التجريدية الجديدة في أعمال زها حديد

 

أعمال زها حديد (31 أكتوبر 1950- 31 مارس 2016) ذات التكوينات الهندسية الحارة، الانفجارية والطائرة، التي تنعم بتجريدية طليقة متحدية قوانين الجاذبية، والنظم التقريرية للهندسة المعمارية، ما جعلها أيقونات فنية كشفت عن عبقرية فذة لهذه المهندسة، التي أخذ يتلاشى يوما عن آخر زعم منتقديها، المتعاضدين داخل الخط الكلاسيكي للإنشاء المعماري، بدعوى أن الشكل الخارجي يؤثر في الشكل الفراغي الداخلي، فينتج مساحات جلوس وممارسة أنشطة غير مريحة وأن مشاريعها استعراضية أكثر منها نفعية عملية، وهو ما تبين بطلان دعواه، بعد النجاحات الباهرة التي حققتها أعمالها التجريدية، والوظائف المميزة التي خدمتها كأعمال فنية يمكن اعتبارها بقدر ما هي كذلك، منشآت ذات غايات عملية  معيشية ومؤسساتية.
تقول في ذات السياق:ّ كل ذلك الهراء الميتافيزيقي تحوّل إلى ما أسميه الواقع المحسوب، كنا –المعماريون- نشعر أن هناك شيئاً سيحدث، أننا سنكتشف شيئاً، أن هناك طاقة عظيمة في الأرجاء، مثل طنين مجهول على السلالم وفي الغرف وفي الشباب الطائش وفي الموضة، كان الجو مشحوناً بالتمرّد على كل شيء، لم يرد أي أحد أن يكون عادياً». لهذا كان طموح هذه الفنانة منذ مرحلة متقدمة من بدايتها، هو تدمير مساحة الحظر، والاقتراب إلى الحدود القصوى من العوالم التجريدية عبر تجريبية طليقة، بتفكيك الأشكال الهندسية الأساسية، وإعادة استلهام معطياتها المعمارية بشكل لا أوقليدي، لهذا نجد منجزاتها في فن العمارة لا تهتم فقط بالاحتياجات المباشرة، والقياسات البشرية، بقدر اهتمامها بتحقيق الرؤية الحُلمية التي تسقطها رياضيا في التكوين الفراغي الداخلي، والأشكال المبتكرة للواجهات الخارجية ذات الإنسيابات الجريئة، والتموجات التي تذكرنا في كثير منها بنعومة المنحنيات اللطيفة للخط العربي، لتنتقل من محاكاة وتنفيذ القواعد الهندسية برفض صوريتها وأبعاد مرائياتها التقليدية، إلى الانتقال للتجريدية الصرفة، التي تتعامل مع الأفكار والشعور والأحاسيس، أو ما يمكن أن نستعيره عن (كاندانسكي) بالضرورة الداخلية ، لتجعل اللامرئي مرئياً . إنه الفن الذي ينقل المشاهد إلى المشاركة في العمل الفني، بدل أن يكون حاكماً عليه فقط، والذي يقطع نهائياً مع الواقع . الأشكال قائمة بذاتها ، مبتكرة من ذوات الأفكار والأحاسيس ، لا تدل غالباً على موضوع  فباعتمادها على التفكيكية التي استرعتها في توليد لأنماط وأساليب حديثة في التصميم، نفدت 950 مشروعا في أكثر من 25 دولة، حيت تميزت أعمالها بالخيال الجامح، والتعبيرية الجديدة المفرطة، يقول ناقد الفنون المعمارية أندرياس روبي :مشاريع زها حديد تشبه سفن الفضاء تسبح دون تأثير الجاذبية في فضاء مترامي الأطراف، لا فيها جزء عال ولا سفلي، ولا وجه ولا ظهر، فهي مباني في حركة انسيابية في الفضاء المحيط، ومن مرحلة الفكرة الأولية لمشاريع زها إلى مرحلة التنفيذ، تقترب سفينة الفضاء إلى سطح الأرض، وفي استقرارها تعتبر أكبر عملية مناورة في مجال العمارة.
فلم يشهد تاريخ الهندسة المعمارية فنانا بجرأة زها حديد، وقدرتها على تخطي حدود المفاهيم الكلاسيكية، وتحدي قوانين الجاذبية معا، حيث أنها كجميع عباقرة الفن تعرضت تصاميمها الأولى التي عرضتها على أكثر من مؤسسة ، إلى سخرية لاذعة من طرف عموم النقاد، وانتقادات لا حصر لها، على اعتبار ما تقدمه تصاميم جذابة يمكن أن يعرضها مخرج موهوب في فيلم خيال علمي، معتمدا تقنيات الخدع البصرية، أكثر منها تصاميم يمكن إنجازها على الواقع، حينها كانت النصائح التي تذيل بها الملاحظات على مشاريعها، أن تلتزم  بالعقلانية في التصميم وإن استمرت على هذا الطرح فستظل مشاريعها حبر على ورق، بالنسبة لها كان الطرح مختلفا تماما، والمسار واضحا أمامها، نملك 360 درجة لماذا نتقيد بواحدة فقط كما تقول .. لتوغل في تجريديتها الجديدة التي لم يمر كثير وقت، حتى يتم تبنيها لإنشاء كبريات المنشآت في الكرة الأرضية،  وتصير إلى ذلك أسلوبا ومرجعا لأغلب الفنانين المعاصرين، سواء التشكيلين منهم أو المهندسين.
ومن أبرز معالم تجريدية هذه الفنانة، اعتمادها على تفكيكية تهيمن عليها انسيابية عالية، وهندسة غير منضبطة، بتوظيف إشراقات حُلمية وجمالية هي من صميم خلاصة الفنون التعبيرية، ما جعل تحفها الهندسية تكون الأقرب إلى تعقيدية ليوناردو دا فنتشي في صرامته، وقوة الابتكار في أعماله، فلمساتها التخطيطية الفانتاستيكية وخيالها الإنشائي المغرق في الحرية والارتكاز على التصورات النبيهة لمقومات الحداثة الفكرية، وخروجها عن الكلاسيكية والمألوف تتجلى رحابته بوضوح في مبانيها المنتشرة حول العالم، ما جعلها توصف بأقوى مهندسة على مر العصور، وتتوج بأرقى الميداليات والأوسمة، بعضها كان المرة الأولى التي تحظى بها امرأة، ما جعل مجموع ما حصلت عليه من جوائز في الهندسة يفوق في قيمته الأدبية جائزة نوبل.
فتجريدية زها حديد الصداحة ليست مجرد ابتكارية جديدة، أرست لنا أيقونات فنية متميزة، بل هي ثورة متكاملة الأركان وتتويج للمدرسة التجريدية برمتها، حيث يمكن اعتبار أعمال هذه الفنانة هي محصلة الروح الفنية الخلاقة، واستبصار متقدم للمقومات الجمالية لهذه المدرسة الفنية العريقة، وتجاوز لها في آن.


الكاتب : عبد الواحد مفتاح 

  

بتاريخ : 08/07/2017