إدريس المالومي يسافر بالزيلاشيين وضيوفهم بحثا عن المعنى

حينما تحمل الموسيقى رضيع الشعر بين يديها لينام على مهد من وتر، ويصحو على نوتة هاربة إلى الصفاء… حينما ترحل وتسافر وأقدامك إلى الأرض مثبتة وتعود بروح خفيفة حفيفة فلا ترى غير ذاك الضوء الخافت والبعيد الذي يسكن في زاوية قصية وغويرة من روحك، فاعلم أنك في حضرة شاعر العود إدريس المالومي… في حضرة صوفية جاذبة يصبح فيها الحلول عقيدة وتغدو فيها الموسيقى تكيّة للدراويش ممن ما زالوا يحنون ويبحثون عن معنى في زمن اللامعنى وعن روح الروح ونسيمها.
هكذا أطل وحلق المالومي ليلة الثلاثاء الماضي بجمهور الزيلاشيين وضيوف منتدى أصيلة في دورته 39، بمكتبة الأمير بندر بن سلطان، حلق بهم إلى رحابة المعنى، كلمة وصوتا وصدى، وغاص بهم عميقا في الروح والريح باحثا عن نسيمها، ليمسح ما تقعّر في النفوس من غبار الزمن اللاهث خلف السريع والمتحول والمنقطع، باحثا معهم عن الجميل المنفلت الذي يسرقه ضغط الوقت وشروطها. المنفلت الذي يجعلك المالومي وأنت في حضرته تتلفت إلى اليمين، إلى اليسار ، إلى الداخل، كأنما كان وضاع، لكنه قابع في كل من لايزال يؤمن بأن العودة إلى الإنسانية وبأن الموسيقى كمقترح جمالي، مشروع ممكن لهزم الخسارات الثقافية .
حرص إدريس المالومي وفرقته الموسيقية في هذه الأمسية الباذخة بالمعنى أن يعكس روح التنوع المغربي والغنى الثقافي، فقدم كل تعبيرات المغرب الثقافية في تلوينات موسيقية وغنائية أمسكت في قبضة يديها الموروث الأمازيغي والأندلسي الموريسكي، وصوت الواحات الجنوبي، كي تصعد سلالم موسيقى الآخر التركي في إحالة على انفتاح ينشد قيم العيش المشترك والسلم والتعايش، وهي إشارة ذكية منه إلى رفض كل دعوات الانغلاق والانكفاء على الذات وفردانيتها.
أجزل المالومي في عطائه لآلة العود فبادلته العشق بسخاء يعكسه كل ذلك التجاوب الكبير من الجمهور، تجاوب راوح بين الانبهار والصمت وفق ما يتطلبه المقام.
العود والدف والإيقاع في حركة متناغمة تتقن التموجات التي تعلو فتهدر مثل عاصفة قادمة، ثم تنحني لتمر العاصفة كأنها الحفيف في تبادل للأدوار يحيل إلى ما في النفس البشرية من اصطخاب وحنو، مابين قوة وضعف لينتصر الخير والجمال في الأخير.
خفة إيقاعية وحركات خارجة عن السيطرة وذائبة في سطوة اللحظة وشطحاتها، تنم عن تجربة فنية رصينة تعضدها الدراسة والبحث الدائبان ضمن مشروع موسيقي مغاير يبحث عن العمق، مشروع يجعل الموسيقى حوارا حضاريا مفتوحا لا يؤمن بالحدود، جغرافية كانت، اجتماعية أو سياسية.
قدرة خارقة على تطويع الآلات الموسيقية المصاحبة للعود، تارة تسبقه وتارات يعيدها إلى عصمته، فتتنقل أنامل المالومي بين أوتار العود الذي يتحول إلى جسد كل الخلايا فيه متحفزة للانفجار، تتنقل في حوار لا وسيط فيه غير الإحساس بكل قطرة تنساب من الصوت والكلمة واليد في انتقالات موسيقية تطوح بك إلى سماوات بعيدة حيث لا نجمَ إلا أنت، وما أن تستلذ هذا الدوار الخفيف اللذيذ حتى تعود بك رويدا رويدا إلى اليابسة حيث الجسد المنهك ينشد الخلاص.
شارك المالومي أسماء عالمية في إبداعات متفردة وراقية نذكر منها الإسباني جوردي سافال وعازف القيثار الهندي الشهير ديباشيش باتشاريا، كما شارك مع الرائد اللبناني مارسيل خليفة في عدة معزوفات.
في رصيده الموسيقي عدة أسطوانات: “القلب”، “ثلاث ميمات”، “رقصة الروح”، “مكان”، كما ألف كتابا بعنوان “مارسيل خليفة ضرورة موسيقية”.
نال المالومي عدة جوائز منها جائزة زرياب للمهارات في 2011 التي تمنحها اللجنة الوطنية للموسيقى بالمغرب، كما حصل على الوسام الشرفي لوزارة الثقافة الفرنسية في 2016.


الكاتب : أصيلة: حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 21/07/2017