طبق رواية فارسية في أقدم نص بهذه اللغة حوله: الإسـكـنـدر يـحـل بـالحـرم المـكـي

يمثل اسكندر نامه (1) (كتاب الإسكندر) أقدم نص نثري ألف بالفارسية حول شخصية الإسكندر٬ وهو عبارة عن مجموعة ضخمة ومتنوعة من الحكايات تدور كلها في فلك شخصية الملك المقدوني وإن لم تكن ترتبط دائما على نحو عضوي بها. ولقد تم تدوين هذه الحكايات وجمعها بالشكل الذي وصلتنا به خلال المرحلة الممتدة من القرن السادس/الثاني عشر إلى القرن الثامن/الرابع عشر.
ويظهر بعد الفحص الدقيق لهذه الحكايات أنها تضم عدة نقط التقاء مع المصدر اليوناني لحياة الإسكندر والذي ألف بالإسكندرية في القرن الثاني أو الثالث الميلادي وينسب كذبا إلى كاليسثينيس٬ مؤرخ الإسكندر وابن أخت أرسطو. ما يدفع إلى التفكير بأنه رغم التحولات والإضافات التي طرأت عليه٬ شأنه في ذلك شأن الحكايات ذات الطابع الشعبي والمنقولة مشافهة٬ فإسكندر نامه استقى مادته من إحدى الترجمات للأصل اليوناني، وربما من الرواية البهلوية والتي ظهرت أيام حكم الساسانيين.
واللافت للانتباه أن صورة الإسكندر في النصوص البهلوية تتميز تارة بالضحالة وتارة أخرى بالقتامة، لما تركه الملك المقدوني من انطباعات سلبية في الوعي الجمعي الإيراني وذلك إثر غزوه لإيران سنة 331 ق. م وتقويضه لحكم داراب بن داراب٬ الملك الأخميني٬ واجتياحه لبيرسيبوليس (تخت جمشيد) عاصمة الإمبراطورية حينذاك٬ هذه الانطباعات التي بقيت مترسبة٬ حتى بعد الإسلام٬ في الأوساط الدينية الزرادشتية. هذا في حين أن جل النصوص الفارسية تظهر جليا بأن الإيرانيين تأثروا بالمرويات الإسلامية المتعلقة بالإسكندر المقدوني واقتنعوا بأنه هو فعلا ذو القرنين المذكور في القرآن.
والنتيجة المباشرة لهذا التحول تتمثل في “أسْلمة” شخصية الإسكندر وتقديمه على أنه ملك صالح يجوب الأرض حاملا راية التوحيد وشاهرا سيفه في وجوه الكفار وهو يصرخ “لله أكبر”. والحكاية التي تجسد هذا التحول على نحو أكثر وضوحا هي تلك التي تروي زيارة الإسكندر للحرم المكي والتي تتخذ صبغة “حج”٬ وإن لم يستعمل الراوي هذا المصطلح. ونقدمها هنا مترجمة إلى العربية:

“تحدث صاحب الأخبار بما يلي: عندما وصل الملك الإسكندر إلى أرض مكة وبلغ خبر مجيئه مسامع سكان وسادات تلك البقعة من الأرض حل بهم الخوف وتساءلوا عما سيلحق بهم على يد الإسكندر. وكان حاكم مكة وقتذاك أحد أبناء إلياس، كما جرت العادة على ذلك، وهو إلياس بن مضر. وكان الحكام في الماضي من ذرية إسماعيل٬ إلا أن هذا الحق انتزع منهم (كذا).
استعد إلياس وقال: “لنذهب كلنا عند الإسكندر قبل أن يأتي هو عندنا.قام كل سادات مكة وجاؤوا إلى حيث كان يقيم الإسكندر على بعد أربعة فراسخ٬ وكان مستقرا هناك ومعه كم هائل من الرجال والجياد والفيلة في منظر مهيب٬ بحيث أن سادات مكة أصيبوا بالذهول٬ فهم لم يسبق لهم أن رأوا جيشا بتلك العظمة.
وعندما أُخبر الملك بوصولهم أمر أن يمثلوا بين يديه. وعندما وقفوا أمامه رأى عليهم بهاء جعله يحس بمحبتهم تستقر في قلبه٬ وهو لم يسبق له أن التقي عربا من قبل. حدق فيهم الملك وسألهم: “أيكم أشرفكم ومن الحاكم فيكم؟فأشاروا إلى إلياس بن مضر قائلين: “هو الحاكم.أكرمه الملك وقال: “عندكم لي حرمة وسأصونها. وأمرهم بالمضي.
في اليوم التالي ذهب الجميع بما فيهم الجنود لزيارة البيت. وصل إذن الإسكندر إلى بيت الله فطاف به وتوجه إلى الله تعالى شاكيا ومتضرعا وطالبا الغفران٬ وبقي في مكة مدة خمسة عشر يوما٬ وزار كذلك منى ومزدلفة وجبل عرفات وشرب من ماء زمزم وصلى في المقام الإبراهيمي. وعندما انتهى من الصلاة بين يدي لله تعالى بقي في الحرم وأمر بتغطية الكعبة بالديباج وذهب لمشاهدة الميزاب الذهبي عن قرب٬ كما أنه وهب من الدراهم ما لا يعلم مقداره سوى لله تعالى. ثم أمر الملك الإسكندر سادات مكة بالمجيء والتجمع في الحرم. ويجب القول هنا بأن لله تبارك وتعالى وضع هالة النور التي كانت تضيء إبراهيم في إسماعيل ثم في أولاده من بعده٬ وانتقلت من بطن لآخر لتستقر، أيام الإسكندر٬ في جبهة نصر بن قبيت الذي انتزع منه حقه في حكم مكة٬ وأصبح مِلكا لابن عمه وهو كذلك من ذرية إسماعيل إلا أنه كان ذا نفوذ٬ في حين أن نصر كان زاهدا في الدنيا ويعيش حياة أكثر تواضعا.
وعندما اجتمع كل سادات مكة قالوا فيما بينهم بأنه يجب عليهم أن يتكفلوا بإمداد جيش الإسكندر بالمؤونة. فلما وصل الخبر إلى الإسكندر بأنهم يهيؤون المؤونة أرسل إليهم قائلا:“معاذ لله أن أطلب منكم المؤونة وأنتم تسكنون بجوار بيت لله٬ فأنا قدمت إلى هنا لأغدق كل الذهب الذي جلبته من الهند أو أخذته من جماعة الكفار٬ على بيت لله تعالى وعلى الساكنين بجوار الحرم٬ ليس في نيتي٬ وأنا قادم عندكم٬ أن آخذ منكم أي شيء. عليكم أن تأتوا عندي فأنا في حاجة إليكم.
وما إن سمع سادات مكة ما قيل لهم حتى تركوا جانبا أمر المؤونة وتوجهوا كلهم للمثول أمام الملك إسكندر. فبدأ هذا الأخير يقابلهم كل على حدة ليسألهم على مدى قرابتهم من إسماعيل٬ وكلما جاءه أحدهم يفحص جبهته بتمعن. وأدرك إلياس بن مضر عما يبحث الإسكندر عنه فانتابه الخوف٬ فطلب خفية نصر بن قبيت والذي كان يوجد بين الحاضرين ليرسله لقضاء حاجة ما.
وبعدما قابل الإسكندر كل الحاضرين الواحد تلو الآخر وسأل كل واحد منهم على اسم أبيه لم يتمكن من مشاهدة النور الذي كان يبحث عنه في جبهة أي واحد منهم. فقال: “سبحان لله لا أرى في وجوهكم النور الذي سيحمله ذلك النبي الذي سيظهر في آخر الزمان والذي جاء ذكره في التوراة وصحف إبراهيم٬ وأنبأ الله تعالى بظهوره وبشر به٬ ربما قد ذهب بعضكم للشام قصد التجارة؟قالوا: “هذا ما حصل فعلا.قال: “لا يمكن الآن القيام بأي شيء إلى أن يحضر الغائبون.قال هذا ثم سكت. انحنى الحاضرون احتراما ثم انصرفوا. ثم غادر الملك الحرم قاصدا مسكنه.
مر ذلك اليوم وبقي الملك بمكة مدة خمسة عشر يوما. وفي يوم من الأيام حل الملك ببيت الله وأمسك حلقة باب الكعبة بيده وقال: “يا رب ارحم هذا العبد المذنب.ثم توجه إلى لله بالدعوى والشكوى والتضرع. وفجأة لمح فتى كان واقفا هناك وجبهته تلمع نورا. فحدق فيه مليا ثم دعاه للاقتراب منه٬ فأجلسه بجانبه وأكرمه وقال له: “ما اسمك؟ قال: “نصر بن قبيت.قال الملك: “كم من جد بينك وبين إسماعيل؟ قال:“سبعة. قال:“هل تعرف أسماء كل أسلافك؟قال: “أنا نصر بن قبيت بن نزار بن معد بن عدنان بن أدا بن سليم بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل لله. قال الملك:“لماذا لست أنت الحاكم على مكة؟قال: “أيها الملك٬ كان أبي حاكما فانتزع مني هذا الحق لأني كنت ضعيف الحال٬ وذلك الذي يحكم اليوم غني ويملك الأموال الطائلة.قال الملك: “ما هو منك؟قال:“هو ابن عمي.قال: “وكم رأسا يملك من الجمال؟قال: “أيها الملك٬ إنه يملك الكثير من الجمال والأغنام.قال الملك: “سأعطيك ألف رأس من الغنم وألف رأس من الجمال.ثم سأله قائلا: “وهل لديك بيت وأهل؟قال: “يا أيها الملك٬ في هذا الأمر٬ نوجد أنا وهو على قدم المساواة.قال: “وهل يملك ذهبا ونقودا أكثر منك؟قال: “لا يملك نقودا٬ ولكنه يملك العديد من السلاح والجياد العربية.قال: “وهل ما يملك من الجياد يناهز المائة رأس؟قال: “أجل. قال: “سأعطيك مائتي رأس من الجياد العربية وألف دينار ذهبا أحمر والعديد من العبيد والخلع والعتاد والسلاح٬ وسأمدك بكل ما أنت في حاجة إليه.وسلم له كل شيء اليوم نفسه. كل هذا ولا أحد من أهل مكة بلغه ما حدث.
وفي اليوم التالي أرسل الملك في طلب سادات مكة وعندما وصلوا كان نصر بن قبيت جالسا بجانب الملك. قال لهم الملك: “هل تدرون من هو صاحب هذا النور الذي يشع من جبهة هذا الرجل؟ إنه النبي الذي سيظهر في آخر الزمان٬ والذي لولاه لما خلق لله عز وجل العرش والفرش والأرض والسماء٬ وما هذه الحرمة التي تحظون بها إلا تقديرا له. فلماذا لا تجعلوه حاكما عليكم؟
قالوا: “أيها الملك الحكم يعطى لمن يملك النعم والأموال والسلاح والدواب. قال الملك: “إنه يملك كل شيء٬ ويجب أن يصبح الحاكم على مكة وعلى كل القبائل العربية٬ والأمر نفسه يجري على أولاده من بعده٬ ولقد توصلت منه بكتب يعبر لي فيها عن امتنانه٬ لهذا تعهدت منذ البداية بأن أصون حرمتكم، وإلا لحقكم الأذى من جراء معاملتكم غير العادلة له.
وقبل أن يغادروا الحرم منح الملك نصرا حلة من لباسه٬ وجعله يمتطي جواده الخاص وأمر سادات مكة بالمسير في موكبه على الأقدام حتى يبلغ مسكنه. وفي الغد ذهب الملك والحكيم أرسطاطاليس ومعهما بعض الفرسان من الخاصة٬ إلى أن وصلوا حيث يقيم نصر فسألوه عن أحواله وأكرموه٬ وما إن شاهد أهل مكة ذلك حتى سجدوا أمام الملك قائلين: “كلنا تحت أمر الملك.وبعدما حيى الملك سكان مكة وقف أمام الكعبة مودعا ثم أمر جنوده بالرحيل […]”.
هوامش:

1 – المصدر: اسكندر نامه، تحقيق ايرج افشار، منشورات چشمه، طهران، 2011، ص 121-124.
2 – كاتب ومترجم مغربي مقيم في فرنسا


الكاتب : التقديم والترجمة من الفارسية: رشيد بازي (2)

  

بتاريخ : 08/07/2017