مسارات من حياة الشعيبية طلال 17- تجربة السذاجة أم سذاجة التجربة؟

لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية.
سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.

اختلف الدارسون والباحثون والفنانون ونقاد الفن التشكيلي ومؤرخوه، حول التصنيف الذي يمكن أن تُدرَج ضمنه التجربة الفنية للشعيبية، أهو “الفن الفطري الساذج”؟ أم “الفن الخام” أم “الواقعية الساذجة”؟ أم “مدرسة كوبرا” أم “المدرسة المكسيكية”؟أم أن الشعيبية تشكل بمفردها مدرسة مستقلة”؟
“الفن الفطري الساذج”
تعصر الشعيبية علبة الألوان كما هي غامقة أم فاتحة.. وبأصابعها وراحة يدها، تشكل بقعات ولطخات وبصماتٍ لونيةً مباشرةً على اللوحة، بشكل عفوي وبسيط. وفي حين ترى مؤرخة الفن طوني مارايني أن الشعيبية تنتمي إلى “الفن الفطري الساذج”، يذهب البعض إلى أنها تنتمي إلى”الواقعية الساذجة” إذ” تتعامل مع معطيات المرئي والمحسوس بنظرة فنية بدائية”.أما الفنانة ربيعة الشاهد، فترى أن الشعيبية تنتمي إلى المدرسة الوحشية في الفن التشكيلي، حيث الاحتفاء بالألوان الصارخة وتحوير الأشكال،وقد عرضت في أشهر أروقة الفن الوحشي (آر برووت).
مدرسة “الفن الخام”
أدرج نقاد غربيون الشعيبية -يقول الفنان الحسين- ضمن مدرسة “الفن الخام” التي أنشأها النَحّات والفنان التشكيلي ومؤسس متحف الفن الخام بلوزان الفرنسي جون دو بوفيه”، والتي ستعرض الشعيبية مع روادها. ويرى الناقد الفني بنيونس عميروش، أيضا، أن تعبيرها الصباغي يدخل في إطار ما يصطلح عليه “الفن الخام”، إذ أعمالها الفنية -يقول- تتنكرلجزئيات وتفاصيل العمل، وهي بفضل ميلها إلى التسطيح والتبسيط ومحاكاة الواقع المرئي وإخضاع التمثيل للتعبير، وانتمائها إلى الطفولة المستدامة، تنزاح عن الفن الساذج. “وقد مكنها عملها التلقائي الخام”-يقول الفنان عبد اللطيف الزين- من اكتساب قيمة شعبية، وخصوصية إبداعية أصيلة، وبصمة خاصة في التعامل مع الألوان، والخامات، والخط، والمساحة اللونية، والتداوير، في شكل هائج تارة وفي شكل متضافر وهادئ تارة أخرى”.
“مدرسة كبراِCOBRA”
عندما وقف الفنان أوغست كورناي أحد نجوم حركة كوبرا والذي تُقتنى أعماله بأموال طائلة، أمام لوحات الشعيبية بفرنسا، جثا على ركبتيه تأثُّرا، وصاح: “يا للروعة،هذا لا يصدق .” بعد هذا الموقف بعام، تعْرِض الشعيبية معه بروتردام .وفي الوقت الذي يقول فيه البعض بأن “الشعيبية تنتمي لجماعة كوبرا لوجود بعض القواسم المشتركة،حيث تلتقي معهم في: رؤية مشتركة للفضاء(غير الموجود) وفي بعض الأشكال الخطية للرسم والطابع الحكائي والمشهدي.. “، يقول الأستاذ الباحث محمد برادة بأن “الشعيبية لاتنتمي مطلقا إلى مدرسة كوبرا، لأنها تتميز عن فنانيها بغياب النزعة الإرادية المتعمدة لخلخلة التعبير المنظم للفن”.
“المدرسة المكسيكية”
إن “الألوان في لوحات الشعيبية- يذهب الشاعر والناقد الجمالي طلال حيدر- أجرأ من الخطوط على مجابهة العين، وإن الشعيبية في صنيعها التشكيلي هذا، توحي بأنها متأثرة بالمدرسة المكسيكية”.
“ليست فطرية أوساذجة”
تقول الشعيبية:” أنا أكرر ولكن هذا مهم، مثل رسوماتي وألواني فأنا ملونة في الأصل، ألواني ترمز للحياة و الطبيعة. فأنا أرسم مشاهد من الحياة العادية وكذلك مواقف غريبة، رسوماتي تجعلني سعيدة. فأنا جد سعيدة بالرسم، بالمنزل، و بالكلاب….” . إن”الشعيبية غير فطرية- يقول الباحث الدكتورحسن نجمي- فهي المرأة الأصيلة الملوِّنة فنا وروحا ونظرات. لم تكن “ساذجة” أو”فطرية”. كانت فنانة بالمعنى العميق والجوهري، فنانة بالمعنى الإبداعي والإنساني. فنانة فقط”. وكذلك “ليست الشعيبية – يقول أندري لور- “لا وحشية” و”لا بدائية”، إنها فقط تنتمي إلى أرض متحجرة، حيث البراءةُ والثقافةُ الشعبية والدم الحار، ما تروي القلوب والرؤوس.
“مدرسة مستقلة”
لاغرْو أن الشعيبية فنانة واعية بالفن، ورؤيتها لا تخضع -كما تقول الناقدة الفنية سيريس فرنكو- لقانون الرسم الساذج الاحترافي.إنها تعبيرية ملونة وفنانة ملهمة”.. صاغت أسلوبا منفردا خاصا بها، له قواعد إبداعية مبتكرة من اللون والتشكيل، مشرعا على كل قراءة وتأويل.وتميزت- يقول الناقد والإعلامي أحمد الفاسي- بالتلقائية..كانت عليمة بقصة الوجوه التي ترسمها وكأنها تعايشها وتقاسمها آلامها وأفراحها.. لم تنسلخ عن انتمائها الطبقي الشعبي، ظلت وفية لوطنيتها وحبها للأرض والناس والبساطة في العيش واللباس..لم تغتر رغم ما حصدته من مقومات الشهرة والنجاح.
ولقد لاقت تجربة الشعيبية والفن الفطري عموما صدا وحربا من مثقفي الستينيات وخاصة الفنانين التشكيليين الذين اشتهروا بمجموعة65
ففريد بلكاهية، رأى أن الفن الفطري، “شكل من أشكال التعبير العاجز عن التطور والنمو على المستويين الجمالي والروحي، وهو بهذا لا يمكن أن يغير أو يعمق بحثه، لعدم وجود معاناة فنية..”.
وصرح محمد شبعة بأن “الرفض الذي كنا نطرحه(أي مجموعة65) بخصوص الفن الفطري، إنما كنا نسعى من خلاله إلى الحفاظ على الخصوصية الثقافية المحلية والإفريقية”.
وأكدت طوني مرايني ناقدة ومدرسة مادة تاريخ الفن بمدرسة الفنون الجميلة، أن من رواد الفن الفطري المغربي كل من محمد علي الرباطي ومحمد بن علال ومولاي احمد الدريسي والشعيبة طلال وفاطمة حسن الفروج. وقد طبعت أعمالَ الرعيل الأول من التشكيليين البساطةُ في توظيف الألوان الصريحة بشكل مساحات وتوزيع العناصر الشكلية على كامل السطح التصويري، ولم يهتموا بالمنظور الشكلي واللوني ، كما عمدوا إلى تحديد أشكالهم بخطوط غامقة لتأكيد الشكل. “وتبدو أعمال الشعيبية خالية من أي قيمة تشكيلية، وعبارة عن خطوط ولطخات وبصمات ملقاة دون تفكير مسبق.
إن الفنانين الذين أطلق عليهم نعت “الفطريين”، على شاكلة سعيد ايت يوسف (راعي) ومحمد الناصري (إطاراتي) ومحمد لكزولي (حلاق) و عبد الرزاق سهلي (كوامنجي).. إنما جاءوا عالم الفن لا يملكون أي علم أو معرفة ، ولولا الأجانب ماكان لذكرهم أي معنى. فالرسام الايرلاندي السيرجون لافيري، دعم محمد بن علي الرباطي الذي كان طباخا لديه، وبرّز الرسام جاك أزيما، موهبة الرسم والتلوين لدى الفنان أحمد بنعلال، الذي كان يشتغل طباخا عنده، والرسام الأمريكي فريدريك بول بولز الذي زار طنجة في الأربعينيات، أخذ بيد فنانين بسيطين يدعيان محمد الحمري وهو صاحب مطعم صغير وأحمد بن ادريس اليعقوبي الذي كان من صعاليك مدينة طنجة ، وساند ج.لوران الفنان عبد السلام بن العربي، واحتضن الفنانان السويسريان فويكس مولاي احمد الدريسي،الذي كان مرشدا سياحيا،والذي استفاد أيضا من الفنانة السويسرية ليوفيو، وساعد المهندس سميث عبد السلام بن العربي الفاسي، وشجع الجينرال كوديير مؤسس متحف الفن الحديث بنيويورك حسن الكلاوي، وساندت الفنانة الفرنسية/اليهودية جاكلين ماتيس بروتسكيس البستاني أحمد الورديغي وزوجته فاطنة الورديغي وفاطنة بنت الحسين وفاطمة حسن وحسن الفروج..ومحمد لكزولي، وشجع بيير كوديبير وكيردت فيرنر الشعيبية طلال.وقد فهم تشجيع الغرب هذا على أنه تنقيص من قيمة الفن التشكيلي المغربي، لإظهاره فارغا، ومنتجا للبدائي والساذج، بل وعاجزا عن تأسيس تجربة حداثية تعبر عن هويته وخصوصيته.
اختلف الفنانون ونقاد الفن وكثير من المثقفين في المغرب، حول : هل الفنانة الشعيبية موهبةٌ فطرية فعلية، وما أنجزته إبداع حقيقي، يتطلب الوقوف عنده وتثمينه، أم أن الشعيبية مجرد هاوية، وأن ما أنجزته لايعدو كونه عملا سطحيا وهبوطا للذائقة الفنية والجمالية، صادف النفخ والتطبيل؟
إن من يتتبع مسار الشعيبية طلال، ليقف على قدر امرأة مميزة وتشكيلية محترفة،عرفت الحظوة والشهرة والأوسمة والتقدير والاعتراف والجوائز، امرأة سبقت زمانها، ورفعت راية بلادها في البلاد المتقدمة، وأثارت نقاشات حول تجربتها الفنية الفطرية، وحول ما يسمى ب”الفن الفطري”، طارحة إشكالا فنيا إن على صعيد التكوين أو اللون أوالمرجعية، وسجلت اسمها بمداد من الفخر في سائر أنحاء الدنيا. فمن لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل؟


الكاتب : عزيز الحلاج

  

بتاريخ : 30/05/2020