نصر حامد أبو زيد: التساؤل حول عدم ترتيب القرآن بحسب زمن نزول آياته أمر مشروع في البحث العلمي

في أكتوبر من عام 2002،  أجرى محمد علي الأتاسي مقابلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في دمشق، وقال عنه «محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن. وكرامة استاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكونيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة والسلطة الدينية المتحجرة». في ما يلي نص الحوار:

– إذا كان الأمر لم يعد يحتمل هذا الجمود، فلماذا تردد الباحث الذي أشرت إليه قبل قليل؟
– السؤال الذي يطرحه البعض عليّ باستمرار، في هذه اللحظة، هو: إن الناس تموت باسم الأسطورة، وعدوك يوظف أسطورته في شكل أو آخر، فكأنك تريد ان تفكك لنا أسطورتنا، من أجل أن يهزمنا الآخر بأسطورته؟ ويقولون: إننا الآن في خطر لا يحتمل ترف الاشتغال على النص والتأويل.
طبعاً، جوابي أن هذا ليس بالترف، وأن الفشل الذي نحن إفيه، عائد في جزء منه إلى تجمّد وعينا. واذا كنا نريد أن نحارب بأسطورتنا، فأسطورتنا قائمة على أسطورة العدو، وهي تالياً أضعف لأنها قائمة على أسسه. فهو يحاربك بالأسطورة إيديولوجياً، لكنه يحاربك بالعلم والعقل والوعي فعلياً.
إذاً، أنا معك أن طرح الأسئلة يجب أن لا يتوقف ويجب أن نذهب بالأسئلة إلى منتهاها. وإذا كنت أنا أحد المترددين، وهذا ما لا أنكره، فلأني لست بالمدعي. ففي النهاية أنت تعمل في مناخ ثقافي لا تسلّم به كلية، لكنك لا تستطيع ان تتجاهل أنك تريد أن تنتج خطاباً يجد قبولاً، وينفذ، وإن كان لا يجد إعجاباً. وهذا ما يسمّيه محمد أركون بالترضيات الضمنية، أي أن تنتج نقداً لفكر، أنت تنتمي إليه في الضرورة. بمعنى أنك تنتج نقدك من داخله، وأنت محكوم بقواعد إنتاج المعرفة فيه، حتى لو كنت رافضاً القواعد. إذاً، نحن هنا في مأزق، وما أسهل الذي يكتبه صادق جلال العظم، على أهميته، لأنه يأتي من الخارج، أي من خارج دائرة الإيمان.
نحن نتكلم هنا عن مجتمع وثقافة ومؤسسات، وأنت تطلب من المفكر أن يخترق المؤسسات بكتاب أو بمحاضرة أو ببرنامج تلفزيوني يتكلم فيه خمس دقائق يحذف منها نصف الذي قاله، ومع ذلك فهو يقوم بهذا عملياً ولكن بإمكانات هي أقل بكثير من إمكانات هذه المؤسسات. فلنقل إن أي كتاب لا يمكنه أن يحدث اختراقاً إذا لم يتحول ثقافة عامة من طريق وسائط نقل المعرفة من مستواها إلى مستوى وعي الناس. وهذا غير متحقق لنا، بسبب غياب الديموقراطية وغياب الحرية وغياب مؤسسات وسيطة حاملة وناقلة للمعرفة، وبسبب سيطرة السلطة في أشكالها المختلفة على وسائل الإعلام. طبعاً انا هنا لا أضع معوقات لنفسي، ولكن أكشف لك حدود تأثير ما أكتبه.

– أعود لقولك بتاريخية النص القرآني وبأنها لا تعني زمنيته ولا تعني إنكاراً لألوهيته، بل تعني أن القرآن نزل في التاريخ وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً وسيستمر عمله في التاريخ، وأنه يحمل ملامح القرن السابع الميلادي ويدل على ممارسات العرب في ذلك القرن وعلى موقعهم في العالم القديم، ويعكس لنا حالة التاريخ قبل نزوله ولحظة هذا النزول. قولك هذا، يدعو إلى التأسيس عليه ويفتح أفقاً واسعاً للنقاش ويسقط الكثير من الحواجز أمام العقل، فكيف لك بعد ذلك أن تطلب منا التروي في طرح الأسئلة؟
– إذا اتفقنا على أننا نشتغل من داخل دائرة الإيمان، فاننا نخوض في مسلّمات راسخة يحتاج تحريكها إلى التحلي بالصبر وإلى وقت طويل وإلى عدد كبير من الباحثين. تاريخية النص القرآن مثلاً، تعني أيضاً أن هناك أجزاء منه سقطت بحكم التاريخ وأصبحت شاهداً تاريخياً، أي انها تحولت من مجال الدلالة الحية المباشرة إلى مجال الشاهد التاريخي. مثال ذلك تحوّل آيات الرق والأحكام المتعلقة بها إلى آيات للعبرة بعد زوال نظام الرق من حياتنا. هذه الخطوة لا يكفي أن تقولها وتمضي. إنها هنا عملية خلق للوعي، وعليك أن تعمّق هذا الوعي في استمرار بأمثلة وشواهد، وأن تكرر في استمرار ما كتبته. إذاً، تاريخية النص وانتماؤه إلى الثقافة وانفتاحه على التأويل في ثقافات مختلفة، هذه القضية كسبت أرضاً ولكنها لم تصبح مستقرة داخل الوعي العام. طبعاً أن لا أقول أن عليّ الانتظار، فأنا أتحرك، ولكني الآن أتحرك وحدي بعدما حُرمت تلامذتي وموقعي داخل الجامعة المصرية.

– في السياق نفسه، أنت من الذين يشددون على أن القرآن هو مجموعة من النصوص التي رُتّبت ليس وفقاً لترتيب نزولها الزمني، ولكن وفقاً لتراتيب أخرى لم تُكتشف بعد، وأن التساؤل لماذا لم يترتّب القرآن بحسب زمن نزول آياته، هو أمر مشروع في البحث العلمي لأنه لا يشكك في الحكمة الإلهية ولا بقدسية النص.
– الحقيقة التاريخية الأكيدة، هي أن ترتيب القرآن الحالي، ليس هو ترتيب النزول. وأن ترتيب القراءة الحالي أحدث تغييباً للسياق، وتالياً فإن أي مقاربة منهجية لتفسير القرآن عليها أن تستعيد هذا السياق. في تحليل القرآن هناك مقاربتان الـتعاقب Diacronic والـتزامن Syncronic، وجمع الاثنتين مهم جداً في أي مقاربة. فلو حلّلت القرآن فقط وفق ترتيب النزول، سأكون أتعامل مع القرآن على أنه كتاب في التاريخ، وهو ليس كذلك. أما إذا رضيت فقط بترتيب القراءة فأكون قبلتُ بإهمال الجانب التاريخي في التعامل مع القرآن. في عبارة أخرى، إذا كنا نقول إن القرآن تاريخي (بشري) وإلهي، فإن بنيته نفسها توضح هذه الازدواجية وينعكس فيها هذان البعدان. فترتيبه المجزأ والمنجّم يعكس أنه جزء من التاريخ وأن هناك تطوراً داخلياً، أما إعادة ترتيبه وفق قواعد مغيّبة للتاريخ لم نكتشفها بعد، فتؤكد فكرة أنه رسالة مقدسة.
إجراء أي مقارنة بين بنية القرآن التاريخية وبنيته اللاتاريخية، يحتاج إلى دراسات واسعة ومعمقة وإلى فريق عمل جماعي يشترك فيه عدد كبير من الباحثين. هناك 114 سورة بينها المكي والمديني، عمل عليها في السابق المستشرقون، لكن لا بد من العمل على الآيات والرجوع إلى المادة التاريخية والعمل على نقد المرويات الخاصة بأسباب النزول، ولا بد من الاشتغال على البنية الداخلية للآيات، لأن الكشف لا يكون من خلال الوثائق الخارجية وحدها ولكن من خلال البنية الداخلية كذلك.
وإذا كان طرح الأسئلة الجوهرية يمكن أن يتم بواسطة أفراد، فإن إنتاج المعرفة في حاجة إلى بنية علمية مؤسساتية. ويجب عدم تناسي أن النقد التاريخي للكتاب المقدس تحقق بثورة من داخل مؤسسة الكنيسة، أما مؤسساتنا الاسلامية فلا تزال تنتج ملايين الكتب عن الإعجاز العلمي للقرآن والسنة النبوية. ثم، هل عندنا فعلاً في العالم العربي والإسلامي دراسات إسلامية في المعنى العلمي للكلمة؟ لا. ليس هناك مؤسسة واحدة تدرس القرآن في اعتباره موضوع دراسة، بل في اعتباره موضوع إيمان ووعظ. الأزهر، كمؤسسة، لا يدخل في نطاق مهمته أن يدرس القرآن تاريخياً ويحلله. ومهمته أن يعلّم القرآن ويفسره. لذا يجب علينا أن لا نطلب من مفكرين فرادى أن يقوموا بالمعجزات.


الكاتب : محمد علي الأناسي

  

بتاريخ : 23/06/2020