عن قرب انهيار العالم. إن ما نلاحظه اليوم، من انتشار اللاعقلانية على عدة مستويات، متعمقة أكثر في طبقات اتخاذ القرار، ومندمجة بشكل واضح في معضلاتنا الإيديولوجية، التعاونية والتكنوقراطية.
هناك صعوبات جمة، في التفريق بين الواقع ومؤسساتنا لا سيما الأوروبية منها، التي لم تجابه منذ ما يقرب من سبعة قرون مضت، أزمة مشابهة لما نعيشه اليوم. لم تواجه المؤسسات الأوروبية، خلال فترة مكوثها على كوكب الأرض، سوى الأزمات المرتبطة بالرفاهية، لم تسعفها في تكوين مراجع قوية، تستند بها لمواجهة المحن، بيد أنها لم تصادف يوما ما يتجاوز مؤشر «صفر الموت» أو «الخطر صفر». إن هذا التصادم، ما بين وحشية الواقع وافتراضية النماذج، يفاقم و ينمي المخاوف وعدم الثقة تجاه النخب، لأن المخاوف المتولدة من الشعوب، خطرة وضارة أكثر من الفيروس بذاته. إنها تشبع الشاشات، تطغى على الشبكات الاجتماعية، تندهش من الآراء المخالفة وتخيف الآخرين.
تتمة لما سبق، فإن الجمع ما بين انهيار اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، وعودة الحدود وتمسك اللاعقلانيين بقبضتهم، على مسار العمل في مجتمعاتنا، لا يمكن إلا أن يشكل تحديا لنا في رغبتنا، للخروج من هذه الأزمة الوبائية العالمية. علينا أن نخشى من أن يتحول الخروج من الأزمة، إلى ذريعة لفتح جولة جديدة من لعبة دولية عظيمة، لها وقع يشبه تساقط قطع الدومينو، كنتيجة للأحداث الدولية الحالية، تغري القوى الدولية لتحديث الوضعيات من حيث موازين القوى. من الواضح، أننا لا نملك مفرا ينجينا من الوقوع في هذه المعضلة، بيد أن العالم وقبل قدوم كوفيد-19، كان بصدد التعايش مع جدول أعمال جيوسياسي غير واضح المعالم مرتبط بال «بريكسيت»، «الانتخابات الأمريكية»، ومن سيخلف بعد «الرئيس بوتين»، الانتقادات الداخلية لسياسة «شي جين بينغ»، خاصة أن الأزمة الوبائية العالمية تأتي في فترة زمنية مهمة بالنسبة للرئيس الصيني، الذي رغب في إقرار خطته لما يعرف ب «طريق الحرير الجديد»، التي تتصادف مع عزمه إعلان الصين كالقوة العالمية الأولى اقتصاديا ل2020-2021، ولأن الفترة الحالية تمثل فرصة استثنائية للصين، قد لا تتكرر في المستقبل القريب. لن عود بلد «العم سام»، في مرحلة ما بعد كورونا، كما كان قبلها أو كما أعتاد ان يصف نفسه «الأول والعظيم مرة أخرى!»، وذلك بسبب الانقسامات الداخلية في الحكامة على مستوى ولاياته، والتي ما زالت تدفع اليوم ثمن هذا الانقسام، الذي أدى لنقل الثروات وإعادة التموقع.
بالنسبة للرئيس الصيني، فإن ما تعيشه دول العالم والولايات المتحدة الأمريكية، سيكون ورقة رابحة له في مسعاه، لمحو من يقف في طريقه من المعارضين الداخليين، وإسكات المعارضة داخل المجالس التي تقرر القوانين وتفعلها، ما سيحوله في نهاية المطاف لمنقذ للعالم.
إن ما يسعى إليه الرئيس الصيني، من تقديم مساعدات طبية تتمثل في الأقنعة الواقية، الموجهة نحو بضعة دول أوروبية، ليست سوى وسيلة لإظهاره في صورة «الشهم» و«الخبير» في مجال المعلوميات، والمطلع على المسائل والأسئلة الطبية، من خلال تحكمه في نظم الذكاء الاصطناعي.
من الواضح أن دونالد ترامب، أراد أن يظهر نفسه ك»القائد الأمثل» للعالم في مواجهة أزمة الجائحة العالمية، ضاغطا على عباقرة «السيلكون فالي» والمؤسسات الصيدلية الكبيرة في أمريكا، لتكثيف الجهود في سباق محتدم ضد الصين، لإيجاد لقاح فعال للفيروس، وفي إشارة منه إلى أن حروب المستقبل ستعتمد في ما يقطع الشك، على الخوارزميات أكثر من اعتمادها على التعدين.
إن من شأن الازمة الصحية الوبائية، أن تعيد ترتيب وتفريق الأوراق بوتيرة سريعة جدا، تحدد من سيلعب دور الطيب والشرير عالميا.
إن موجة الاتهامات ما بين الصين والولايات المتحدة، مع تراشق الاتهامات من قبل الصين لبلاد العم سام، وتحميلها مسؤولية نشر الفيروس على أراضيها، ليعود ترامب في مناسبات عدة ويؤكد بأن الفيروس ذو «أصول صينية».
ما يجب توضيحه للأمريكيين، لاسيما القائمين على القطاع المالي بهذا البلد، بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تعود عظيمة كما عهدت دائما، وأنه ليس من الغريب أن يختار ترامب دعم الرئيس بوتين لتولي عهدة رئاسية جديدة، وأنهما ربما سيعملان معا على التأسيس لقطب تجاري عالمي جديد، انطلاقا من نصف الكرة الأرضية الجنوبي، فقط لمواجهة الزحف الصيني الاقتصادي والمجالي السريعين. من جهة أخرى من المتوقع أيضا، ان تنجح الاستراتيجيات القيادية لبوتين، التي تدعم التوجه الطاقي الجديد، ومساعيه لتأمين سوريا وتدخله في أزمة أسعار النفط مع السعودية، في تقوية التواجد الروسي على الصعيد الدولي.
إن فيروس كورونا المستجد، هو مثال جيد على هذا الفن الدقيق، الذي يمارسه الآسيويون، المستند على ربح الحروب دون الحاجة إلى القتال.
على الصينيين في نهاية المطاف، الحذر من الاتحاد بين بلد «العم سام» و «القيصر الروسي»، قوتان لم تعانيا بعد من المرض، الذي أثقل كاهل القارة العجوز.


الكاتب : n ترجمة: المهدي المقدمي

  

بتاريخ : 29/05/2020