عبد الرحمن اليوسفي وتداعيات الصور

– 1 –

فقدت الحركة الوطنية المغربية بوفاة المناضل عبد الرحمن اليوسفي، واحداً من أوجهها المشرقة وعلاماتها الرمزية. لم تكن طلائع الحركة الوطنية زمن تأسيسها في أربعينيات القرن الماضي، وانخراطها في تدبير دفة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال والحرية والتقدم، لم يكن عدد الطليعة المبادرة بالعمل في التنظيم كبيراً، إلا أنه رغم قلة عدده، امتلك الجرأة والمبادرة الصانعة لِما أصبحنا نعرف من حركة وأفعال ونضالات، تُعَدُّ اليوم عنواناً لفعل تاريخي لا يمكن إغفال أدواره في الاستقلال، وفي بناء كثير من الأوجه الصانعة لأهم سمات حاضرنا ومشهدنا السياسي، وخاصة في السنوات الأولى، التي تلت حصول المغرب على استقلاله السياسي في منتصف الخمسينيات، وانطلاقه في بناء مشروع مجتمعي جديد.
عندما سمعت خبر وفاة المناضل عبد اليوسفي، استحضرت أولاً وقبل كل شيء نوعية الحضور، الذي كان يتمتع به مع الرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، وقد غَيَّب الموت اليوم أغلبيتهم. استحضرت أسماء علال الفاسي والمهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمحجوب بن الصديق والفقيه البصري وابن سعيد آيت يدَّر.. استعرضت مآثر البدايات، في زمن الاستعمار والأمية وثقل والخرافة والموروث الطرقي، وكذا سيادة الخوف المقترن بالفقر والجهل وحياة الكفاف. وتساءلت كيف تسنى لهذه الطليعة المستنيرة، أن تُرَكِّب شروط تاريخ مماثل للتاريخ الذي أثمر المآلات التي اتخذتها الأوضاع العامة في بلادنا؟
ولا أدري لماذا استحضرت عندما سمعت خبر وفاته، وطنيته وانخراطه المبكر في عمليات التمهيد لأفق سياسي جديد في قلب حزب الاستقلال، حيث انخرط مع إخوانه في تأطير الطلائع الوطنية الجديدة المؤهلة لبناء هذا الأفق، أفق الاستقلال والتقدم، وكيف حرص على الجمع بين مقتضيات الفعل المقاوم وتأطير اليد العاملة، سواء داخل المغرب أو في فرنسا عند ذهابه للدراسة وإتمام تكوينه الحقوقي والسياسي في باريز منتصف الأربعينيات. أقول لا أدري لماذا استحضرت بوفاته نضالاته الوطنية وأدواره القديمة، ولم أستحضر صورته الأخرى وقد أصبح وزيراً أول في دورة التناوب التوافقي سنة 1998، أي بعد نصف قرن من العمل السياسي، بكل ما حمله ويحمله من أسئلة ومواقف وتعبيرات صامتة وبليغة؟
يقف عبد الرحمن اليوسفي في نهاية الخمسينات مع القيادة المؤسسة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، منطلقاً من معطيات تعتبر أن المجتمع المغربي يتطلع لبناء أسس مغرب جديد، مغرب قادر على التفاعل مع أهم المتغيرات التي عرفتها السياسة والفكر في العالم، بعد الحرب العالمية الثانية وميلاد حركات التحرر العربية في منتصف القرن العشرين. وقد انحاز الاتحاد الذي كان يضم أجنحة وقوى متعددة، انحاز للفئات الشعبية، كما انحاز لخيارات الفكر الجديد في مختلف مجالات الحياة، الأمر الذي ترتب عنه بناء مقدمات للثقافة الجديدة في بلادنا، ثقافة التقدم والاشتراكية وصناعة تاريخ جديد، تاريخ يروم تجاوُز النزعات السلفية والفكر المحافظ، ويتجه لمواصلة نقد التقليد وبقايا الطرقية..

– 2 –

تخلَّص يسار الحركة الوطنية من اللغة التي رُكِّبَت زمن المقاومة وجيش التحرير، وصنع في صحافته في «التحرير» و»المحرر» لغةً سياسية جديدة. كما فتح المجال أمام نوافذ في الثقافة والفنون والآداب لم تكن مألوفة، وساهم في التمهيد لكثير من ملامح وأوجُه الثقافة العصرية في السنوات الأولى للاستقلال، وذلك رغم الأوجه الأخرى، لصوَّر المواجهة التي حصلت بين طلائعه وبين النظام السياسي القائم.
إن الصراع الذي نشأ وتطوَّر بين النظام السياسي في بلادنا وبين الاتحاد الوطني أوقف كثيراً من التطلعات والآفاق، التي كانت مرتبطة بتطلعات اليسار الناشئ. فاصطدم الاتحاد بعوائق ومخاوف، وجملة من الشروط والسياقات الوطنية والإقليمية والدولية، الأمر الذي أدى إلى نشوء كثير من الصراعات، الصانعة لكثير من مآزق التحوُّل والتقدم في تاريخنا المعاصر.
نشير إلى أن ما منح اليسار قوته في تاريخنا، هو نوعية تجذُّره في التربة الاجتماعية المغربية، فقد ساهمت طلائع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في الانخراط في بناء شعارات ومعارك الحركة الاستقلالية المغربية، الأمر الذي ساهم في ترسيخ حضورها التاريخي في مجتمعنا. نحن نشير هنا إلى الإرهاصات القوية للتقدُّمِيِّين المغاربة، وعلى رأسهم المهدي واليوسفي وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، وغيرهم من الوطنيين، الذين ساهموا في تأطير حركة التحرير المغربية، وأسسوا الأفق التقدُّمي في قلبها، أفق أخويات التحرير والتقدُّم.
استحضرت وأنا أتابع صوَّر جنازته زمن الحجر الصحي، أنماط حضوره عربياً وفي الأممية الاشتراكية، حيث تميز حضوره في المشرق العربي وسط النخب الحقوقية، المنخرطة في جبهة النضال الحقوقي، داخل مجتمعات تنعدم في أغلبها الحدود الدنيا لآدمية وكرامة الإنسان. وتميزت مسؤوليته وأعماله في الأممية الاشتراكية، بحرصه على أن تكون القوى المغربية الحية قوة اليسار، حاضرة وفاعلة لمواجهة مختلف أشكال التمييز والاستغلال المتفاقمة في عالمنا.. تبينت وأنا أستحضر هذه الصوَّر، بجانب صوَّره في شبابه وهو يقوم بجمع وتعبئة الشباب والعمال المغاربة في مغرب الاستعمار، متطلعاً إلى بناء مقتضيات أفعال التحرير، التي انخرط فيها التقدميون المغاربة بكثير من الإخلاص وبكثير من التضحيات..
لم يتوقف اليوسفي عند العمل طيلة أربعينيات القرن الماضي، وساهم بقوة في عمليات الفرز التي أثمرت ميلاد الحركة التقدمية المغربية بتعابير الخمسينيات، نقصد بذلك يسار الحركة الوطنية المتشبع بقيم وثقافة التحديث والاشتراكية. وقد ساهم مع مجموعة من الوطنيين الشباب في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، في زمن الاستقلال بمختلف الأسئلة التي رافقت خيارات هذا التأسيس، وبمختلف المعارك والمحاكمات التي انطلقت خلال ستينيات القرن الماضي، وذلك إلى حين اختفاء المهدي بن بركة سنة 1965، حيث شارك اليوسفي في اللجنة التي كلفت بمتابعة ملفه السياسي والقضائي.. ولم تستطع اللجنة المذكورة، ومختلف اللجان التي جاءت بعدها أن تصل إلى نتيجة..

– 3 –

أقام اليوسفي في فرنسا منفياً ومُتابِعاً لملف رفيقه في الكفاح، ظل يبحث صامتاً، وكانت تراوده ذكريات تاريخه الشخصي في الكفاح الوطني، وتاريخ الحركة التقدمية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، يتذكرها وهو يختار مواصلة العمل السياسي بالتقاليد التي تعلمها مع الجيل الأول للوطنيين.. يتعفف.. يبتسم، يلتزم الصمت، يقول نصف كلمة ثم يبتسم، شاهد وتابع ذلك عن قرب وعن بعد مختلف الصراعات والمخاضات والتناقضات، شاهد صراعات الأجنحة إلى أن حمل الحزب اسماً جديداً، وشعارات جديدة، اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
لا نريد أن نغفل الإشارة هنا إلى الدور الذي مارسته المتغيرات الدولية على السياقات التاريخية الجديدة، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وقد اقترنت في الداخل بِتَصَلُّب النظام السياسي وفشل سياساته في التنمية. كما لا يجب أن نغفل منعطف استكمال تحرير الجنوب المغربي ومقتضياته الجديدة، التي استدعت تعبئة سياسية في وضع سياسي واجتماعي متدهورين.
لا يمكنني أن أواصل استعراض صوَّر من مسار سياسي حافل وأغفل أخرى، أعرف أن من حقي أن أفعل ذلك، خاصة ونحن نواجه شخصية وطنية فاعلة في مشهدنا السياسي والحقوقي، فاعلة بالأمس ولم تتوقف عن الفعل حتى بعد أن غَيَّبها الموت، شخصية سياسية فاعلة، سواء في المغرب أو في العالم العربي والعالم الثالث بمفردات ستينيات القرن الماضي، لا يمكنني أن أسكت عن زمن التناوب، حيث أصبح اليوسفي وزيراً أول للراحل الحسن الثاني، واستمر كذلك في السنوات الأولى لحكم محمد السادس.. وقبل أن أقف أمام اليوسفي الوزير الأول، أوضح أن بلاغة صمت الرجل رغم فصاحته المعروفة أثناء الكلام، قد تكون هي التي تمنعني من الحديث، وقد يكون زمن حصول هذه اللحظة مبرراً آخر للصمت، الذي يلازمني كلما فكرت في الحديث، ذلك أن شروط زمن حصول ما حصل في نهاية القرن الماضي (1998)، والمراسيم التي أطرت ورافقت ما حصل، وكذا النهايات التي حصلت بعد ذلك، وحكايات غضبه وسفره ثم صمته وعودته، كل هذه الأمور ذكرتني بمواقف أخرى لأحد رفاقه وأصدقائه، ذكرتني بفقيد الفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري الذي توفي قبل عشر سنوات (3 ماي 2010). فقد أعلن الجابري سنة 1981 أنه أوقف نشاطه في المكتب السياسي للحزب وقرر التفرغ للعمل الثقافي، حيث بنى خلال عقدين من الزمن جهوده المعروفة اليوم، في نقد العقل العربي.. إني أتصوَّر أنه لا أحد منهما تخلى عن العمل السياسي، وعندما غادر اليوسفي المغرب والحزب وعاد إلى فرنسا، بعد التحولات التي طرأت على تجربة التناوب، لم يغادر لا الحزب ولا المغرب، وكذلك الجابري الذي وضع مشروعه في التنوير وفي نقد التراث في قلب الحركية التي تطلع إليها الاتحاد الاشتراكي، وهو يحاول بناء خياراته السياسية ثقاقياً وخياراته الثقافية سياسياً، ظلا معاً في قلب حزب يتحول، حزب يتفاعل مع متغيرات زمن رتب قواعد أخرى في العمل السياسي..


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 05/06/2020