متعة القصة في ” أضغاث أحلام ” لمحمد حماس

راكمت القصة القصيرة، كجنس أدبي، نصوصا قصصية متنوعة ومتفاوتة في شرق المغرب، وهو الأمر الذي جعل منها تجربة لها نكهتها وخصوصيتها أولا ، ثم مساهمتها ثانيا في تأثيث عوالم الحكي المغربي. ونذكر من هذه التجارب القصصية مريم الحلو ، محمد لمباركي ، محمد العتروس ، ومحمد حماس الشاعر والقاص الدؤوب منذ الثمانيات من القرن الماضي ، ويأبى أن يستريح من لعنة الكتابة الجميلة ، وتشهد مجموعتاه القصصيتان « امرأة تمارس طقوسها « و « أضغاث أحلام « أنه سارد بارع ويستحق الحياة والكتابة .
« أضغاث أحلام « التي صدرت مؤخرا في طبعتها الثانية عن منشورات «الرباط نت» ، تحتوي عشر قصص كتبت في ما بين 1989و 2003، عناوين هذه القصص العشر هي « أضغاث أحلام ، الرجل ذو السيف الخشبي ، الطابور، العجوز ، كازابلانكا ، حنين ، عزلة ، متاهة ، خيلاء ، ورحيل السيد سين « . أما طباعيا ، فتثير انتباهنا المجموعة بأناقة شكلها الذي صممه القاص والشاعر نفسه ، وهي أناقة من شأنها فتح شهية الدخول إلى عوالم هذه المدونات السردية التي تتراوح بين الهموم الجماعية والذاتية .
يتكون غلاف المجموعة من دفتين أمامية وخلفية ، وكل دفة تختزن مجموعة من المشيرات . فبخصوص الواجهة الأمامية للغلاف يستقبلنا في الأعلى اسم الكاتب « محمد حماس « مشيرا أوليا ، والذي يعني في ما يعنيه أن القصص « حلال « وليست لقيطة ، ثم يأتي العنوان مشيرا ثانيا وقد كتب تحت اسم المؤلف بحجم أكبر وذلك للفت الانتباه وتصيد القارئ ، ثم أسفله كلمة « قصص « التي تمنح النصوص تأشيرة الانتماء لفن القصة القصيرة ومن ثمة برمجة القارئ لاستقبال عوالم سردية من طبيعة قصصية «مجموعة» .
وقبل أن أتطرق إلى قصص المجموعة ، أريد أن أتوقف ولو قليلا عند العنوان الرئيسي الذي اختاره القاص « أضغاث أحلام « ، فهو بوابة من بوابات الدخول ، ومرآة مصغرة للنسيج النصي ، ويمثل أنموذج الاقتصاد اللغوي المكثف : مبنى ومعنى. وحين قراءته نلاحظ أنه عنوان في شكل جملة بمفردتين نكرتين ، فالأضغاث تعني في المعجم الوسيط كل « ما كان منها ملتبسًا ومضطربًا « ، كما تعني «التداخل والاضطراب»، أنا خارج الدلالة المعجمية. وبعد الغرق في قصص هذه المجموعة نكتشف أن هذه « الأضغاث « لن تكون سوى تلك المشاهد الحلمية التي تتسلل إلى إيقاع السرد كي تتداخل وإياه بقصد منح فسحة للسارد، ومن ثمة كسر رتابة الحكاية ، كما تعني تلك الكتابة غير المحايدة والفاترة ، بل تعني كتابة المرايا مرايا تعكس ما يعتمل في الذات والمجتمع من تداخلات والتباسات مركبة ومناخات رمادية يغدو فيها كل شيء منذورا للحزن ، وبذلك تكون عتبة العنوان ناطقا رسميا باسم القصص .
وعليه سيحرص القاص في أكثر من محطة قصصية ، على أن يثير الانتباه إلى مجموعة من المواقف والاختيارات الذاتية والقضايا الاجتماعية ، إذ لا تكاد تخلو قصة من حالة إنسانية مضطهدة وحالمة ، وبذلك ، تشكل « أضغاث أحلام وثيقة قصصية متخيلة عن واقع ملتبس وعن أحداث مجازية وكائنات مضطربة .
نقرأ في القصة الأولى « أضغاث أحلام « ، عن تزويج القاصرات كظاهرة تعاني منها مجتمعاتنا « سمعت زغاريد في أرجاء البيت ، هرعت تستطلع الأمر مثل بقية الأطفال ، عمت الفرحة أهل الدار ، ثم ما فتئ صدى الزغاريد ينتقل إلى بقية الحي ، الجيران والأحباب ، المهم أن الطفلة ستصبح زوجة « ص 8 ، ولا تكتفي القصة بهذه الظاهرة التي تشغل البال وتثير الوجدان بل تفتح كواه على معاناة « خديجة « يتيمة وزوجة وأما لطفلين ، حيث تتعرض لأبشع المعاملات الخسيسة والسادية، ونكتفي بهذه الشواهد النصية التي تمثل هذه الذكورة السادية والعبثية والخائنة لمبادئ مؤسسة الزواج :» رأت زوجها أحمد يخونها ، هناك في المقهى المجاور للحديقة الكبيرة ، كان يجالس إحداهن ، يعبث بأناملها ويقبلها» ص8، « أخذ مالها وأغرقها في ديون لاحد لها محتال يلعب مع الكبار» ص 9، و,يتصاعد ترمومتر هذه الحيونة حدود التقزز « إنه ثمل ولن يتوقف عن قرع الباب حتى ينفتح أمامه ويرى وجهها ، الأولاد في الغرفة المجاورة عليه أن يرحل إلى الطابق العلوي وينام لوحده هناك ، يتمرغ وسط بول وقيء» ص 12 ، احتجاجا على هذه الوضعية المهينة التي تعاني منها « « ، ريثما أنتجت موقفا واختيارا في الحلم كما في الواقع ، نقرأ في ص 13:” المرأة لا تزال شابة تنضح حيوية وفتنة ، خروجها من شرنقة الزواج البائس جعلها تسترد عافيتها “ ص 13
في القصة الثالثة “ الطابور “ ، تتجسد صورة مجازية لمعاناة الإنسان في المغرب الجديد ، حيث يلتقط لنا القاص وبعينين ذكيتين ، نموذجا العامل المغربي الذي تطحنه وتستنزفه البورجوازية المتعفنة “ أنا الآن أمام باب المصنع ، إنه معمل الآجر ، العمال في طابور طويل ، الأفران مشتعلة مستعدة لتنهش أجسادنا وتلفح جلودنا المخثرة بالعرق المتدفق من مسام جسم هو أقرب إلى الهيكل “ ص22 ، ثم يتوالى الحكي ، لنكشف عن الوجه الآخر لاستغلال الإنسان وتشييئه وتسليعه :» نار الغضب شبت في صدري ، لكن سرعان ما تنبسط أسارير وجهي ، عندما أذكر ما كان يقوله لي أحد العمال في الطابور :
أتدري يا عبد الرحمن لماذا نتحمل غضب بعضنا ؟ لأننا خلقنا من طين ، نحن وهذا الآجر سيان ..» ص23
في المحطة القصصية الرابعة ، « العجوز « ، تندلق ذاكرة السارد بماضيها البعيد الذي يحيل إلى شيخ عجوز تربطه علاقة حلول ب»كرمة « « تلك الشجرة الوارفة التي طالما استرخى تحت ظلها مستلقيا على ظهره « ص27 ، ثم أنه “ هو وحده يعرف تفاصيلها وجذورها “ هو وحده يعرف تاريخها .. لا أحد يدري من أين حصل عليها “ ص27 ، هذه العلاقة الحلولية وصلت إلى حدود الارتباط الواحد بالحياة “ لم يعد للكرمة ذكر بعد وفاته .. عندما غادر لم يعد أحد يهتم بها أو حتى يأبه لوجودها “ ص27 ، لنصل بعدها إلى المحطة الحساسة في هذه القصة وبؤرتها الحامية ، ذلك أن السارد لن يعدو أن يكون شبها لهذا العجوز أو هو نفسه ، نقرأ في مسك ختام القصة : “ عندما أستحضره الآن بعد كل هذا العمر أقول مع نفسي : أكيد هناك شيء من الشبه بيني وبين ذلك العجوز .. أو لعلني كنت العجوز نفسه “ ص32 ، إن السارد هنا يمثل حياته كما يراها من خلال مرايا متعددة بكل التباساتها وانفصاماتها وحلمها .
في المحطة السابعة ، “ عزلة “ ، نقرأ قبل أن تسدل القصة ستارتها :” لن يعود إلى ذلك المستنقع عند مشغله ولا لقبو مسكنه .. سيبحث عمن يحقق معهم مشروع العصابة والعباءة والسياق ليقولوا جميعهم شعرا “ ص 43
إن هذا المقطع الذي اقتطفناه من الذيل يجلو بموضوع موقف واختيارات ذاك الشاب الذي قرر بعد معاناة مع اليتم والوحدة والغربة والسكن غير اللائق مع والدته فوق السطوح ، علاوة على عمله الشاق في شركة “ المعلم بلعيد القماش “ ، فهو “ لم يعد يخلق لمثل هذه الأشغال ، يريد لحياته أن تكون غير عادية مليئة بالمفاجآت والمتاهات والنساء والأحلام “ ص 42، وهذا الحلم ، سيتحقق بطلب اللجوء إلى مجموعة من أقرانه بقصد تكوين عصابة ، بقصد تحقيق ما يشبه أضغاث الأحلام ، وهذا يبرره الهروب من العنف إلى العنف ، بهذا التحول الارتكاسي .
في المحطة القصصية الثامنة ، “ متاهة “ ، تتحرك وتتنفس هذه التجربة في فضاء مغلق خالص ، بكل سخونته وأشغاله الشاقة والمتعبة ، وإذا أن هذه القصة تحكي عن “ باعلي “ العامل بأحد الحمامات ، فهذا يعني أنه مرتبط بهذا الفضاء الذي ينهكه يوميا ، وحتى يهرب منه ، يلتجئ إلى “ السبسي “ والحكي “ يتناول السبسي والمطوي ثم يشرع في تعديل مزاجه بال”كيف” .. يحكي عن موطنه .. عن جذوره على جنبات نهر زيز وواحات النخيل “ ص 46
كما أن ثمة انكشافا للغطاء عن شريحة اجتماعية في الكتابة القصصية ، والتي تعاني في صمت ، وفي فضاءات تستنزف قواها في غياب أي رقيب أو ضمير، في هذا الوطن الصاخب والثري بالممنوع والمسكوت عنه.
حول الكتابة القصصية في مجموعة « أضغاث أحلام « ، نسجل احتفاء القصص بأبعادها المحلية على مستوى أمزجة شخوصها ،وعلى مستوى الفضاءات « قرن الزياش ، قبيلة آيت بويحيي ، الخاوا «، بيد أن هذه المحلية ، ريثما يتم خرقها ليحضر ما هو كوني ومشترك بين الشخصيات وكذا حضور التعدد اللغوي عبر انتهاك نقاوة اللغة ، والتحرر من اللغة الرسمية « بغيت نكمل معاك ما بقى من عمري ، الله ايرحمو ، شكون يقدر ينساك ، اسخون .. اطلق السخون ، «، ولا ريب أن هذا التهجين والتعدد اللساني ، من شأنه تكسير رتابة السرد ، وفتح شهية التلقي .
كما أن القارئ قد يلاحظ حضورا لافتا للحذف الطوبوغرافي ،ونعني به الحذف الذي يضعه القاص بين جملتين كما في كل قصص هذه المجموعة ، وهذا من شأنه إشراك المتلقي وتوريطه إيجابيا في فعل القراءة وكتابة نصه الخاص به ، بدليل أن من عادة القصة القصيرة أنها لماحة وغمازة وتبطن أكثر مما تصرح ، بالإضافة إلى أن هذا الحذف قد يدفع إلى تقديم معاني جديدة على اعتبار أنه لا يوجد معنى حقيقي في النص .
وتستحضر القصص مكون السخرية السوداء ، بقصد نقد الواقع والتهكم عليه ، ومن ثمة تعريته ، في غمرة تكلس اقتناص العين التي غالبا ما يحولها القاص الى مجهر لاقتناص المفارقات والتناقضات التي تولد هذه السخرية المتهكمة والموجعة في نفس الآن.
في مسك الختام ، « أضغاث أحلام « تجربة قصصية حالمة وكاشفة عن فظاعة هذا الواقع ومرارته ، وهذه هي قصص القاص والشاعر محمد حماس ، وهذه بعض من أضغاث أحلامه المسكوت عنها ، وهذه شخوصه الهامشية والمهمشة التي رافقتنا على مدة محطات قصصية ، والتي ساهمت في إغناء وتنويع المشهد القصصي عبر تأسيس مغامرة قصصية قصيرة تروم استثمار مكوني الحلم والبوح عما يختزنه هذا الواقع من قضايا وأصحاب لهذه القضايا .


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 08/09/2017