في ذكرى انتفاضة 20 يونيو 1981

 
السياق السياسي و التاريخي:

في مثل هذا اليوم من سنة 1981 اندلعت في مدينة الدار البيضاء وفي مدن أخرى، ولو بدرجات متفاوتة، مظاهرات صاخبة شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين من مختلف الفئات والأعمار، جابت الشوارع والأحياء مرددة شعارات مناهضة للغلاء وللسياسيات اللاشعبية للحكومة.
وقد ووجهت هذه الانتفاضة الشعبية العارمة بقمع شرس من طرف قوات الأمن والجيش التي استعملت الدبابات والطائرات المروحية والرصاص الحي الذي أصاب الضحايا على مستوى الرأس والصدر، حيث استشهد المئات من المتظاهرين وجرح الآلاف واعتقل عشرات الآلاف وحوصرت مقرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي أعلنت الإضراب العام خلال هذا اليوم، بل وحوصرت مقرات بعض الأحزاب الديمقراطية خاصة مقرات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وصودرت جريدتا « المحرر» و» ليبراسيون « واعتقل العشرات من المناضلين النقابيين والسياسيين لا سيما مسؤولي الكونفديرالية الديمقراطية للشغل، واستمرت آلة القمع العسكرية والأمنية في حصد أرواح الأبرياء من المتظاهرين طيلة يوم السبت الأسود 20 يونيو ويوم الأحد 21 يونيو1981، كما تعرض الآلاف للاختطافات والاعتقالات التعسفية، حيث تم تكديسهم في الكوميساريات والمقاطعات، ليتعرضوا للتعنيف والتعذيب، بل والاختناق خاصة ما حدث في المقاطعة رقم 46 الرهيبة المسماة حاليا بمقاطعة سيدي البرنوصي بالدار البيضاء، مما جعل العديد من الضحايا يلفظ أنفاسه الأخيرة.

أسباب الانتفاضة:

ويرجع السبب المباشر في اندلاع هذه الأحداث المأساوية إلى ما قامت به حكومة المعطي بوعبيد في عهد الحسن الثاني من زيادات مهولة في أسعار المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع في صفوف الطبقات الشعبية، حيث أصدرت الحكومة بيانا خلال يوم 28 ماي 1981، أعلنت فيه عزمها على رفع الأسعار وذلك حسب النسبة التالية :
الدقيق 40% – السكر 50%- الزيت 28 %- الحليب 14 % – الزبدة 76 % . هذه الزيادات التي انضافت إلى زيادات سابقة تمت خلال سنتي 1979 و1980 حيث تضاعف ثمن السكر والزيت مرتين وتضاعف ثمن الحليب والزبدة والدقيق بحوالي ثلاث مرات .
وقد تمت هذه الزيادات في تحد سافر لمطالب المركزيات النقابية وأحزاب المعارضة المتمثلة أساسا في الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي وفي عدد من التنظيمات السياسية والمدنية الأخرى. هذه المطالب المتمثلة في تحسين ظروف عيش الطبقة العاملة وكافة الطبقات المسحوقة وربط الزيادات في الأسعار بالزيادة في أجورها ورواتبها ومداخيلها وتوفير كافة الحقوق والحريات المدنية والسياسية لهذه الفئات الشعبية. ورفض الإذعان لتوجيهات وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

تدابير قمعية أججت الانتفاضة:

لم تكتف حكومة المعطي بوعبيد وموجهها سيء الذكر إدريس البصري برفض المطالب العادلة والمشروعة للمركزيات النقابية والأحزاب الوطنية والمنظمات الحقوقية، والسير على نهج التنفيذ الحرفي لتوجيهات الدوائر المالية الدولية في إطار ما يسمى بالتقويم الهيكلي، بل نزل خلال يوم 20 يونيو المقدمون والشيوخ والقياد إلى الشوارع والأحياء السكنية للضغط على التجار من أجل فتح دكاكينهم وتهديد العمال والموظفين والسكان بأوخم العواقب في حالة استمرارهم في خوض الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفيدرالية الديمقراطية للشغل. كما تمت محاصرة مقرات الكونفيدرالية ومقرات بعض الأحزاب الوطنية لا سيما مقرات الاتحاد الاشتراكي في الدار البيضاء والرباط وتم اختطاف واعتقال العديد من القادة النقابيين والسياسيين ومصادرة عدد من الجرائد الوطنية. وقد كانت لهذه الإجراءات التعسفية من طرف الدولة الهادفة إلى تكسير الإضراب وإفشال مفعوله بعد أن تأكدت من نجاحه الكبير ردود أفعال قوية من طرف المواطنات والمواطنين لا سيما الشباب حيث دخل بعضهم في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن مما شكل مطية لجحافل القوات العمومية والجيش إلى التدخل بعنف مفرط حيث أعطيت التعليمات لإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين وشن حملات اعتقالات واختطافات واسعة النطاق.

حصيلة العمليات القمعية:

لم تنته عملية القنص في شوارع الدار البيضاء وأحيائها السكنية الشعبية في كل من سيدي البرنوصي والحي المحمدي وعين السبع وابن مسيك وحي الفرح حتى سقط حوالي 1000 شهيد، حسب ما جاء في تقارير منظمات حقوقية، حيث تم جمع جثتهم المتناثرة في صباح يوم الأحد 21 يونيو 1981 بواسطة شاحنات الأزبال ورميها كالجياف في حفر أعدت لهذه الغاية، خاصة تلك الحفرة أو المقبرة الجماعية الشهيرة التي تم اكتشافها بعد انتهاء ولاية هيئة الإنصاف والمصالحة والمتواجدة بإحدى الثكنات العسكرية التابعة لرجال المطافئ بالحي المحمدي بالدار البيضاء .
لم تكتف الدولة بهذا الحد من القمع الدموي الشرس بل قام وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري بالتشفي في الضحايا وفي عائلاتهم واصفا إياهم « بشهداء كوميرا «، كما واجه المعطي بوعبيد المضربين والمتظاهرين بالتهديد والوعيد متهما إياهم بالتحريض على المس بأمن وسلامة الدولة وبالأمن العام، وهو ما شكل ذريعة لمحاكمة المئات من الضحايا وإصدار أحكام قاسية ضدهم، بل نتذكر أيضا بعض التصريحات المسيئة والمحرضة ضد المركزيات النقابية والأحزاب الديمقراطية وضد بعض مناضليها من طرف أحد المحسوبين على اليسار من داخل قبة البرلمان والذي نرجو له الرحمة والمغفرة.

تداعيات الانتفاضة و امتداداتها:

لقد امتدت آثار ومضاعفات هذه الأحداث الاجتماعية والسياسية في الزمان لتندلع أحداث مماثلة في مراكش وفي عدد من مدن الشمال، في يوم 19 يناير 1984، وذلك بسبب استمرار الدولة في تبني سياسة التقويم الهيكلي المملاة من طرف الدوائر المالية الدولية وبسبب فرض رسوم على المتمدرسين في مؤسسات التعليم العمومي. ومما زاد الطين بلة تصريحات الحسن الثاني الذي وصف سكان الشمال المتظاهرين بالأوباش موجها تهديدا مباشرا إليهم وإلى الأطر التعليمية بما في ذلك تهديدهم بالطرد من الوظيفة العمومية.
إن ما قامت به الدولة من إجراءات وتدابير تعسفية لم يعمل على حل الأزمة، بل زاد من تفاقمها وتراكم عواملها المفجرة مما جعل الملك الحسن الثاني في سنة 1996 يقر أمام البرلمان بأن المغرب أصبح على وشك السكتة القلبية. وهو ما دفعه أمام تنامي السخط الشعبي وتقوية جبهة المعارضة إلى الدفع ببعض الإصلاحات السياسية والدستورية والحقوقية منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي استجابة لمطالب المعارضة السياسية. وفي هذا الصدد نذكر بالتعديلات الدستورية لسنتي 1992 و1996 حيث أصبح الدستور يقر بالتزام الدولة باحترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين  بمن فيهم معتقلو تازمامارت الرهيب وخلق المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ثم وزارة حقوق الإنسان والهيئة المستقلة للتحكيم وهيئة الإنصاف والمصالحة وكلها آليات للعمل على معالجة مخلفات سنوات الجمر والرصاص. وفي هذا الأجواء تم تنظيم انتخابات سابقة لأوانها خلال سنة 1997، أفرزت خريطة جديدة تصدرتها أحزاب الكتلة الديمقراطية وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مما جعل الحسن الثاني يستدعي الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إلى تشكيل حكومة التناوب. ونعلم أنه في هذا السياق أصدر عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول في حكومة التناوب مذكرته الشهيرة القاضية بإرجاع كل المطرودين والموقوفين لأسباب سياسية أو نقابية إلى وظائفهم وتسوية أوضاعهم الإدارية والمالية بمن فيهم ضحايا أحداث 20 يونيو 1981.

كيف عالجت هيئة الإنصاف و المصالحة ملف انتفاضة 20 يونيو:

عملت هيئة الإنصاف والمصالحة على بلورة مقاربة مبنية على مبادئ العدالة الانتقالية لمعالجة كافة ملفات ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بما فيها ملف أحداث 20 يونيو1981. وفي هذا الصدد وارتكازا على مطالب الحركة الحقوقية وعلى رأسها المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف ، قامت الهيئة في مجال الكشف عن حقيقة ما جرى إبان هذه الأحداث المؤلمة، بتحديد مصير بعض المختفين قسرا بمن فيهم الأموات والأحياء. إلا أن جل الضحايا  ظل مصيرهم مجهولا إلى يومنا هذا وذلك بسبب عدم تعاون السلطات الأمنية والعسكرية والإدارية مع الهيئة بالشكل المطلوب وبسبب عدم اعتماد تقنية الحامض النووي لتحديد هوية جثث الشهداء الذين تم الكشف عنهم، كما أن جبر الأضرار المادية والمعنوية لم يشمل كل الضحايا وذوي حقوقهم إما بدعوى أن هؤلاء  قد وضعوا ملفاتهم لدى الهيئة خارج الآجال أو بسبب عدم الاختصاص. كما أن جبر الضرر الجماعي والمناطقي والمجتمعي لم يكن منصفا وعادلا ومتوازنا بالنسبة لكافة المجموعات وكل المناطق التي تأثرت بشكل كبير من جراء ما شهدته بلادنا من فصول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
أما فيما يخص تدابير وضمانات عدم التكرار، فإن ما شهدته بلادنا من خطوات إيجابية في مجال تحسين المنظومة الدستورية والقانونية والقضائية والأمنية لم يكن كافيا لمنع تكرار مآسي الماضي، حيث نلاحظ بين الفينة والأخرى عودة الانتهاكات وهو ما تشهد  عليه تقارير المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية سواء بالنسبة لما حدث في الحسيمة أو ما حدث في جرادة أو ما حدث في العديد من المناطق التي شهدت احتجاجات شعبية . وهذا ما يقتضي في هذه المناسبة التي نحيي فيها ذكرى انتفاضة 20 يونيو المزيد من الإصلاحات والتدابير الجريئة التي من شأنها حماية مستقبل بلادنا من أقدار العودة إلى انتهاكات الماضي ومن أجل توفير كافة الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لكافة المواطنات والمواطنين.
وأخيرا، فإن حفظ ذاكرة ما حدث في 20 يونيو وفي باقي الأحداث الاجتماعية والسياسية المؤلمة لم يرق بعد إلى المستوى المطلوب، حيث لازالت محاولات إطباق النسيان وطي الصفحة دون قراءتها بشكل عميق ومتأني هو السلوك الغالب لدى الدولة. ومن جهة ثانية لم تقم الدولة إلى حد الآن بتقديم الاعتذار الرسمي والعلني لكافة الضحايا وعائلاتهم والى المجتمع كشكل من أشكال إعادة الاعتبار وتحقيق المصالحة.

مقاربة منتدى الحقيقة و الإنصاف لمعالجة ملف انتفاضة 20 يونيو:

في الختام، لا يسعني إلا أن أذكر في هذه المناسبة ببعض المطالب الأساسية للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، إذ تضمن بيانه العام الصادر عن المؤتمر الوطني الخامس المنعقد بمدينة أكادير أيام 27 و28 و29 أبريل 2018 المطالب التالية:
1- توفير ضمانات عدم تكرار ما حدث من انتهاكات جسيمة بما في ذلك الإصلاحات الدستورية والقانونية والمؤسساتية والتربوية وتأهيل الأجهزة الأمنية على أساس مرتكزات دولة الحق والقانون والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان .
2- جبر الضرر المادي والمعنوي والفردي والجماعي  والمجتمعي دون تمييز أو إقصاء لأية فئة من الضحايا لاسيما الفئات المصنفة خارج الآجال أو بأية ذريعة كانت والعمل على الإسراع بتسوية وضعية المدمجين وضمان تقاعدهم الكامل والاعتذار الرسمي والعلني من طرف الدولة لفائدة الضحايا والمجتمع.
3- حفظ ذاكرة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما يتطلبه ذلك من تحفظ وحفظ لكافة المعتقلات السرية والمقابر الجماعية والأرشيف وخلق مركز وطني للذاكرة.
4- التنفيذ الكامل لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة بما في ذلك التصديق على بروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وإلغاء عقوبة الإعدام والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وسحب كل التحفظات إزاء الاتفاقيات والتوصيات الأممية ذات الصلة بحقوق الإنسان .
5- المطالبة الملحة والمستعجلة بتوقيف مسلسل الانتهاكات وإطلاق سراح كافة المعتقلين على خلفية الاحتجاجات الشعبية ومعتقلي الرأي وإيقاف المتابعات القضائية ضدهم وفتح تحقيقات في ادعاءات التعذيب والمعاملات القاسية والمهينة والحاطة بكرامة الإنسان ومحاسبة المتورطين فيها وضمان شروط المحاكمة العادلة والاستجابة الفورية للمطالب المشروعة والعادلة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمحتجين وكافة المواطنات والمواطنين.
لنترحم جميعا على كافة شهداء انتفاضة 20 و 21 يونيو 1981 ولنتوجه إلى المستقبل بإصلاحات وتدابير جريئة كفيلة بتحقيق مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان

*  نائب رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف


الكاتب :  عبد الحق عندليب*

  

بتاريخ : 20/06/2020