المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير يؤبن الفقيد عبد الرحمن اليوسفي

مصطفى الكثيري: « كان لك دورٌ بارز وأساسي في تزويد المقاومة بالسلاح..»

 

بسم الله الرحمان الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى اله وصحابته أجمعين .
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ،ولاحول ولا قوة إلا بالله .
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المبين : ” وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ” .
ويقول عز من قائل : ” من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ” صدق الله العظيم
فقيدنا العزيز سي عبد الرحمان اليوسفي ،
تشاء الأقدار الإلهية أن تلبي داعي ربك وترحل عنا إلى دار الخلد والبقاء وأن نودعك في هذا اليوم الأغر من شهر شوال الأبرك بعد شهر رمضان الكريم شهر الصيام والقيام،شهر التوبة والغفران وهي أيام لها منزلة كبرى عند الله تبارك وتعالى و في نفوس المؤمنين.
وهاهم إخوانك ورفاقك على درب الكفاح الوطني وفي الحركة الوطنية والتحريرية والمقاومة يودعونك الوداع الأخير،تحفك العناية الإلهية ويشملك حب وتقدير كل من عرفوك وعايشوك وجايلوك إبان فترة الكفاح الوطني وملحمة ثورة الملك والشعب الخالدة .
أخانا الأعز السي عبد الرحمان اليوسفي، الوطني الغيور والمقاوم الجسور والمجاهد المبرور، تغيب عنا اليوم وقد خلف هذا المصاب الجلل أسى وحسرة ولوعة الفراق في نفوس أسرتك الصغيرة والكبيرة لكنها مشيئة الله تبارك وتعالى ولا راد لقضاء الله وقدره،ولا نملك إلا الإيمان والتسليم لحكمته ومشـيئته سبـحانه وتــعــالى فهو المحيي والمميت “وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام “.
وليس لنا في هذه اللحظة المؤثرة ووقفة الوداع الأخير إلا أن نتوجه إلى الباري عز وجل أن يتغمدك بواسع رحمته ومغفرته وعميم رضوانه وستظل ذكراك العطرة ومسيرتك النضالية الحافلة بالمواقف الخالدة حاضرة في الأذهان،بادية للعيان ومنقوشة في الوجدان بمداد الفخر والاعتزاز و بالقيم الإسلامية الحقة وبالروح الوطنية الملتزمة والمواطنة الايجابية .
لقد كنت يرحمك الله من الوطنيين الأوائل ومن مناضلي الساعات الأولى والماهدين للعمل الوطني منذ التحاقك في سنة 1943بمدينة الرباط للدراسة بثانوية مولاي يوسف حيث تعرفت فيها على الشهيد المهدي بنبركة وتمرست على نشر الوعي الوطني وتنوير أبناء جيلك، فكانت بداية مشواركالطويل من النضال من أجل استقلال الوطن وحريته. ولما صدر قرار طردك من ثانوية مولاي يوسف، عقاباً لك على مشاركتك في مظاهرات التأييد والمساندة لوثيقة المطالبة بالاستقلال،التحقت بمدينة الدار البيضاء، وخضت تجربة رائدة وطلائعية في إشاعة الفكر الوطني والممارسة النقابية وسط الطبقة الشغيلة والعمال وتلقينهم مبادئ التنظيم النقابي، فانخرطت في نشاط دؤوب وعزمٍ لا يكلّ متنقلاً بين المعامل والمصانع والمقاولات تحت غطاء تقديم دروس في محاربة الأمية للعمال ودروس الدعم لأبنائهم، مشجعاً إياهُم على التعاون والتآزر لتأهيلهم حتى يتمكّنوا من الدفاع عن حقوقهم المهضومة وليلتحقوا بركْب النضال الوطني من أجل نصرة الوطن واستقلاله.
انتقلت سنة1949 إلى الديار الفرنسية لإنهاء دراستك الجامعية وتعبأت وانغمرت بحماس وإيثار ونكران الذات في تأطير الطلبة والعمال، مغاربة ومغاربيين، ونشر الوعي الوطني في صفوفهم وبين أحضانهم ، ونسجت شبكة علاقات واسعة ووطيدة مع صفوة من المناضلين المغاربيين. ولأن أعين المستعمركانت ترصد حركاتك وسكناتك، صدر القرار بطردك من التراب الفرنسي لولا أن تدخلات ووساطات حالت دون تنفيذه، ليتم في نهاية الأمر نفيك من باريس الى بواتيي.
وعند عودتك إلى المغرب بعد إتمام دراستك الجامعية، اخترت الاستقرار بمدينة طنجة وفتحت مكتباً للمحاماة بها. وصادف هذا الحدث، وصول الدكتور عبداللطيف بن جلون إليها قبلك بقليل، مما شكّل دعماً ثمينا وسنداً قويا لمكتب فرع حزب الاستقلال الذي كانلك الفضل في تأسيسه سنة 1946.وبعد اعتقال معظم أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال غداة الإضراب العام التضامني مع الشقيقة تونس التي تعرّض قائدها النقابي فرحات حشاد للتصفية، تحوّل ثقل الحركة الوطنية إلى مدينة طنجةفتأسست بها لجنة التنسيق والاستخبار مؤلّفة من خِيرة المناضلين المتمرسين من أمثالك وأمثال عبداللطيف بن جلون والمختار الوسيني وعبد الكبير الفاسي والغالي العراقي والحسين قصارة ومحمد العربي الفحصي يرحمهم الله جميعا.


وكان لك دورٌ بارز وأساسي في تزويد المقاومة الناشئة بالسلاح بواسطة مبعوثها المرحوم الحسن العرائشيفواصلتبمعية رفاقكتقديم العون والدعم اللوجيستيكي للمقاومة إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان باعتقال المقاوم الحسن العرائشي بباريس وانكشاف أمر علاقته بشبكة ترويج السلاح من طنجة، فصدر أمر قضائي باعتقالك أنت ورفاقك وعبدالكبير الفاسي والغالي العراقي ومصطفى بولوفة وغيرهم. فاضطررت لمغادرة طنجة قاصداً مدريد لتلقي العلاج بها بعد المرض الذي ألمَّ بك، لتبدأ صفحة أخرى من النضال بوضع لبنات جيش تحرير مغاربي بتنسيق مع ثلةوصفوة من المناضلين الجسورين أمثال أحمد بنبلة ومحمد بوضياف ومحمد خيضر والحسن أيت أحمد والعربي بلمهيدي وحافظ إبراهيم وبدعم من الملحق العسكري المصري بمدريد، إلى أن تحقَّق المبتغى والمراد بعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى وطنه وعرشه وإعلان استقلال المغرب.
وحتى وأنت في المنفى،دأبت على معانقة قضايا الوطن ومصالحه العليا في قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالخارج مثلما نشطت في اتحاد المحامين العرب وفي المنظمات الحقوقية والإنسانية.
غداة الاستقلال،واصلت الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر من أجل بناء وإعلاء صروح المغرب المستقل ووقفت في صفوف الحركة الاتحادية كامتداد لحركة التحرير الشعبية، فكنت من المؤسسين لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في يناير 1959 وتوليت إدارة الصحافة الاتحادية في جريدة التحرير وصدح صوتك المدافع عن الحريات العامة الفردية والجماعية وعن حقوق الإنسان وإرساء دولة الحق وسيادة القانون والبناء الديمقراطي.
ولأن أطرافا وأجزاء من التراب الوطني ظلت رازحة تحت نير الاستعمار، فقد أبيت إلا أن تواصل معركة التحرير،وكنت من السباقين الذين أداروا المعركة السياسية لجيش التحرير بالصحراء المغربية، علاوة على مشاركتك في الحراك السياسي لمغرب الاستقلال مما عرضك للاعتقال سنة 1960، ثم النفي خارج الوطن الذي امتد إلى سنة 1980.
تحملت بعد عودتك إلى ارض الوطن مسؤوليات ومهاما في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى أن تقلدت المسؤولية الأولى فيه،ككاتب أول فأديتها بكل التزام ووفاء وإخلاص وإيثار وأمانة ونكران الذات، وقد شاءت الإرادة الملكية إسناد مسؤولية قيادة حكومة التناوب التوافقي في عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني، فتوليتهافي مارس 1998 ملبيا نداء الواجب الوطني لتبدأ مرحلة جديدة من البناء الديموقراطي والمؤسساتي وإنجاز مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية.
وتقديرا واعتبارا لشخصيتك الوطنية ولخدماتك وتضحياتك الجسام خصك صاحب الملك الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله بتجديد الثقة فيك وإعادة تعيينك وزيرا أول في الحكومة التي تم تشكيلها في 6 شتنبر 2000.
وفي سنة 2016، أشرف جلالته على تدشين شارع يحمل اسمك بطنجة، مسقط رأسك تكريما لما تتحلى به من مناقب حميدة وخصال أخلاقية وإنسانية.
كما تفضل حفظه الله في سنة 2019بتشريفك بإطلاق اسمك على فوج الضباط المتخرجين من المعاهد والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، تكريما لمبادئك الثابتة في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة.
لقد ندرت نفسك وروحك وحياتك مؤمنا بقضية وطنك ومتمسكا بمقدساته مثابرا في اتصالاتك وعلاقاتك بأقطاب المقاومة وجيش التحرير عاملا من أجل إعلاء راية وطنك وحريته ووحدته .
ويشهد لك الجميع بصفاء سريرتك وحسن سيرتك ونبل أخلاقك وسمو مقاصدك ولطف معشرك وصدق رفقتك وجميل وفائك، كنت راسخ الإيمان قوي الصبر ورفيع القدر، ملتزما ووفيا لقضايا الوطن ومصالحة العليا ولمقدساته وثوابته فاعلا للخير ومحبا للغير، خلوقا ومتواضعا تفرح بالوافد عليك تلقاه بالابتسامة والانشراح وتحيطه بطيب الحفاوة وكرم الوفادة ورحابة الصدر وحسن الاستقبال. وهي كلها وغيرها من شيم المؤمنين الصادقين والمناضلين الثابتين على العهد والمجسدين للقيم والأخلاق السياسية والطهارة النضالية .
وأذكر لك وأتذكر ولعل الذكرى تنفع المؤمنين وجهك البشوش وقلبك المفتوح ولسانك الذي يلهج بالكلمة العذبة كما اكبر فيك تواضعك وطيبوبتك واقدر التزامك ووفاءك وكلها من شيم المؤمنين الصادقين الذين اصطفاهم الله في خلقه .
وعندما ألم بك المرض واشتد السقم ، تحملت الأمر بصبر وشجاعة الصابرين وإيمان المؤمنـــين المحتسبـين وبقيت تلقىوتبادل مشاعر التواددوالتعاطف والتراحم في وجوه المحيطين بك من عائلتك وأهلك وذويك وعودك وكلهم أمل وتفاؤل في أن تتجاوز ظروف المرض الذي ألم بك وألزمك الفراش، لكن إرادة الله شاءت أن تلبي داعي ربك وتلتحق بجواره فلم يمهلك القدر، فهنيئا لك بلقاء ربك بعد حياة جاهدت فيها وأعطيت الكثيروقدمت لوطنك وملكك جليل الأعمال وكريم الأفضال، فلله ما أعطى ولله ما أخذ.
فسلام عليك فقيدنا سي عبد الرحمان اليوسفي يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا وهنيئا لك أيها الفقيد العزيز وأنت تنعم بجوار ربك راضيا مرضيا وعزاؤنا ومواساتنا مجددا إلى رفيقة دربك والى أسرتك الكبيرة من رفاق المقاومة وجيش التحرير ولا يسعنا في هذا المحفل التأبيني الخاشع المهيب إلا أن نذكر قوله عز وجــــــل من قائل “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي ” ونتبرك بقوله تعالى:” وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون”.
صدق الله العظيم ، و إنا لله وإنا إليه راجعون.


الكاتب : مصطفى الكثيري

  

بتاريخ : 04/06/2020

أخبار مرتبطة

لا شك أن الفنانة كرسيت الشريفة، سوف تبقى شخصية غنية خصبة متعددة الجوانب، لأنها لم تكن فنانة اعتيادية أو مؤدية

  على بعد أيام من تخليد العيد الأممي للطبقة العاملة، تعود الشغيلة الصحية للاحتجاج، تعبيرا منها عن رفضها للإقصاء الذي

  تشكل القراءة التاريخية لتجارب بعض الأعلام المؤسسة للفعل السياسي و الدبلوماسي في المغرب المستقل، لحظة فكرية يتم من خلالها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *