المفكر حيدر إبراهيم 02 : لو استمرت هذه الأحوال فما علينا إلا التفكير في طريقة دفن الوطن

د.حيدر إبراهيم علي.. دبلوم في التاريخ والتربية 1966 كلية التربية أم درمان، ليسانس في علم الاجتماع القاهرة 1970، دكتواره فلسفة في العلوم الاجتماعية جامعة فرانكفورت 1978، منسق الدراسات والنشر المجلس القومي للثقافة العربية. الرباط 1990- 1993. مدير مركز الدراسات السودانية 1993 حتى الآن.. رئيس تحرير مجلة كتابات سودانية 1995 حتى الآن..
له العديد من المؤلفات، التغيير الاجتماعي والتنمية، مقدمة في علم الاجتماع، أزمة الإسلام السياسي الجبهة الإسلامية نموذجاً، لاهوت التحرير، الدين والثروة في العالم الثالث، الديمقراطية والمجتمع المدني في السودان، التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية، مواقف فكرية، المثقفون التكوين في السودان، المجتمع المدني والمجتمع التقليدي في السودان، العولمة، أزمة الأقليات في الوطن العربي (بالاشتراك مع د. ميلاد حنا)، التعليم وحقوق الإنسان، سقوط المشروع الحضاري القاهرة.. حول عدد من القضايا كان حوارنا معه..

 

نظرية المؤامرة في مواجهة الغرب.. إلى متى تمثل مخرجاً للأنظمة العربية من مساءلات شعوبها..؟

قدم الاجابة المفكر الجزائري (مالك بن نبي) قبل نصف قرن..” ليست المشكلة في الاستعمار ولكن القابلية للاستعمار”..

إغلاق عدد من المراكز الثقافية والفكرية، آخرها إغلاق اتحاد الكتاب.. هل يمكن تصنيف ذلك في إطار صراع السلطة والمثقف.. أم أن للأمر أبعاد أخرى..؟

مصطلح الصراع بين المثقف والسلطة غير دقيق.. إذ لا توجد سلطة حتى بالفهم الدكتاتوري.. هذا نظام اسميته (الأمنوقراطية) حيث يحكم جهاز الأمن مباشرة وليس كمعاون للحكومة.. وبالتالي تغيب أو تتداخل السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، وفي الحالة السودانية الصراع بين الأمن والكل..

متى يتم التقارب بين المثقف والسلطة السياسية؟

في السؤال كثير من التجاوزات لأنه يستحيل إطلاق صفة مثقف على شخص يقف مع هذا النظام مهما كانت قدراته عى الكتابة والتأليف أو الفصاحة.. لأن المثقف هو موقف منحاز للإنسان والإنسانية، ومن هنا يستحيل أن يقبل شخص التعذيب والاعتقال التعسفي والتشريد والغاء الحريات ثم نطلق عليه صفة مثقف لأن لغته جميلة مثلا.. قل عنه كاتب جيد أو شاعر مجيد أو ناظم أو سارد أو محلل، ولكن ليس بأي حال من الأحوال مثقف..

إذا من أين تأتي الأنظمة الدكتاتورية بمثقفيها.. إذا ؟

جاءت السلطة بمادحين وحارقي بخور يبيعون انفسهم لمن يدفع.. وتصور أن بعضهم قال نفس كلامه للنميري.. النظام الحالي لم يقف لجانبه مثقفون حقيقيون لذلك قام بتصعيد وحشد عدد من عديمي الموهبة في المؤسسات الإعلامية والثقافية.. ألبسها البدل الكاملة والكرافتات، وأركبهم السيارات الفارهة، وأسكنهم المنازل الفخمة.. ملأ بهم الصحف والقنوات الفضائية، ليقوموا بتزييف الوعى ونشر الاكاذيب. جاءوا برؤوساء تحرير صحف تخرجوا من خلاوى أطلق عليها تسمية (جامعة).. كما أنهم نشأوا في فترة دكتاتورية النميري:” أبوكم مين؟” ومن كان أبوه نميري فحدث ولا حرج.. ثم تدربوا علي الاسفاف والمهاترة والانحطاط ، لإي أزقة صحف “ألوان” و “الراية”، وتخرجوا في زمن الإنقاذ.هذه عينة من الذين تسميهم ” مثقفي السلطة. وهم بلا تجاوز أو ظلم، أقرب لفتوات “الانادي”، فقد أغلق نظام الانقاذ الانادي ومنعها وفتح صفحات الجرائد.تعرضت شخصيا لتجربة اعتداء من قبل هؤلاء: إذ أعلن رئيس تحرير صحيفة كبرى لقرائه أنه سينشر فضائح تخص شخصي، ولكن لم يفعل ولم يعتذر لقارئه ولا للشخص الذي أساء له.. أنهم لا يتحلون بأي نوع من الشجاعة الأخلاقية.اتصلت بمحامين لمقاضاته، فنصحوا بعدم اضاعة الوقت لأنه “مسنود”.

إلى أي جهة يجب أن ينحاز المثقف والمبدع السوداني.. تلك التي يشكلها عبر إبداعه، أم إلى جهة الأنظمة؟

المثقف الحقيقي لا يحتاج للارتباط بأي سلطة مهما كانت: سياسية أو دينية أو غيرها، لأنه في حد ذاته سلطة معنوية أقوي من كل هذه السلط، لو كان ملتزما وصادقا. فالحكام يجب أن يذهبوا للمثقف وليس العكس. فالمثقف – كما عرفه سارتر- هو الضمير الشقي لشعبه. فالمثقف يجب أن يكون أمام أي سلطة لتهتدي بافكاره، وليس خلفها يبرر لها ما تفعل.

كيف يبدو غيابنا عن فضاءات الحداثة وما بعدها؟

نحن حسب الزمن الحضاري وليس الفلكي، بالضبط في عام 1504م حين التقي عمارة دونقس بعبدالله جماع، وقررا التحالف وتكوين سلطنة الفونج أو السلطنة الزرقاء.

المبدع السوداني مازال يخشى النقد..

بسبب عدم النضج، والنرجسية وعدم الرغبة في التطور والتجديد.

بين لفظتي (العتاب) و(الجحود).. العلاقة بين مركز الدراسات السودانية واتحاد الكتاب السودانيين.. إلى أي خصام مضت..؟

كانت حادثة مؤسفة أن تقوم مجموعة تدعي الديمقراطية والتقدمية باستغلال نقابة أو اتحاد لتصفية خلافات شخصية وأن تقوم بابتزاز وتخويف شباب ليسوا طرفا في الخلاف لتمرير بيان باسم إتحاد الكتاب.. ولكن الآن علي رأس الاتحاد مثقف جاد ومحترم وموضوعي، جدير بالاحترام هو د.أحمد الصافي. فقد انتهي الخصام مع الاتحاد بذهاب من أرادوا الفتنة والاستفزاز.

يرى هربرت ماركيوز أن البروليتاريا فقدت ثوريتها بعد اندماجها في النظام الرأسمالي.. من سيتولى مهمة التغيير في دول العالم الثالث؟

يعتبر ماركوزة الاب الروحي لليسار الجديد عقب ثورة الشباب في عام1968، وكان يري أن البروليتاريا قد فسدت بسبب اندماجها في المجتمع الاستهلاكي- الرأسمالي، وبالتالي لن تثور عليه بل صارت مستفيدة من ثماره.ومثلت أفكار ماركوزة بعض ملامح حقبة ما لعد الحداثة، فقد شكك في نتائج عصر التنوير واعتبر أن العقلانية والتكنولوجيا قد قادت لل”إنسان ذو البعد الواحد”. فقد عوّل كثيرا علي الطلاب باعتبارهم طبقة أو فئة ” نقية” يمكن ان تقوم بالثورة ولكنها لا تملك قوى الانتاج. وبالمناسبة شهدت تلك الفترة ظهور الجماعات اليسارية الارهابية، مثل جماعة بادر-ماينهوف في المانيا، والجيش الأحمر في اليابان، والطريق المضئ،والعمل المباشر، والألوية الحمراء.ولكنها أندثرت مه نهاية سبعينيات القرن الماضي. وتخلت اوربا أو الغرب، عن أفكار الثورة، متحدثة عن ” الطريق الثالث” صار أعلي سقف هو التوجه الاشتراكي-الديمقراطي أو النموذج الاسكندنافي أو تدخل الدولة في الرعاية الاجتماعية.وفكريا، ساد فكر النهايات: نهاية التاريخ، وموت الإنسان أو الإله، ونهاية الايديولوجيات.

قلت أن التنوير مهمة المثقفين في زيادة الوعي من خلال انتاج الافكار ونقدها دون إدعاء زعامة سياسية.. هل يعني عدم إيمانك بالمثقف المنتمي؟

أؤمن بلا حدود بالمثقف المنتمي والملتزم جانب شعبه ووطنه وفكره.. المثقف مطالب بانتاج الأفكار ونقدها وليس بتهييج الجماهير وحشدها كما يفعل الزعيم السياسي الذي يحركها بحنجرته وصوته وليس بافكاره.. فالعمل السياسي عندنا ديماغوغي بامتياز ولا يحتاج للعقل كثيرا بل ميدانه العواطف والمشاعر الخام.. قصدت ألا يجاري المثقف السياسيين في اسلوبهم وطريقة عملهم، وهذا لا يعني العيش – كما يقال- في ابراج عاجية. ولكن التعامل مع الجماهير باحترام وصدق والعمل علي محو اميتها الابجدية والفكرية والسياسية.

كيف تجد تطور موقف وخطاب تيار ما يعرف بـ “الإسلام السياسي”.. التطور في فكر وخطاب التيار الإسلامي والمشروع السياسي، وإلى مراجعة وتطوير رؤية الإسلاميين للعديد من القضايا الملحة؟

ظل كسب الاسلامويين الفكري ضعيفا وضحلا ، واكتفوا ب”التشعلق” علي أفكار الأب، واعتبروا التفكير والكتابة فرض كفاية إذ قام به البعض سقط عن الباقين.فقد بقي تيار الإسلام السياسي مشغولا بالامور التنظيمية والحزبية فقط.. فهم لم يصدروا مجلة فكرية خاصة بهم غير مجلة “المنار” النسائية. ورغم الامكانيات المادية الهائلة توقفت مراكز ودور نشر ومجلات، حاولت خلق حركة فكرية إسلامية في حجم أو مماثل للتضخم التنظيمي والحزبي.فقد نشأت الحركة الإسلامية عالة علي الفكر القادم من الخارج ثم اقتنعت باجتهادات شيخ حسن- كما يفضلون.كانت بداية البحث عن بناء حركة فكرية قد تبلورت في تأسيس”جماعة الفكر والثقافة الإسلامية” في مارس1981 .وجاء في أسباب التأسيس:” فقد كانت أقوى البواعث المحركة لتكوينها وإنشائها هذا الاحساس العميق الذي استشعره ومازال يستشعره الكثيرون منا كل يوم ببؤس الحياة الفكرية والثقافية عامة وركودها في بلادنا”.اصدرت مجلة الفكر الإسلامي والتي لم تستمر طويلا.لم يزد نشاط الجماعة عن المؤتمر الأول في نوفمبر1982 والذي نشرت وقائعه في كتاب:”الإسلام فس السودان”.وعجزت الحركة الإسلامية السودانية عن تأسيس تيار فكري متميز قبل وبعد استيلائها علي السلطة.وتهاوات كل مؤساتها الفكرية قصيرة العمر: معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، والمركز القومي للانتاج الاعلامي،وتوقفت سلسلة رسائل التجديد الحضاري/ والبعث الحضاري.. ولم تستمر هيئة الأعمال الفكرية منذ أن تركها (المحبوب عبدالسلام)، ولا نسمع عن إصدارات مركز الدراسات الاستراتيجية منذ أن غادره (بهاء الدين حنفي).. ومات بيت الثقافة بقيادة (عادل الباز) وتوقفت صحف (محمد محجوب هارون) التي استنزفت العملات الصعبة في الخارج.. وكان المستفيد الوحيد من الهوجة الإعلامية، التونسي (محمد الحامدي الهاشمي) الذي اغتني من أموال الشعب السوداني لدرجة الترشح لرئاسة الجمهورية وتملك قناة (المستقلة).. وتوقفت مجلة ( التأصيل) التي كان تصدرها إدارة التأصيل بوزارة التعليم العالي، ومجلة (أبحاث الإيمان) عن المركز العالمي لأبحاث الإيمان، و(البرلمان) مجلة فكرية ثقافية دورية تصدر عن المجلس الوطني، ومجلة (دراسات إفريقية) ومجلة (أفكار جديدة).. ويوجد الآن (مركز التنوير المعرفي) وإصدارات وزارة ثقافة ولاية الخرطوم.. ولكن مشكلة الإسلامويين أنهم يتوهمون قيام ثقافة مع غياب الحرية واقصاء الآخرين وعد السماح لهم بالتعبير في الوسائل التي ينفق عليها الشعب السوداني.
لم اقتنع بمراجعات الإسلامويين خاصة تفسير مواقفهم في الأيام الأولي التي عرفت بيوت الاشباح والتعذيب والتشريد.لم يوضح لنا: الطيب زين العابدين،وعبد الوهاب الأفندي، والتيجاني عبدالقادر،وخالد التيجاني، والمحبوب عبدالسلام،وخضر هارون وغيرهم من المراجعين كيف كان موقفهم وشعورهم؟ هذا جانب هام حول جديتهم في خيار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

يتحدث إسلاميون في النظام الحاكم عن فشل مشروع الدولة الاسلامية.. هل هذا يعني فشل نظرية الدولة الدينية.. أم التجربة؟

فشل الاثنين معا، فالتاريخ الإسلامي لم يعرف ما يسمي بالدولة ولكن عرف الخلافة الإسلامية.. ووجود مفهومين مستقلين يعني بالضرورة اختلافهما وتمايزهما في الفلسفة والمؤسسات.. وقد أخذت الخلافة أسم الأسر التي حكمت من أمويين وعباسيين وايوبيين واخشيديين وبويهيين ومماليك.. الخ. وكانت كلها ضمن الملك العضوض ولم تترك أي تراث لنظرية سياسية إسلامية.. مشروع الدولة الإسلامية مجرد يوتوبيا أي توجد في اللامكان تحولت بعد التطبيق الي(دستوبيا) أو مشرع الكارثة واليأس.

المجتمع المدني السوداني هل ينجح في ملء الفراغات التي خلفها غياب السلطة والمعارضة؟

تحول المجتمع المدني لأنه سوداني، إلي ثالثة الأثافي المكملة للحكومة والمعارضة، فالنخبة السودانية لديها قدرة رهيبة في تحويل الوعود والآمال الي كوارث: كلما انبت الزمان قناة ركّب السوداني في القناة سنانا. فقد تحولت كثير من منظمات المجتمع المدني الي وكالات إعاشة لبعض المتعطلين ومصدر للترفيه والرحلات للخارج دون تقديم أوراق أو مساهمات فكرية للفسحة والمظهرية فقط.أين هذه المنظمات ورئيس كونفدرالية منظمات المجتمع المدني(أمين مكي مدني) معتقل منذ 6 ديسمبر الماضي؟

إحتماء السودانيين بنار الغربة من رمضاء الاغتراب الداخلي.. هل يقلل من احتمالات تغيير مرتقب؟

لم يلاحظ السودانيون أنهم أعادوا تجربة اليهودى التائه والخروج الكبير(exodus) بعد عام1989 وعليهم ألا ينزعجوا لو انقطعت صلة ابنائهم وبالذات بناتهم بالوطن وصاروا غربيين، جيلنا المهاجر عليه الا يتباكي بدموع النساء علي وطن لم يبنيه- خارج الاناشيد والأغاني- بطريقة تضمن مستقبل الاجيال القادمة .فقد فرّط ومازال يفرط في استرداد الوطن الذي قال أنه يحلم به يوماتي. فقد تركه مستباحا للتتار والظلاميين لربع قرن كامل، وظل يتلذذ بحلم اسقاط النظام في المواقع الاسفيرية وتكوين الجبهات والائتلافات وإطلاق النداءات التي ما قتلت ذبابة.أكرر لو استمرت الأحوال بهذا المنوال، فما علينا إلا التفكير في طريقة دفن الوطن بطريقة لائقة فقط.

سعى محمد عابد الجابري من خلال مشروعه الفكري، لتجديد العقل العربي من داخل تراثه.. في رأيك هل مازال الفكر العربي يحمل في داخله بذرة التجديد من داخله؟

لايسمح المجال بمناقشة موضوع العقل والعقلية، ولكن لقد أخطأ (الجابري) حين اعتبر أن مشكلة المسلمين في رؤوسهم فقط ولم يعط بطونهم بعض الاهتمام.. فهم يعيشون في مجتمع راكد لأكثر من 14قرنا لم تتغير خلالها وسائل الانتاج ولم نشترك في صنع التكنولوجيا التي نستهلكها وبالتالي لم نساهم في انتاج العلوم.
اختلاف التراث عن الحضارة المعاصرة في النوع والكيف وليس اختلاف درجة وكم. وكأنك تتوقع أن تتطور الشجرة إلي الإنسان. وبسبب تمسك (الجابري) بالتراث انكر دور العلمنة مع أنه هو نفسه نتاجها المباشر. وبسبب التركيز علي الخصوصية أهمل العام والإنساني في أوضاع كثيرة.. لقد بدأ (الجابري) ناقدا وثائرا وانتهي توفيقيا خائبا بمعني ضمور مشروعه ولم يجد الانتشار رغم أنه كان مكثرا في الكتابة.

كيف يمكن أن تصف الأزمة التي يعيشها المستبدون العرب..؟

من الذي قال لك أن المستبدين العرب يعيشون أزمة؟.. فهم يحكمون عقوداً من الزمن وليس سنين.. وهل عبّر(بشار الأسد) عن الشعور بأزمة؟ طالما حيدوا وهمّشوا شعوبهم، فهم في راحة..


الكاتب : حوار: ماجد القوني

  

بتاريخ : 27/07/2017