نصر حامد أبو زيد: مفهوم الوحي قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف

في أكتوبر من عام 2002،  أجرى محمد علي الأتاسي مقابلة مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في دمشق، وقال عنه «محنة نصر حامد أبو زيد هي محنة الثقافة العربية في عصرنا الراهن. وكرامة استاذ الجامعة الجريحة هي كرامة البحث العلمي واستقلاليته المستباحة على مذبح الإيديولوجيا القروسطوية بمكونيها الرئيسين: السلطة السياسية المستبدة والسلطة الدينية المتحجرة». في ما يلي نص الحوار:

– في العودة ألى أسباب النزول نجد ان القرآن لم ينزل نصاً واحداً، بل نزل على الرسول خلال ما يزيد على العشرين سنة، وإذا كنت أنت تذهب إلى أن كل نص من القرآن يتعلق بواقعة وبسؤال نشأ من الواقع، فإن ما يزيد على 80 في المئة من الآيات لا يوجد فيها أسباب نزول. فكيف يمكن الوصول إذاً إلى هذه الوقائع التاريخية المرتبطة بسياق نزول الآيات؟
– دعنا في البداية نخرج من إطار المصطلحات الملتبسة، علينا التفريق بين أسباب النزول كمصطلح مستقر في المعنى الفقهي الوارد في المرويات التراثية، وما يمكن أن أسمّيه السياق التاريخي للوحي. هذا السياق لا يمكنه أن يتجاهل مفهوم أسباب النزول في المعنى الفقهي، لكنه يتعامل معه تعاملاً نقدياً، لأن بعض هذه الأسباب متناقض، وبعضها الآخر يأتي تبريراً لمعنى معيّن يريد المفسّر أن يفرضه. كما يجب عدم الاكتفاء بأسباب النزول، لأنها كما ذكرت قليلة.
مثلاً عندما تبدأ سورة “البقرة” بالآية: {ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه}، فهذا جواب عن سؤال لا نجده في الآيات التي تتبعها مباشرة، بل نجده في ما بعد حين يتكلم عن سؤال اليهود للنبي محمد أن يأتي بكتاب كألواح موسى. إذاً، فكرة الكتاب موجودة في النص القرآني ولها سياق نزول، لكن يصعب ربطه بالآية في افتتاح السورة، لأن السؤال موجود في آية أخرى وُضعت في مكان آخر وتالياً عملت تغييباً لسياق الآية الأولى. نقطة أخرى هي ضرورة التعامل مع النص القرآني ليس فقط من خلال أسباب النزول ولكن من خلال سياقه التاريخي في معناه الأشمل، ومن خلال شخصية النبي محمد وعلاقته بالمجتمع والثقافة، وهذه كلها لا تزال في اطار المحرمات.

– كيف تفهم اليوم علاقتنا بالسنّة النبوية، وميل البعض إلى تقديسها واعتبارها جزءاً من الوحي؟
– أظن ان هذا الكلام تم تحليله في أسبابه التاريخية في شكل كاف، فمنذ اللحظة التي اعتبر فيها القرآن غير كافٍ وحده، تم تدشين السنّة ليس كنص ثان أو كنص شارح، بل كنص يتمتع بالقيمة المعرفية نفسها التي يتمتع بها القرآن. حتى أن البعض يذهب إلى حد القول أن القرآن أكثر حاجة إلى السنّة من حاجة السنّة إلى القرآن. أعتقد أن هناك جانباً مشروعاً في هذا، وجانباً تمت المبالغة فيه، فلو أنت اقتلعت السنّة من تاريخ الفكر الإسلامي لما بقي هناك شيء.

– مع ذلك، لا يعتبر أهل السنّة أن الاحاديث النبوية هي وحي، لأنها ليست كلام لله؟
– لا، هذا غير صحيح، فهي تعتبر بمثابة الوحي الذي صاغه النبي محمد، أي أنها كلام الله بلغة محمد. فالإمام الشافعي يعتبر أن السنّة هي الحكمة المذكورة في القرآن. والفرق بين القرآن والسنّة المتجسدة اصلاً في الحديث، أن السنّة هي كلام لله الموحى الى محمد، لكنها ليست لغة الله بل لغة محمد. أي أن الفرق لدى الشافعي هو أن القرآن متعبد في قراءته لأن اللغة من عند لله، أما السنّة فهي قرآن لا يتعبد في قراءته لأن الصياغة هي صياغة محمد. والسؤال هنا: هل كان القرآن، قبل ظهور هذا التمييز، كلام لله ولغته في الوقت نفسه، أم لا؟ لذلك فان طرح السؤال عن لغة القرآن مرتبط بطرح السؤال عن السنّة، ومتى تكوّنت المفاهيم الأساسية داخلها، وهذا في رأيي سابق على الشافعي، الذي صاغها بشكلها النهائي.

– اذاً، الباحث في تعامله مع نصوص السنّة هو أيضاً أمام مشكلة قداسة، كحاله مع القرآن؟
– طبعاً، فالمشكلتان مرتبطتان الواحدة بالأخرى كونهما وحياً، وهذا يتطلب منا أن نستعيد أيضاً مفهوم الوحي. وهل الوحي وفق المفهوم الديني أغلق بقوله تعالى: «خاتم الانبياء»؟ ولماذا يؤمن المتصوفة بغير ذلك، ويقولون إن الختم هو ختم وحي التشريع وليس وحي الفهم؟ حتى إن ابن العربي في تناوله حديث الرسول «لا نبي بعدي»، يقول: «ليس أشد على أهل الله من هذا الحديث”، لكنهم ذهبوا إلى أن لا نبي يشرّع من بعد النبي محمد. الحال مشابهة لذلك عند الشيعة الذي يعتبرون أن توارث العلم عند الأئمة معناه استمرار انكشاف معنى الوحي في التاريخ.
مفهوم الوحي له مكانه ايضاً داخل الفلسفة الإسلامية، وهو قائم على مفهوم الخيال الذي يشترك فيه النبي مع الفيلسوف. فالفيلسوف يتصل مع العقل الفعال أو العقل الأول مثلما يتصل النبي مع الوحي. والفرق بين النبي والفيلسوف ليس في الوحي ولكن في تعبيرات الوحي، أي اللغة التي تعبر عنه من خلالها. حي بن يقظان وصل إلى كل المعرفة التي وصل إليها الوحي الذي آمن به سلمان. لكن اللغة التي يعبّر فيها عن الحقيقة مختلفة وهذا يحيلنا على ابن رشد.
كل هذا يبين لنا أن المسلمين كانوا مشغولين بالأسئلة نفسها وحاولوا أن يجدوا حلولا لها. في عودتنا إلى جذور المشكلة لا نتبنى هذه الحلول ولكن نتعامل مع المشكلة في سياقها التاريخي، ونربط هذه المفاهيم بتاريخها الثقافي، المقموع والمهمش، ونحن اليوم عندما نجد حلولا، لا نكون بدورنا خارج إطار الثقافة.

– لكنك في بعض كتاباتك تستدعي المعتزلة بحثا عن مشروعية تاريخية، وتتبنى أحيانا الحلول التي يطرحونها كفكرة أن ألوهية القرآن لا تعني أزليته. لأنه لا يمكن أن يقال إن القرآن أزلي بجانب لله، قديم مثل لله فهذه الفكرة معتزلية بامتياز ؟.
– لا، هنا يجب أن تقرأ أعمالي في شكل تاريخي. ففي الأول كان هذا صحيحا لكني لا أعتقد ذلك الآن. أنا اليوم استشهد بهم فقط على قرائن ومواقف تاريخية، أكثر مما استشهد بهم بحثا عن مشروعية لفكرة أريد أن اطرحها. أما فكرة أزلية القرآن فانا لا أتبناها في صيغتها الدينية وغالبا ما استخدمها في السياق السجالي، كما في كتاب «التفكير في زمن التكفير»، لأن الذي يحاججك يضرب بقوة التراث، وأنت في ردك تحاول أن تبين تناقضه كونه يرتكز على تراث واحد. لذلك لا أعتقد أن العودة إلى خلق القرآن وقدم القرآن في الإطار المعرفي للمعتزلة يمكن أن يحل لنا أي مشكلة، لأننا اليوم داخلون في قضية لغة القرآن نفسها التي لم يتطرق إليها المعتزلة أبدا.


الكاتب : محمد علي الأناسي

  

بتاريخ : 24/06/2020