أوراق من سفر فات : أثينا التي لا تغيب عنها الآلهة 10 : الطريق نحو ريو دي جانيرو يمر من بوابة تونس العاصمة

كلما كنت على أهبة سفر، كانت الدهشة ممزوجة بالفرح تسكنني.
السفر مناسبة سحرية لترك المكان ومعانقة زمن آت، بداخله كل التفاصيل غير المنتظرة.
السفر فرصة نادرة لتنمو أجنحة الذات.
أجمل ما في السفر، الذكريات التي ترسمها بعيدا، تلامسك كلما أشعلت فانوسها، فيسعفك وقتها ضياء تلك الأمكنة التي رأيتها، تتذكر حرارة الناس سواء الذين رافقوك أو أولئك الذين صادفتهم وأضحوا يشكلون جزءا عزيزا وثمينا من ذاكرتك التي تختبئ في عظامك إلى ما لا نهاية.
في هذه الأوراق محاولة بسيطة لاستدراج الأمس، لاستدراج الحكايات، لاستحضار الأسماء والأمكنة عبر ذكريات عشناها بطعم خاص وأضحت اليوم جزءا من الذاكرة المتقدة.
لنسافر إذن بدون بطاقة سفر وبدون مواعيد…، اللهم من سطور نتكئ عليها، عساها أن تسعفنا لنفَيَ بالمراد.

 

لم تكن هذه الحلقة التي سنخصصها لمرحلة ليست بالعادية إلى البرازيل وتحديدا إلى ريو دي جانيرو التي فتحت ذراعيها لأول بطولة عالمية للأندية مقررة في هذه الأثناء، فقد كان دور هذه الحلقة سيحل بعد الزيارة ثقيلة الظل إلي القاهرة ثم الرحلة الطويلة إلى فرنسا التي نظمت نهائيات كأس العالم، لكنها ولظرف طارئ فرضت نفسها بأن يكون لها السبق.
وهذا الظرف الطارئ، هو رحيل الصديق العزيز سي أحمد بلكاهية، الذي ودعنا في الأسبوع الماضي، وسي أحمد رحمه الله كان له الفضل الكبير في أن أكون ضمن لائحة الوفد الصحفي الذي سيطير إلى أمريكا اللاتينية وإلى أحد كبرى دولها مساحة وعطاء كرويا.
لنبدأ الحكاية من الأول، فالصديق الرائع سي احمد، كان لي معه أسبوعيا لقاء حميمي، حيث كنا نلتقي زوال كل يوم ثلاثاء الذي يصادف عطلتي الأسبوعية.
الحديث مع سي أحمد ذو نكهة بالغ المتعة، لما له من ثقافة موسوعية قل نظيرها، وبحكم أنه صحفي بجريدة لومتان، فقد كان قريبا من كل الأحداث السياسية والثقافية، أما الرياضية فهو يعيش بداخلها وتسكنه أحداثها على مدار الساعة.
في إحدى محطات هذه اللقاءات الأسبوعية، اشتكيت للراحل من الغبن الذي لحقني بعد الزيادات التي أقدم عليها الأستاذ عبدالرحمان اليوسفي بعد مدة ليست بالطويلة على جلوسه على كرسي المدير المسؤول عن الجريدة (الاتحاد الاشتراكي) ففي الوقت الذي ثمن فيه الزيادة لبعض الزملاء والأصدقاء لنحو الثلاث آلاف درهم، لم يمنحني أحد صانعي هذه الزيادة سوى 700 درهم، ولحد الساعة لم أعرف المقاييس التي تم اعتمادها، على كل حال، ركبنا صهوة التسامح وقلنا لابأس، فتلك حسابات أخرى غير بريئة بالنظر إلى حساسيات غير موجودة أصلا إلا في مخيلة محترفي عملية الطرح والقسمة.
اشتكيت للراحل سي احمد، فقال لي لا تبالي، فإن هناك مشروعا قادما وأنت ضمن دائرة هذا القادم.
والحقيقة، أنني رفضت في العديد من المناسبات أن أساهم من بعيد في العديد من المنابر التي أضحت تتكاثر وقتها، و بمقابل سخي، لأن تقديري كان وقتها أنني ملتزم التزاما أخلاقيا أولا مع الجريدة ولا يمكن أن أكون خارج هذا الالتزام.
لكن ومع الزيادات الجديدة التي كنت خارجها، لم يكن بوسعي سوى أن أقوم بردة فعل مازالت إلى اليوم تسكنني، وتمنحني الانطباع بأن ذاك الزمن كان نقطة الانطلاق نحو الخطأ.
ترددت كثيرا وأنا اكتب هذه الخطاطات بخصوص استرجاع مثل هذه التفاصيل التي كان لها عناوين كبرى لا داعي لذكرها اليوم، لكن ظروف النص والتذكر واستحضار روح الراحل، كانت دافعا لابد منه لصياغة هذه المعطيات.
ورب صدفة خير من ألف ميعاد، فقد طلب مني سي احمد وأنا في عز هذه الأزمة الأخلاقية والمادية التي استفاد منها البعض لسبب بسيط، وهو أنهم مع التيار البارد القادم من بحر الشخصنة والعناد غير المفهوم، طلب مني أن أكون جاهزا لأساهم إلي جانبه ورفقة بعض الأصدقاء الآخرين، في إصدار جريدة ستكون لسان حال فريق الرجاء البيضاوي.
أصدرنا أعدادا كثيرة بمواد متنوعة تمزج بين التاريخ وصناعه و بين إنجازات الرجاء التي خطت وقتها أول الخطوات نحو العالمية، وأضحت الجريدة الخضراء في مقدمة المجلات بسوق النشر (13ألف عدد).
لابد هاهنا ورفعا لكل التباس أو قراءة غير مستقيمة أن أستحضر جملة كتبها الكاتب نبيل معلوف قائلا إن “»الروائي ليس ملزما بدقة التاريخ، لكنني أعتقد أنه ملزم بعدم الكذب تاريخيا«”.
وحتى لا نغرق في التفاصيل، ونحرص على أن يظل استحضار الذكريات على قدر كبير من النقاء. فقد كان لسي أحمد بلكاهية الدور في أن أخرج من العمل الروتيني والمليء بالحفر الصغيرة إلى رحاب علاقات جديدة، تعرفت عبرها على رجال وأسماء مازالت تربطني معهم حتى اليوم علاقات الود والاحترام والتقدير وفي مقدمتهم امحمد اوزال، عبد الله غلام، أحمد عمور، عبد الحميد الصويري، عبد السلام حنات، وآخرون الذين أكن لهم التقدير اللازم والمطلوب.
الخطوة الأولى نحو ريو دي جانيرو كانت العاصمة التونسية، في لقاء نهائي حارق بين الترجي والرجاء، أتذكر أن الشهر كان شهر رمضان، وتمكن الفريق الأخضر، بفضل الحارس الكبير الشاذلي، من انتزاع بطاقة التأهل لأول مونديال للأندية، بعد مباراة استعمل فيها سليم شيبوب كل أساليب الغش والسلطة والمال، لكن وبفضل تسلح الرجاويين بكل الأسلحة الثقيلة والتي كان أولها الاحتجاج والصمود والدفاع عن الحق والأحقية في التأهل على أرضية الملعب وليس خارجه، فقد انتزعوا ورقة العبور.. ويستمر الحكي في الحلقة المقبلة.


الكاتب : عبد الرزاق مصباح

  

بتاريخ : 12/07/2017